المرشد والرئيس

المرشد والرئيس
الخميس 23 يوليوز 2020 - 19:50

كأن تونس لا تكفيها أزمتا كورونا وليبيا، ليضرم سياسيوها أزمة ثالثة بين البرلمان والحكومة ظاهرها مكافحة الفساد كما يعلن الغنوشي، وشعارها في الجانب الآخر كبح استمرار هذا الأخير في أخونة الدولة، لكن باطنها في الجانبين كما يتضح كل يوم كونها صراع كان مكبوتا فخرج إلى العلن بين سلطتين: سلطة الرئيس وسلطة المرشد، كسلطتين أصبحتا تتجاذبان بشدة تونس، بعد أن أجبرهما تسارع الأحداث على الحدود الشرقية على كشف أوراقهما والتواجه بشكل سافر لترتيب شكل استجابة تونس للتوتر الإقليمي بتراب الجار الليبي، حيث لا تترك الاصطفافات الدولية القائمة لبلد صغير كتونس يسعى إلى النأي بنفسه عن المشاكل أي هامش للحياد والسلام.

الوضع التونسي خطير جدا، وخيوطه لا يحركها الداخل، بقدر ما أنها تدار عن بعد من الخارج. إذ ليس الفخفاخ ولا عبير موسي ولا الغنوشي إلا أدوات صراع في لعبة إقليمية متعددة الأطراف أكبر منهم جميعا؛ فهؤلاء اللاعبون في الميدان ليسوا إلا منفذي خطة لاعبين كبار يقفون في الظل: ففي نظر المواطن التونسي البسيط ليست زعيمة الدستوري الحر سوى أداة للعلمانية المتوحشة وبقايا نظام بنعلي البائد، وليس غنوشي اليوم بعد أن حزب الأمر بليبيا في نظر المحتجين على رئاسته إلا أداة تحركها جماعة الإخوان الدولية وتركيا الوصية عليها. كما أن صرعة العرائض لا تعني غير تكتيكات وجولات في معركة كسر عظام رهيبة بين قيس سعيد ومن ورائه الدولة العميقة، وحركة النهضة ومن ورائها كل الالتزام الذي تدين به للإسلام السياسي.

فصحى الرئيس التونسي، وخطابه المحافظ الزاخر بحب الإسلام والعروبة لا يشفعان له لدى النهضة، ولا يحولان دون صراعه مع الغنوشي: الرجلان جمعتهما الصدفة فقط: والحركة لم تتوقع يوما قيس سعيد رئيسا، كما أنها تنتظر منه سداد قرض تأييدها له في الجولة الثانية من الرئاسيات. هما أيضا ممثلا جيلين مختلفين: أحدهما عانى السجون وتقلب في المنافي، بينما الآخر منتوج خالص لثورة الياسمين، زيادة على أن اعتداد كليهما الكبير بالنفس يمنعهما من خفض جناح السياسة لبعضهما البعض: فأيهما يا ترى منذور للنصر في هذه الحرب التي لم تعد باردة؟

يظهر الغنوشي بعلاقاته الدولية وامتدادات النهضة أكبر من أن يسعه مقعد رئيس البرلمان.

ففي نظره ونظر حزبه بتاريخه الحركي والفكري هو فوق منصب كهذا، ومن هنا يحل له أن يتجاوز صلاحياته، ويتعامل أحيانا، ويعامله أنصاره في الداخل والخارج، وكأنه هو رئيس الدولة، كاستقبال أردوغان له وعقدهما جلسة مطولة مغلقة رأسا لرأس تعقد عادة مع رؤساء دول.

لكنه في المقابل في نظر خصومه لا يصلح رئيس برلمان تونس. بلد التقاليد العلمانية البورقيبية والتحررية والعقلانية، والتي لا يستقيم في رأيهم أن يعتلي برلمانها قائد الإخوان الذي خرج من جبة التقية، وأصبح يجاهر بولائه لتركيا وللتيار الدولي لجماعة الإخوان المسلمين.

لذلك تشعر المعارضة بالاختناق والخوف من رئاسته، فيتهمونه بالتنمر والاستقواء بتركيا، ويسعون إن لم يكن إلى إقالته فلتسفيه رئاسته للنواب طمعا في أن يلحق بالفخفاخ.

بينما سعيد هو ذاك الأستاذ الجامعي الذي يتعبد في محراب الدستور يقارب دستوريا الأزمات السياسية التي تعارضه بصرامة الزاهد الذي لا يتنازل عن صلاحياته.

الرئيس الذي يحرص لنفسه على صورة المثقف المتشبع بالوطنية التونسية بخلفيتيها: القومية العربية، والدينية الإسلامية المستنيرة، فيجد نفسه هو المدعوم بالشرعية الشعبية في خضم تبادل النيران بين طرفين متقاتلين حتى النهاية: الأصوليتان العلمانية والدينية.

سعيد الذي له وحده حسب نظام الدولة حق الإشراف على الدبلوماسية والدفاع، وهما القطاعان المعنيان بالأزمة الليبية، اضطر كتعبير منه عن القطيعة بينه وبين أحد طرفي الصراع راشد الغنوشي لعدم عقد مجلس الأمن القومي الذي ينص عليه الدستور مفضلا أن يستحدث بدلا عنه ما أسماه المجلس الأعلى للجيوش والقيادات الأمنية. وذلك فقط لكي يتجنب حضور الغنوشي كرئيس للبرلمان معه خلال أشغال المجلس الأول كما ينص على ذلك الدستور مما يؤشر للارتباطات الأجنبية لهذا الأخير وعلى حجم التوجس وانعدام الثقة بين الغريمين الجديدين بتونس.

فالجيش التركي الذي وضع له السيسي خطأ أحمر في اتجاه مصر قد صار بالنسبة لتونس على جهتها الشرقية دون أن يترك لها عمقا استراتيجيا، وهذا يلغم الوضع التونسي، وقد يزج بالعسكر في صلب العملية السياسية التي حرصوا على أن يبقوا بعيدين عنها، مما يفتح تونس على تطورات آتية. ولعل هذا المجلس المبتدع أولى تلك التطورات التي لها ما بعدها.

الخلاف محتدم إذن بين المرشد الغنوشي الذي يستبق الموقف الرسمي التونسي بتأييده لحكومة الوفاق (والتي تعترف بها تونس أيضا) وتواصله الدائم مع الترك، وبين الرئيس التونسي الذي اقترح بفرنسا حلا قبائليا لليبيا، وهو ما جعله لاحقا في الخندق نفسه تقريبا مع السيسي الذي أوقف عجلة الربيع العربي والذي سعى إلى تفويض بالتدخل في ليبيا من القبائل ذاتها. هذا الالتقاء الموضوعي بين السيسي وقيس سعيد حول الملف الليبي هو ما قد يزيد من حنق المرشد ويمده بمبررات أخرى لمناصرة الطرف التركي، ويخلط في الوقت نفسه الأوراق على طاولة الرئيس قيس سعيد الذي يعد من ضمن من انجبهم هذا الربيع العربي.

كل هذا الاحتقان والخلاف حول طبيعة الموقف التونسي من القضية الليبية يمهد الطريق للدولة العميقة للتدخل وتوجيه دفة الأحداث في مهد الربيع العربي، وقد يكون ذلك من خلال الرئيس قيس سعيد نفسه.

من المؤكد أن الرئيس قيس هو المفوض شعبيا لأجل تحديد السياسة الخارجية والدفاعية لتونس، لكن السياسة حبلى بالمفاجآت والفوضى. فمن منهما سيدجن الآخر؟ المرشد أم الرئيس؟؟ أم أن الدولة العميقة ستتدخل وتدجنهما معا؟

في كل الحالات، هذا وقت ثمين تضيعه الطبقة السياسية التونسية في زمن اقتصادي واجتماعي صعب جدا سيجعل تونس هي الخاسر الأكبر.

*أستاذ بكلية الطب بالرباط المغرب

[email protected]

‫تعليقات الزوار

6
  • Amaghrabi
    الخميس 23 يوليوز 2020 - 20:34

    يقول المثل المغربي "دور دور حتى الهدور" ,بمعنى تبقى الثورة التونسية ثورة الهدم وتوقيف التنمية لمدة 10سنوات تقريبا مما ادى من تونس ان تتراجع الى الوراء وتدخل في ورطة يعلم الله متى تنفك منها,واليوم حركة النهضة مرفوضة من المجتمع التونسي الذي الف مصاصة العلمانية والتأثر بالحضارة الغربية والفكر العلماني دخل الى عمق تونس الاداري والتسيري وخاصة ان تونس بلد سياحي وبلد له ارتباط لغوي وثقافي مع الدولة الفرنسية التي توجه العقل التونسي نحو العلمانية والمعاصرة واعتقد نهاية الشريط التونسي اما ان تدجن الرئيس قيس ويسير مع الدولة العميقة كالدجاجة تسمن لتذبح وبالتالي اعادة سياسة برقيبة وبنعلي مرة اخرى اما الغنوشي فسيشتد عليه الخناق ويستسلم او يرمى به في سوجن تونس وهو كهل على شفى حفرة من الاخرة.هذه الثورة اصبحت نقمة على جميع الشعوب التي قاموا بما يسمى بالربيع العربي وبعض الاخوة يقولون ان الثورة لا تنجح بسهولة وانما تقدم تضحيات فبدون تضحيات ليس هناك قضاء على الفساد والمفسدين ويعطون مثال ثورة فرنسا ووو فهذا في نظري مقارنة غير موفقة لان ظروف فرنسا العالمية ليست ظروف تونس التي تعيش في مءخرة القاطرة العالمية

  • إلى دعاة الخصوصية
    الخميس 23 يوليوز 2020 - 20:40

    يتحدث عن "العلمانية المتوحشة" وكأن تونس بلد علماني فعلاً، البلدان العلمانية الحقيقية موجودة هناك في الغرب حيث الرفاه والتمدن. تونس اليوم ككل البلاد الإسلامية تدفع ثمن مازرعته و تدفع ثمن عقود من الدعاية الثقافية القائمة على الفصل بينها وبين مجتمعات البشر الحديث بدعوى الخصوصية التافهة ، وقد تبين بالملموس سواء في تونس أو المغرب أو غيرهما بأن خلق طبقة وسطى دون أن تحمل ثقافة إنسانية عميقة وواعية لا يحقق إلا نتائج هزيلة جدا ويسهل جر تلك الطبقة إلى الفقر مجدداً في أي لحظة أي أنها بعبارة أخرى تخسر أهم سلاح في صراعها الاجتماعي وهو الوعي والثقافة . ويبدو أن عقوداً طوال من الفقر والجهل لا تكفي البعض للاعتراف بفشل الفكر التلفيقي الانتهازي بين القديم والحديث

  • محمد
    الجمعة 24 يوليوز 2020 - 11:56

    كيفما كان الحال لو بقي بنعلي والقدافي أو أحدهما فقط ما فكر أحد أن يكون له موطئ قدم في المنطقة.
    الرءيسين الراحلين رغم مالهم وما عليهم , كان يضرب لهم ألف حساب في كلمة , ناهيك عن خطوة عسكرية .
    التورة الحقيقية تحتاج شعوب ناظجة وليس من هب ودب.
    وأتذكر هنا مقولة ونستون تشرشل: الشعوب تستحق من يحكمها.

  • aksel
    الجمعة 24 يوليوز 2020 - 15:13

    تونس في طريقها الصحيح ، لانه تعرفون كم هو صعب ان تغير النمط السائد في المجتمع و السياسة ، اليوم شباب تونس قررو تغييير هذا التخلف اللذي الحق بنا كثير من الازمات الاجتماعية و السياسية ، عندما تريد ان تغير افكار لم تخدم لا المجتمع و لا السياسة بافكار اخرى و كل النماذج اللتي عملت بها نجحوا و اليوم شبابنا يتمنون ان يعيشوا في ظل هذه القهوانين العلمانية الحريصة كل الحرص على المواطن في حماية حقوقه ، بينما الاخرى حريصة على اوهام خرافية لا وجود لها ، العلمانية هي الحل ، ان لم تكن مع العلمانية فإما لا تعرف تعريفها او شرير لا يحب الخير للمواطن .

  • متعايشتونس
    الجمعة 24 يوليوز 2020 - 15:15

    حيثما حل اردوغان و اتباعه حلت الماسي والمصائب ابقاك الله يا تونس الحبيبة خضراء و فاتنة كما ابرع صاحب بساط الريح في وصفك يا اجمل البلدان

  • غلال
    السبت 25 يوليوز 2020 - 10:16

    تحليل عميق ومتوازن للغاية وعلى غير العادة من شخص لا يخفي أفكاره المحافظة جدا.
    في منطقتنا يسيطرالتيار الديني على عقول الناس بشكل يصعب عكسه.
    ورغم ذلك فان فتح الباب له ليدبر الشأن العام هو اخطر ما يتهدده لانه يعريه تماما ويزيل وهم الطهرانية التي يدعيها ويجعله لاعبا عاديا على الساحة السياسية والفكرية وبعدها قد قد يبدأ مشوار الالف ميل نحو مجتمع علماني لايميز بين مواطنيه الا بدرجة التزامهم بالقانون ولا وصاية فيه لاحد على فكر احد

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين