العيد الكبير

العيد الكبير
الإثنين 27 يوليوز 2020 - 23:30

العيد الكبير، هكذا يسمى بالنسبة لفئات واسعة من المواطنات والمواطنين في بلادنا، هذه هي الصيغة التي نشأنا عليها، وتتردد على مسامعنا كل عام، ونشعر معها أن الأمر يتعلق بمناسبة غير عادية، مسكونة بالكثير من المعاني والدلالات، ومفعمة بالكثير من الأشواق والإشراقات، التي يحسن بنا أن نتوقف عندها لنتذكرها، ونعمقها ونجددها كل عام، ما دمنا نتحدث عن مجتمع إسلامي وعن عيد ديني، يعود إلينا كلما حان وقته، لتعود معه معانيه ومقاصده وأشواقه، كما تعود معه أسئلته التي يجب أن تتجدد لتتلاءم وتلك المعاني، وتتساوق وهذا الزمن الجديد.

نسميه الكبير، لأنه أكبر أعيادنا الدينية، ويقابله عيد الفطر الذي نسميه بالعيد الصغير، وللكلمات دلالاتها، حتى ونحن لا نتوقف عندها لنراها، وما أحوجنا اليوم إلى استلهام مقاصد أعيادنا، ومناسباتنا الدينية، بعيدا عن كل نقاش في غير محله أو اختلاف لا يفيد. الأضحى عيد كبير، لأنه مقرون بالتضحية، ومرتبط بالعطاء الجميل، ومسكون بفيوضات الجمال والجلال، فالخليل إبراهيم عليه السلام بدا مستعدا لتقديم ابنه قربانا لله، وإسماعيل بدا مستعدا ليكون الضحية، ولنا أن نتصور قيمة هذا الإيمان الذي يحمل صاحبه على التضحية بأعز ما يملكه رجل، ظل لسنوات طوال ينتظر مولوده الأول، حتى إذا أصابه الكبر، وحضر المولود وشب أمامه وترعرع، طولب بذبحه، ولنا أن نتصور أيضا نبل هذا الفتى ومستوى حلمه وخلقه، كما لنا أن نتصور أن إبراهيم عليه السلام لم يدر في خلده أن ابنه سينجو، وأن كبشا سيحل مكانه ليفتديه، كان مقبلا على ذبحه طاعة وامتثالا.

الأمر يتعلق بامتحان كبير وبابتلاء عظيم، خرج منه الخليل منتصرا، واستحق أن يحشر في عداد المحسنين، بلغة القرآن الكريم، في سورة الصافات: (سلام على إبراهيم ، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين)، بما أبان عنه، هو وابنه، من استعداد كامل للتضحية والصبر الجميل، فكان درس التضحية والصدق فيها من أكبر دروس هذا العيد، ولنا أن نراجع أنفسنا في علاقتنا بهذه القيمة الغالية، التي تصنع تاريخ الأمم العظيمة، لنرى أن أكثر المسلمين اليوم لم يعودوا مستعدين للتضحية بأي شيء، لفائدة الآخرين، ولم تعد لهم رغبة في البذل من أجل الغير، وفي سبيل الله، حقيقة وصدقا. لقد تحول أمر التضحية والبذل عند الكثيرين منا إلى سلوك تاريخي قديم، ينسب إلى الأنبياء والصالحين الذين مضوا وذهبوا، لتتحول الحياة في ديارنا، وعند أغلبنا إلى أصناف من الأنانيات والذاتيات، ورعاية للمصالح الفردية والخاصة، بعيدا عن أي هم عمومي أو تطلع جماعي حقيقي، لذلك نتأخر ولا نتقدم.

ويسهل أن نلاحظ أن غياب هذا المعنى العميق والصادق للتضحية أحال هذا العيد، الذي نسميه كبيرا عند الغالب الأعم، إلى جملة مظاهر وطقوس ترتبط في عمومها بالأكل والشرب وملء البطون، وإلى تنافس محموم يخوضه المواطنون بحظوظ غير متكافئة من أجل الحصول على كبش العيد، ويترك فيه الفقراء لوحدهم ليقعوا فريسة سهلة، في يد المؤسسات المالية الجشعة التي تمدهم بقروض مذلة، كل ذلك لأن إخوانهم الأغنياء لم يتحملوا مسؤولياتهم الدينية والوطنية، ولم يلتفتوا بالشكل المطلوب إلى معاناتهم التي تتجاوز خروفا سينتهي أمره بعد أيام، ولم يفهموا أن العيد كبير بمعانيه، التي تحث على التضامن والتعاون والالتفات الحقيقي إلى الآخرين، والحرص على كرامتهم وحاجياتهم الأساس طيلة العام، فالمواطن الكامل لا يطلب الصدقات ولا يعيش على المذلة والتسول، ولا ينتظر حلول العيد ليأكل اللحم، ثم يودعه إلى العام المقبل. فماذا يبقى من العيد حين يفاخر الأغنياء بغناهم، ويزداد الفقراء حسرة على فقرهم وقلة حيلتهم. لست أدري إن كنا ننتبه إلى حقيقة هذا الشعور العميق والمؤلم، الذي يتضاعف ولا شك في هذه الأيام العصيبة التي نجتازها، إنه الشعور الذي يضطر الكثير من الفقراء إلى البحث عن كبش العيد بأي ثمن، وبأية طريقة تلافيا للمذلة وحفاظا على ما تبقى من كرامة أمام الأهل والأبناء، فلماذا يضطر الفقراء عندنا إلى شراء الأضحية وهم لا يطيقونها؟ وهل يستطيعون فعل العكس؟ هذا سؤال كبير يتردد كل عام، تماما كما يتردد كل عام، حديث العلماء والوعاظ عن سنية الأضحية وعدم وجوبها، جريا على قول الإمام مالك في الموضوع، وتبقى الأحوال على حالها.

الأضحى عيد كبير، لأننا نحن من يكبر فيه، ويجب أن نكبر، تكبر فيه عقولنا وقلوبنا وإنسانيتنا، ونجدد فيه نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الآخرين، ونحقق فيه معاني التضامن والتآخي والمواطنة العميقة. يكبر العيد بنا، ويصغر بنا، يكبر بنا حين نستوعب مقاصده ومعانيه، ونسعى إلى التحقق بها طيلة العام، ويصغر بنا حين نضيع غاياته الكبيرة ومراميه ونحوله إلى أرطال من اللحم والشحم، نباهي بها، ويصغر بنا حين نجعله مناسبة لتلويث البيئة والابتعاد عن السلوك المدني، وهلم جرا.

‫تعليقات الزوار

9
  • Hassan
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 01:30

    هذا العيد الكبير لأنه مناسبة "النهار الكبير " تجتمع العائلة الكبيرة و القبيلة أبناء و حفدة وأقارب صلة الرحم من مقاصد هذه الشعيرة . أما العيد الصغير صغير لأننا نحتفل به داخل الأسرة و الجيران . في هذه المناسبة نتزاور بال حرج من كلفة الضيافة .

  • موحند
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 07:28

    مقال جد قيم وما احوجنا الى تطبيق القيم النبيلة كالتضحية والتضامن والايخاء والنظافة.
    ولكن من يؤمن بالخرافة والشعوذة والدجل يعيش داءما عيشة القن والعبد مذلولا ومكبلا فربسة تجار الخرافة والشعوذة والدين. لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولماذا يضطر الانسان المغربي شراء الكبش بالكريدي لان تجار الدين والشعوذة والخرافة يتحكمون في عقله وقلبه وجسده. اذا لم تستطع شراء الكبش اشتري دجاجة وارنب او عصفور وتعيش هنيءا في الدنيا والاخرة.

  • مهند
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 09:26

    ابراهيم الخليل كان يرى في المنام انه يذبح ابنه اسماعيل تكررت الرئيا الى ان تحولت الى هاجس حتمي الوقوع
    اما اسماعيل كان يعلم ان اباه نبي لذا قال له افعل ما تؤمر

  • A.Z
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 10:45

    السلام…
    مقال ممتاز… تحية لأستاذنا الفاضل…

    "….. لنرى أن أكثر المسلمين اليوم لم يعودوا مستعدين للتضحية بأي شيء، لفائدة الآخرين، ولم تعد لهم رغبة في البذل من أجل الغير، وفي سبيل الله، حقيقة وصدقا. لقد تحول أمر التضحية والبذل عند الكثيرين منا إلى سلوك تاريخي قديم، ينسب إلى الأنبياء والصالحين الذين مضوا وذهبوا، لتتحول الحياة في ديارنا، وعند أغلبنا إلى أصناف من الأنانيات والذاتيات، ورعاية للمصالح الفردية والخاصة، بعيدا عن أي هم عمومي أو تطلع جماعي حقيقي"

  • انا سيد ولد آدم ولا فخر .
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 12:34

    يفاخر الناس بالصوم وبالصلاة والزكاة وبالحج مرات ومرات وليس فقط مناسبة العيد هي التي يبرز فيها هذا التفاخر وهو أمر طبيعي ولايمكن الحيولة دونه فحتى الحيوانات تتفاخر فترى الفحل يمشي بين القطيع بخيلاء وكذالك الديكة وحتى الثعلب المكار تجد سعيدا كلما تمكن من خداع أصحاب الدار وسرق الدجاج . وعليه المفاخرة فطرة ولكن بعض البشر ولا أقول كل البشر يتفاخرون ليغيضوا الفقير وهذا شيء لا أخلاقي وقميء .

  • التأويل الوارد ...
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 13:34

    … في المقال لمعاني عيد الأضحى لا يقول به الا الفقهاء و العباد المتصوفون.
    اما عامة الناس فهو مناسبة للذبح واراقة دماء الاكباش والخرفان وكل بهيمة أجاز الفقهاء التعبد بذبحها.
    من المعلوم في الفقه أن ذبح الأضحية ليس فرضا وانما هو سنة مؤكدة.
    لقد كان الذبح مناسبا في مجتمعات الرعي والترحال ومجتمعات الزراعة والاقامة في القرى الصغيرة، اما مجتمعات المدن الكبرى المعاصرة التي فرضتها خدمات المجتمع الصناعي، فان التمسك بالذبح لا يناسب الاحوال المستجدة في أشكال العمران.
    وللتذكير فان نسبة سكان البوادي في المغرب قبل 2
    1912 كانت تمثل 92 % من مجموع السكان الذي كان يقدر ب 6 ملايين نسمة.
    ونسبة سكان المدن المحاطة بالاسوار كانت 8 %.

  • Amaghrabi
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 13:43

    امر عجيب وغريب في نفس الوقت ان تذبح خروفا قربا لله سبحانه وتعالى وتاكل لحمه وشحمه وتمتص عضامه ومرقفه ,وبهذه الكيفية تدخل البهجة على ربنا ويجازيك باعظم الاجور وتستحق جنته العظيمة,فسيدنا ابراهيم حينما امره الله سبحانه وتعالى ان يذبح ابنه امره ان يضحي باغلى ما يملك وباغلى ما يحب وكانت فقط تجربة الاهية لاختبار نبيه وفداه بكبش عظيم كجزاء على طاعته لربه.اما نحن المسلمون فما قيمة تشبثنا بالاضحية التي كانت هدية لسيدنا ابراهيم ,ونحن اليوم نضحي بدون ان نحقق اي ايجابيات من هذه الاضحية بحيث اصبحت عبئا ثقيلا على الفقراء وعلى العمال وصغار الموظفين ,واصبح اليوم لا تفرق بين المحتاج حقيقة وبين المتسول عادة,هذه العادة اصبحت تشجع الناس على التسول بحيث كلما اقتربت الا وظهر مروجين لجمع التبرعات وتوزيع الاكباش على المحتاجين وبالتالي زرع ثقافة التسول حيث اصبح الانسان اذا دخل السوق اجتمع عليه المتسولون واذا جلس المقهى يمر المتسولون صفا صفا,واذا تجولت في الكرنيش متسولون صغارا وكبارا وووو فاعتقد يجب وضع حدا لما يسمى السنة الابراهيمية فهي فقدت قيمتها دينيا واجتماعيا وبيئيا

  • محمد علي السويد
    الثلاثاء 28 يوليوز 2020 - 22:43

    نعم استاذي للاسف هذا هو واقع الامة تركت القيم وتشبثت بالاشياء . انها الحداثة المادية التي تركز على الفردانية وحب الذات وتقول للنسان افعل ما تشائ ولا تسالني عن النتايج بينما روح التوحيد يقول لك الجار ثم الدار كما قالت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء رضي الله عنها … لكم ان تقارنوا بين المدرستين
    عيدكم مبارك وكل عام وانتم بخير

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين