أسئلة الثقة الهشة بين المواطن والحكومة

أسئلة الثقة الهشة بين المواطن والحكومة
الثلاثاء 30 مارس 2021 - 00:09

إبان ملحمة تدبير الحكومة للأشهر الأربعة الأولى من زمن كورونا، تحدث كثير من المهتمين والمثقفين عن بوادر عودة الثقة بين الدولة والمجتمع، واعتبر البعض منهم وباء كورونا حدثا مفصليا له ما قبله وما بعده، كما طالب البعض الآخر باستثمار تلك الملحمة لإعادة تأسيس الثقة بين الدولة والمجتمع على أسس متينة حتى تكون قادرة على الصمود أمام التقلبات ونَوَائب زمن اللايقين، خصوصا وأن مؤشرات الثقة كانت إيجابية جدا؛ فقد اعتبر 74 في المائة من المغاربة أداء حكومتهم جيد جدا، حسب شبكة “الباروميتر العربي” البحثية.

كان لتلك العودة أبطالها، وأغلبهم من أطر وأعوان قطاعي الداخلية والصحة، وقد كانت خرجات بعضهم حديث المجالس الافتراضية وغيرها، “القايدة حورية” نموذجا. كانت اللحظة مثالية واستحق معها المغرب الإشادة من المنظمات الدولية، بل ذهب الانبهار ببعض الساسة الفرنسيين إلى دعوة الحكومة الفرنسية إلى الاستفادة من التجربة المغربية؛ فقد خاطب المعارض اليساري ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon) زملاءه في الجمعية العمومية الفرنسية بالقول: “يجب أن نقتدي بالتجربة المغربية في تدبير أزمة كورونا (…) أنا فخور بالمغرب موطن ولادتي، وهو يستحق إعجابكم”.

أقل من عام بعد تلك الملحمة، اجتاح هشتاغ “أنقذوا الأساتذة في المغرب” (protect teachers in morocco) مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن تعرضت مظاهرة لفئة من الأساتذة لقمع “استثنائي” في الأسبوع الماضي، حيث شارك أشخاص لا ينتمون إلى الأجهزة الأمنية في تعنيف الأساتذة المحتجين. فرغم اعتقال معنف الأساتذة وفتح الجهات المختصة لتحقيق في الموضوع لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات القانونية اللازمة، إلا أن ما حدث أساء كثيرا إلى صورة المؤسسات المعنية.

في أقل من عام واحد إذَنْ، اسْتَنْزَفت تظاهرة لفئة من الأساتذة جزء من رصيد الثقة بين المواطن والحكومة، بعد مواجهتها بعنف لا مشروع. فهل كانت الثقة بين المواطن والحكومة هشة إلى هذا الحد حتى ينقلب الحال إلى نقيضه في أقل من عام؟

الهشاشة والثقة الهشة

يعتبر مصطلح الثقة من بين المصطلحات التي يصعب تحديد معناها؛ إذ لا يمكن الإحساس بها إلا عند فقدانها، فلا ننتبه إلى وجودها من عدمه إلا بعد أن يحصل ما يفيد فقدانها. فالثقة حالة نفسية بموجبها يختار المرء بشكل طوعي أن يكون في وضعية ضُعْف (vulnérabilité) وتحت رحمة نوايا وتصرفات من يضع فيهم ثقته، منتظرا أن تكون نواياهم وتصرفاتهم في مستوى ما كان يتطلع إليه. ويزداد منسوب ثقته بهم كلما كان تصرفهم في مستوى ما هو منتظر ويتضاءل في حالة العكس، كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين.

في أبحاثه حول الثقة بين الدولة والمجتمع، خلص الباحث دونيس روسو (Denise Rousseau) إلى أن منسوب الثقة متناسب (proportionnel) مع منسوب الهشاشة الاجتماعية والرأسمال الاجتماعي؛ ففي دول الرفاه الاجتماعي يكون منسوب الثقة عاليا بين مكونات المجتمع وبين المجتمع والدولة والمواطن والحكومة، أما في الدول التي تنخرها الهشاشة الاجتماعية، فإن منسوب الثقة يكون ضئيلا إلى منعدم. فالهشاشة الاجتماعية تحد من قدرة المواطن على التفاعل الإيجابي مع تعقيدات العلاقة بكل مكونات محيطه، وتخلق لديه حالة من اللاأمن والأحاسيس السلبية تجاه تلك المكونات.

أما صاحب كتاب “نهاية التاريخ” المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما (Fukuyama)، فقد قدم تحليلا للعلاقة الجدلية بين الثقة والهشاشة؛ ففي أحد أهم كتبه إنسانية وانفتاحا، كما أشار إلى ذلك مترجما كتاب “الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي”، أكد فوكوياما أن أثر السياسات الليبرالية والهشاشة وتعزيز الأنانية والفردانية وتغليبهما على الصالح العام من أهم أسباب فقدان الثقة داخل المجتمعات. وللخروج من هذه المآزق التي تهدد استقرار الدول وحتى دوام بعضها كما تهدد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للشعوب، يدعو فوكوياما إلى العمل على خلق التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية وبناء المؤسسات الاجتماعية الوسيطة وتعزيز الرأسمال الاجتماعي.

في الاتجاه ذاته، أشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) في تقرير لها برسم سنة 2019 حول الإدارات العمومية إلى أن الثقة في حكومات الدول الأعضاء في المنظمة عادت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2008، وذلك بسبب ارتياح المرتفقين لخدمات وأداء الإدارات العمومية بعد أن مكن إصلاح القطاع العام من أن تكون الحكومات أكثر انفتاحا ومسؤولية والتزاما.

ويشير التقرير إلى أنه حسب مؤشر كالوب ((Gallup World Poll انتقل مؤشر الثقة في الحكومات من 42% سنة 2016 إلى 45% سنة 2018 وهو المستوى الذي كانت عليه قبل الأزمة المالية عام 2008، وبمقارنة مستوى الثقة في سويسرا 70% بمستوى الثقة في اليونان 20% تتضح العلاقة بين مستويات الهشاشة والثقة في الحكومات. فالهشاشة الاجتماعية التي نتجت عن السياسات التقشفية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان جرفت معها رصيد الثقة بين الشعب اليوناني والحكومة ومؤسسات الدولة اليونانية.

حالة الثقة بين المواطن والحكومة بالمغرب

تعتبر العلاقة بين المواطن المغربي والسلطة أحد المداخل الأساسية لتناول سؤال الثقة بين الدولة والمجتمع وبين المواطن والحكومة، غير أن الإحاطة بكل جوانب تلك العلاقة ليست بالأمر الهين، بل هي ورش مفتوح في حاجة إلى المزيد من المساهمات والأبحاث في مختلف تخصصات العلوم الاجتماعية. يقول عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي في مؤلفه “المغرب العربي وقضايا الحداثة”: “ينمحي المغربي أمام السلطة تارة، ويتآلف معها تارة أخرى. ومن حيث كونه مسالما ومحبا للمظاهر، يغدو جافا وصامتا حين تفاجئه عاصفة الأحداث، وحين يكثم غيضه تراه يشبه صخرة نحتتها جبال الأطلس. أما حين يثور فإنه يكنس كل ما يعترض طريقه”.

فتمثلات السلطة عند المواطن المغربي تتراوح بين السلبي والإيجابي ويمكنها أن تنتقل من السلبي إلى الإيجابي في كل لحظة وحين، والعكس صحيح. فبالإضافة إلى الهشاشة الاجتماعية التي يرزح تحتها قسم كبير من المغاربة، لا يسمح عدم إلمام كثير منهم بدور ووظيفة المؤسسات والعلاقة التي يجب أن تربط بينها وبين المواطنين، بتأسيس الثقة في المؤسسات على أسس متينة. فالثقة تقتضي من المؤسسات المعنية معالجة الاختلالات الوظيفية (les dysfonctionnements) والتواصل باستمرار مع المواطنين لتبديد سوء الفهم الكبير كي يتملكوا مؤسساتهم.

في دراسة للمعهد المغربي للسياسات حول مؤشر الثقة سنة 2020، أشار أعضاء البرلمان الذين تم استجوابهم في هذه الدراسة، إلى أن نقص التواصل المؤسساتي من قبل البرلمان يحول دون إحاطة المواطنين بالجهود الفعلية للنواب في مناقشة القوانين والتشريعات، وقد وَلدَ هذا الوضع بدوره تصورا مفاده أن النواب ليسوا سوى شرذمة من الساعين وراء الريع. فالمعرفة القوية بدور ووظيفة المؤسسات تعزز الثقة في مؤسسات الدولة وتقود المواطنين نحو مشاركة سياسية أكبر من خلال القنوات السياسية الرسمية، تلك المشاركة التي تخلق بدورها تماسكا اجتماعيا أقوى.

فغياب التواصل الفعال والناجع بين مؤسسات الدولة والمواطنين يؤدي إلى جهلهم بدور ووظيفة تلك المؤسسات، وبالتالي لا يمكنهم مساءلتها بشأن جودة الأداء والخدمات، فتتولد لديهم حالة من اللاثقة والتوجس والريبة من عمل المؤسسات. فوفقا للدراسة المشار إليها، فإن مستويات ثقة المغاربة في مؤسساتهم منخفضة جدا، فلم يعبر عن ثقتهم في الحكومة سوى 23% من المستجوبين.

على سبيل الختم

تبدو حالة ثقة المغاربة في حكومتهم في غير مستوى تاريخ مؤسسات تدبير العيش المشترك وضمان دوام الدولة والأمة المغربية، ولا في مستوى القيم الثقافية التي يتقاسمها المغاربة، ولا في مستوى الاستثنائية الوطنية “تمغربيت”. والراجح أن البلاد في حاجة إلى تجديد العقد الاجتماعي بما يضمن بناء دولة الثقة، عقد اجتماعي جديد قادر على امتصاص الصدمات (Résilient)، محفز على الانخراط الفردي والجماعي في المجهود التنموي من أجل خلق الثروة وتوزيعها بالشكل الذي يُغْني رصيد الثقة بين الدولة والمجتمع ويعزز قيم تَمْغْرَبيتْ.

‫تعليقات الزوار

2
  • L autre
    الثلاثاء 30 مارس 2021 - 06:16

    سؤال الثقة يجب ان يذهب في اتجاهين نحو الاحاطة الشاملة: ما هو مستوى ثقة الشعب في مؤسساته؟ و ما هو مستوى ثقة المؤسسات في الشعب؟ بالنسبة للشق الثاني من السؤال، انا من الذين اصبحوا شبه مقتنعين بان المغرب يمشي بمنطق المواطن متهم حتى تثبت براءته. اقول ذلك بناءا على سلوكيات الدولة مثلا وليس حصرا في حجم الاوراق الثبوتية التي يطالب بها المواطن اثر طلبه لاي خدمة ادارية. وكان لسان حال المؤسسات يقول له: انت كاذب طالما لم تثبت صدقك. خذ ايضا ممارسة مراقبة السرعة على الطرقات: شرطي او دركي يختبئ وراء شجرة مايكل راداره لضبط المخالفين مؤشر كبير على انعدام الثقة في المواطن. بكلمة هناك شيء من التربص في تعامل الحكومة مع الشعب. هل هذه حكومة تثق في شعبها؟ وهل يؤدي ذلك الى كسب ثقة متبادلة في اخر المطاف. اضع السؤال على طاولة المهتمين والمعنيين.

  • agrzam
    الثلاثاء 30 مارس 2021 - 11:41

    أعتقد بأن الثقة كما جاء على لسان المتدخل الأول يجب ان تكون في الإتجاهين، فبناء الثقة يجب ان يكون مشتركا (Une confiance coconstruite) لكن الدولة هي التي لها من الإمكانيات ما يمكنه ان يمكن من إطلاق عملية البناء المشترك للثقة. فحينما يؤكد الدستور على أن الإدارة توضع رهن إشارة الحكومة، فهذا يعني أنه يمكنها من كل الأدوات والإمكانيات لإطلاق عملية البناء…لذلك فالكرة في مرمى مؤسسات الدولة وليس الشعب.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات