الدروس المستفادة من ''البلوكاج الحكومي''

الدروس المستفادة من ''البلوكاج الحكومي''
الأربعاء 22 مارس 2017 - 06:52

أثار مسار المفاوضات الحزبية من أجل تشكيل الحكومة و طبيعة الشروط السياسية التي صاحبتها عدة تساؤلات حول مسلسل مأسسة التناوب الديمقراطي، عدا عن مدى مصداقية النتائج الانتخابية. لقد تميزت هذه المفاوضات بالتعقد و تأثرها بضبابية المشهد الحزبي الذي يصعب فيه التمييز بين الأحزاب بناءا على مرجعيات إيديولوجية. إن أهم مؤشرات أزمة الأحزاب المغربية هو ضعف التزامها الإيديولوجي و طبيعة تصورها للمشاركة في الحكومة و التي لم تساهم إلا في جعل مسار المفاوضات بين الأحزاب يشبه مسار صخرة سيزيف بسبب شروط المشاركة، وبذلك ارتقت هذه الملابسات بالأزمة الموسومة بـ ”بالبلوكاج الحكومي ” إلى محطة مفصلية يجب الوقوف عليها من أجل استخلاص عدة ملاحظات تشكل مداخل لفهم و تفكيك أبعاد أزمة تشكيل الحكومة، وهو ما سنحاول مقاربته من خلال التركيز على عنصرين تحليلين حتى نتمكن من فهم و استيعاب دروس ”البلوكاج الحكومي”.

أولا : هل الحل الدستوري فعال لإنهاء أزمة ” البلوكاج الحكومي ” ؟

لقد شكلت أزمة تشكيل الحكومة تمرينا سياسيا لمساءلة الدستور الجديد للمملكة وحدوده، فكشفت جانبا من الفراغ الدستوري في تدبير العلاقة بين السلطة الملكية ومؤسسة رئيس الحكومة، حيث ترك الفصل 47 الباب مفتوحا أمام التأويل الذي يسير في اتجاه تكريس تفوق المؤسسة الملكية، فكان اللجوء الملكي إلى الفصل 47يدخل ضمن الاختصاصات الدستورية لهذه المؤسسة؛ حيث يُعَيَّن رئيس الحكومة من الحزب الذي يتصدر نتائج الانتخابات التشريعية، بموجب هذا الفصل. وبالرغم من تغيير طريقة تعيينه إلا أن الإصلاح الدستوري أبقى على مفاتيح اللعبة السياسية بين يدي الملك وذلك بإعطائه حق اختيار الشخص المناسب من الحزب الفائز بالانتخابات، كما أن الدستور خول للملك تقاسم سلطة تعيين وإعفاء الوزراء مع رئيس الحكومة.

إن سلطات الملك تفوق بشكل موسع سلطات رئيس الحكومة لأن طبيعة الحكم القائم بالمغرب هي ملكية تنفيذية قاعدتها الذهبية ” العرش المغربي ليس أريكة فارغة “، مما يدل على أن الملكية الدستورية وفق الصياغة الغربية مختلفة عما هو معمول به في المغرب. ذلك ما أكدته في الماضي تصريحات الملك الراحل الحسن الثاني عندما قال: ” إن لكل شعب أخلاقه ومعتقداته وآرائه ولا وجود لطريقة حكم عالمية. إذا التزمنا بالمعنى الدقيق للتعبير فإن ملكية دستورية هي ملكية قائمة على دستور قدم إلى الشعب فقبله عن طواعية “.

إن التمعن جيدا في صياغة الفصل 47 يفضي بنا إلى الإقرار بأنه بقدر ما يحدد طرق تعيين رئيس الحكومة إلا أنه ظل مفتوحا مع ذلك أمام مجموعة من التفسيرات المتناقضة و المتضاربة، ولاسيما عندما تم إبعاد بنكيران و تعيين سعد الدين العثماني مكانه. فمن أهم أوجه قصور مضامين هذا الفصل بصفة خاصة، و الدستور بصفة عامة، هو كونه لم يتطرق صراحة للحلول الدستورية الممكنة في حالة فشل تشكيل الحكومة. لذلك فإن فعالية اللجوء إلى هذا الفصل، و الدستور عموما، في حل أزمة ” البلوكاج الحكومي ” ترتبط بمدى قدرتهما على استباق الحلول و احتواء هذا النوع من الأزمات الذي يعتبر محكا لفعالية الإصلاح الدستوري لسنة 2011. لأنه كما عبر عن ذلك سابقا دومنيك روسو ” ” السياسة لا تموت بالدستور ” بل العكس يعتبر هذا الأخير امتدادا لها لأنه، أي الدستور، هو الذي قد يعطي معنى للسياسة و يساهم في مأسسة ممارسة السلط وفق تأويل يجعل من قواعد الدستور المكتوب مرجعية لعمل المؤسسات السياسية. إن التعلق بالدستور من أجل حل إشكالية ”البلوكاج الحكومي ” يشكل اليوم المرحلة الحاسمة في ترسيخ الاعتقاد بضرورة الالتزام بقواعد الشرعية الدستورية، حيث تتأسس الممارسة السياسة في إطار احترام مقتضيات الدستور.

بيد أن هذا الأمر لا يمنعنا من الإقرار بأن فهم الأسباب التي تقف خلف إبعاد بنكيران غير قابلة للاختزال في قراءة قانونية محضة للفصل 47 بل الأمر أعمق من ذلك، ويتعلق بطبيعة اللعبة السياسية بالمغرب التي تبقى رهينة الكواليس و ما يتحكم فيها من قوانين غير مكتوبة، و التي من غير الممكن فهمها بدون تفكيك ميكانيزمات العلاقة الجدلية بين القانون و السياسة. هذه العلاقة التي لم تساهم إلا في تعقيد مسار تنزيل دستور 2011 و إخضاعه لتأويل محافظ لم يسرع من وتيرة دمقرطة النظام السياسي المغربي.

ثانيا : البراغماتية السياسية لحزب العدالة و التنمية.

كان تعاطي هياكل و أعضاء حزب العدالة و التنمية مع قرار إبعاد بنكيران متسما ببراغماتية سياسية متجسدة في قبولهم تعيين سعد الدين العثماني خلفا له مع الحفاظ على نفس الشروط التي تسببت في تعثر المفاوضات.

لذلك يجب الإشارة إلى أن حزب العدالة و التنمية تبنى منذ قبوله بشروط اللعبة السياسية في بداية التسعينات إستراتيجية البراغماتية السياسية التي انعكست إيجابا على أداء مرشحي حزب العدالة والتنمية، مثلما فرضت عليه تبني مبدأ التدرج في المشاركة وولوج الحقل السياسي. حيث نجد تفسيرا لذلك من خلال انتخابات 2002 عندما فضل الحزب عدم تغطية جميع الدوائر الانتخابية مفضلا الاكتفاء بتغطية 56 دائرة من مجموع 91 دائرة. وذلك تفاديا ” لفوز انتخابي في جل الدوائر تكون نتائجه السياسية سلبية على الحزب” حسب تعبير عبد الإله بنكيران . و لقد أسهمت هذه الواقعية السياسية في تمكين الحزب من تجاوز مجموعة من الأزمات لاسيما تلك التي أعقبت أحداث 16 ماي بالدار البيضاء سنة 2003، وعلى بناء توافق ضمني مع المؤسسة الملكية التي يعترف حزب العدالة والتنمية ببعدها الديني؛ أي “إمارة المؤمنين”.

لقد حاول حزب العدالة و التنمية أن يكيف تصوراته السياسية و طرق اشتغال أجهزته الحزبية مع إكراهات الحقل المؤسساتي و متطلبات السوق السياسية، الأمر الذي ساعده على اختراق هذه الأخيرة و تصدر قائمة النتائج الانتخابية في عدة مدن كانت بالأمس معقلا انتخابيا لأحزاب الكتلة الديمقراطية مثل الإتحاد الاشتراكي و حزب الاستقلال، هنا لا بد من الإشارة إلى أهمية سياسة القرب التي نهجها حزب العدالة و التنمية من خلال حضوره الاجتماعي المكثف بالأحياء الفقيرة أو الهامشية لهذه لمدن. فالحزب مدعوم في هذا المجال بذراعه الدعوي والتعبوي، وهنا نقصد حركة التوحيد والإصلاح التي سهلت على مرشحي العدالة والتنمية اختراق هذه الأحياء عن طريق الخدمات الاجتماعية المقدمة للمحتاجين. ويعتبر هذا المؤشر جديرا بالتحليل لشرح أسس الإستراتيجية الانتخابية لهذا الحزب، ثم كذلك فهم أحد أهم العوامل المفسرة لفوزه الانتخابي.

لقد كان رهان حزب العدالة و التنمية هو إعطاء صورة سياسية عن الإسلامي السياسي المعتدل مخالفة للصورة التي ارتبطت بجماعة العدل و الإحسان، و ذلك من خلال تأكيدهم على أهمية الدور السياسي للمؤسسة الملكية. و هذا ما ترجمته العديد من تصريحات بنكيران على غرار قوله بأنه » لا يتقاسم السلطة مع أحد.. الذي يحكم البلاد هو جلالة الملك، وهو من يملك السلطة وهو رئيس الدولة.. وأنا كرئيس حكومة أمارس صلاحياتي.. والمؤسسة الملكية كلها يحكمها شخص واحد وبها مخاطَب واحد بالنسبة لنا هو جلالة الملك.. وهو الذي يتصل بنا ليبلغنا بنيته وآرائه، ونحن كذلك نتصل بجلالته». تتضح لنا جيدا براغماتية حزب العدالة و التنمية في الشكل التي يرسم به علاقته بالمؤسسة الملكية و كذلك الطريقة التي يفسر بها دوره السياسي ”كمدافع عن العرش”، لأن الهدف الأساسي بالنسبة لهذا الحزب هو القطع مع تلك التصورات السياسية التي تقرن بين الإسلام السياسي و أسلمة المجتمع ثم إحداث ثورات سياسية من أجل الوصول إلى السلطة.

لذلك يجب فهم المنطق المحدد لقبول أعضاء حزب العدالة و التنمية لشروط اللعبة السياسية و المؤسساتية انطلاقا من طبيعة انعكاسات ذلك على الاعتراف بهم كفاعلين سياسيين. لذا فإن بلوغ هذا الهدف كان قائما على تصور براغماتي لمفهوم المشاركة السياسية يخول لحزب العدالة و التنمية الفرصة لاستيعاب قواعدها و التأقلم مع إكراهاتها. ذلك لأن الحقل السياسي هو حقل تنافسي بامتياز يتطلب أهلية سياسية من طرف الفاعلين لكي يتمكنوا من التموقع فيه بشكل يسمح لهم بصنع القرار أو التأثير على صنعه. لهذا لا يمكن تحليل و فهم لماذا تبنى حزب العدالة و التنمية براغماتية سياسية و قيم معتدلة خارج هذه الإطار الذي يعرف بالحقل السياسي.

إن الإقرار بأهمية البراغماتية السياسية و الالتفاف حولها تعكسه أيضا كيفية تمسك حزب العدالة و التنمية بمبدأ المشروعية الانتخابية طيلة كل مراحل المفاوضات التي أجراها بالأخص مع حزبي التجمع الوطني للأحرار و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. لقد حاول حزب العدالة أن يستثمر سياسيا فوزه الانتخابي من خلال تأكيده المتواصل على أنه حاصل على تأييد شعبي و لا يمكنه أن يقبل بشروط تتناقض مع المبادئ التي حصل بفضلها على هذا التأييد. ويوضح هذا الأمر إلى حد ما مكانة الفوز الانتخابي داخل الإستراتيجية السياسية لحزب العدالة و التنمية و كذلك طرق تحويله لهذا الفوز إلى رأسمال سياسي يقوي من قدرته أيضا على التموقع داخل المؤسسات الدستورية و هنا نخص بالذكر مؤسستي الحكومة و البرلمان.

بيد أن التساؤل الذي قد يشكل مادة خام للباحثين في مجال العلوم السياسية هو إلى أي حد سيظل هذا التمسك بالمشروعية الانتخابية و طرق استعمالها السياسي متوافقا مع خصوصية النظام السياسي المغربي القائمة على الاعتراف بالملك كأمير للمؤمنين و ممثل للشعب بموجب مشروعية دينية و تاريخية؟

ويظل الجواب عن هذا السؤال رهين بمستقبل التعايش السياسي بين حزب العدالة و التنمية و المؤسسة الملكية.

*باحث في العلوم السياسية.

‫تعليقات الزوار

4
  • ع الجوهري
    الأربعاء 22 مارس 2017 - 11:05

    الدرس الواقعي هو تعديل بعض بنود الدستور وتغيير طريقة الإقتراع
    الدرس الغير واقعي أن المخزن يعلو ولا يعلا عليه و أن الشعب سيضل مثل قطيع الغنم يهش عليه الراعي بعصاه كي يتحرك وشكرا

  • 3babo
    الأربعاء 22 مارس 2017 - 13:26

    لهذا اتمنى بل وأطالب أن يُكتب فوق كل منبر عربي وعلى غلاف كل كتاب عربي وعلى الصفحة الأولى من كل صحيفة عربية وعلى كل قلم وفم عربي هذا الهتاف أو الإنشاد أو التمجيد:

    “أيها الكذب البليد، أيها النفاق الفضاح المفضوح، أيها الغباء الجاهل، أيها الجهل الغبي، أيها الصهيل العقيم البذيء، أيها السقوط، أيها العار الفكري والنفسي والأخلاقي والفني والتعبيري.. إن كل المجد والسلطان لك..”.

    — عبد الله القصيمي

  • الفكر العادل ...
    الأربعاء 22 مارس 2017 - 13:31

    …مثل القضاء العادل يربط الأحكام بدلالة الألفاظ.
    من الإشكالات الكبرى للفكر عندنا عدم دقة الإصطلاحات ، فكثير ما نتحدث عن الديموقراطية دون أن نحدد مضامينها ، فإذا قلنا هي حكم الشعب ، نلاحظ أن الوقائع تدحض هذا المنطوق لأن ديموقراطية أثينا كانت تستثني ثلثي الشعب من العبيد ، وهو ما بقي مستمرا إلى اليوم حيث تحكم الأقلية المنتخبة (بفتح الخاء) الأغلبية المنتخبة ( بخفض الخاء) .
    لقد تم حصر الديموقراطية في الإنتخابات التي تحولت إلى مبارزة لا تختلف عن المبارازات الرياضية مثل كرة القدم التي يكون فيها لكل فريق أنصاره.
    لقد بدأ المفكرون في الغرب يبرزون عيوب الإنتخابات التي صارت تخيف بسبب صعود اليمين المتطرف والزعماء العنصريين أمثال الرئيس الأمريكي ترامب ، كما صارت الإستفتاءات مخيفة كذلك بسبب إلزامها حكام بريطانيا مغادرة الإتحاد الأوروبي.
    وقس على ذلك إصطلاح "المرجعية الإسلامية " أو "الإسلام هو الحل" ، أو "الخلافة الراشدة" هل المقصود إسلام وخلافة السنة أو الخوارج أو إسلام وإمامة الشيعة ؟.
    وهل المقصود تطبيق أحكام الشريعة من قطع الرؤوس و الأيدي بالسيف والرجم بالحجر والجلد بالسياط أم ماذا ؟

  • الفكر العادل ... 2
    الأربعاء 22 مارس 2017 - 14:26

    … مثل القضاء العادل يربط الأحكام بالنوازل.
    من تابع ضيف الأولى الذي استضاف فيه التيجيني النقابي المخارق يكتشف أن المشكل في الأشخاص ، حيث قدم شهادة في نجاعة رئاسة جطو للحكومة بالنسبة للحوار الإجتماعي.
    والسيد جطو من اختيار الملك و ليس من أختيار صناديق الإقتراع.
    لقد سبق للحسن الثاني أن تحدث في كتابه " ذاكرة ملك " عن خطورة وأهمية وظيفة الوزير الأول .
    ليس من المصلحة أن يكون خلاف أو تنافر بين الملك المئتمن على أسرار الدولة و رئيس الحكومة المنتخب.
    وبما أن الإنتخابات لا يشارك فيها كل الشعب ، وبما أن الحزب الأول فيها لا يمثل إلا أتباعه وليس كل الهيئة الناخبة ، و بما أنها تأتي بالمفاجئات فمن الأفضل أن يكون تعيين رئيس الحكومة من سلطات الملك ، وليس من سلطة صناديق الإقتراع.
    لا يختلف الملك مع بن كيران في وجوب محاربة العفاريت والتماسيح ، ولكن يختلف معه في مكان وجودهم ، فالملك يرى أنهم في الخارج بينما بن كيران يرى أنهم في الداخل.
    ولا يختلف معه في وجوب محاربة الفساد ولكن يختلف معه في المنهجية ، فالملك خصص خطابا طالب فيه بإصلاح الإدارة للحد من الفساد ، والسيد بن كيران لم يكشف مقاصده.

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال