بعض هواجس القراءة والكتابة

بعض هواجس القراءة والكتابة
صورة: هسبريس
السبت 30 يناير 2021 - 23:42

كاتبُكَ المبجَّل:

باستمرار، يلاحقني التساؤل التالي: هل من الضروري امتلاك عشق كاتب معين، أو كتَّاب؛ تبعا لترتيبهم الأقرب إلى قلبكَ أيها القارئ؟ مثلما جرت العادة، أم ليس ذلك بحتمية؟ وإذا افترضتَ أحقية ومشروعية المنحى الأول، فالسؤال التالي، ضمن متواليات أسئلة كثيرة، تداهم على الفور سكينتكَ؛ كما يلي: كيف السبيل صوب هذا السر؟ كيف تهذِّب نفسيا، قطعة من روحكَ، كي تجعلها مكانا رحبا؛ يشغله هذا الاسم دون غيره؟

قيل بهذا الصدد، عن جدوى اكتساب بعض جوانب التمرن، وأنتَ طري في مقتبل العمر، بالسعي إلى أخذ موقع ضمن سياق المقروئية، عبر بوابة استحضار المصادر الجوهرية للمعرفة الإنسانية، عوض التيه بلا طائل، وسط دروب الهوامش. هذا ما فعله المؤسِّسون، مثلما أخبرتنا تضمينات حواراتهم، أو اكتشفنا أمرهم ضمنيا بين ثنايا سِيرهم أو نصوصهم، ثم تغذية وإثراء هذا المنهل، باقتفاء خطوات وآثار نموذج معين، يصاحبكَ كصديق بل يغدو ظلكَ الأمين. تنظر إليه طبعا، بمنظور المرشد والمربي. لكن، من حقكَ تجاوزه في أيِّ لحظة، دون الشعور بآثام عقدة قتل الأب، حسب مدى فعالية قدراتكَ الذهنية في اللحاق به أولا، ثم الانتقال إلى مستوى ثان من آفاق التأمل والتفكير، غير مطروقة سلفا.

تجربة القراءة وأسئلة الحياة:

نقرأ كي نولد إلى الأبد، نُنْعش حيواتنا، نتجرد عن قَدَرية موتنا، نتصدى لمختلف أشكال التعديم. تلهمنا سبل القراءة، ممكنات ذواتنا والآخر والعالم والمصير. طبعا، يختلف مفهوم القراءة وتجلياته، لدى القارئ الواحد، وكذا علاقته بالجماعة.

دون شك، تتعدد المحددات المفهومية للقراءة، حسب نوعية المجموعات المجتمعية، ودرجات وعيها بذاتها، ثم أساسا يتخذ هذا المفهوم تبعا لاعتقادي وضعا دقيقا جدا، لدى الكاتب ويشتد وقعه أكثر عند الكاتب المحترف. هكذا، تطرح إشكاليات من قبيل: أولوية القراءة والكتابة؟ ما هي حدود التداخل بين وازع الكتابة وحمولة القراءة؟ هل يعيد الكاتب صياغة مستويات التناص وتداخل النصوص، لما قرأه بوعي أو غير وعي؟ أم يكتب أساسا رغباته الدفينة صوب ما يتطلع إلى قراءته، بما أنه يستحضر بكيفية محايثة قارئا مفترضا، ينطبق عليه منذ البداية هذا الوصف؟ كيف تتفاعل عنده هويتيْ القراءة والكتابة؟ ما الحيز الذي تشغله القراءة والكتابة داخل مضماره الإبداعي؟

تحضر هنا، روايات عامة متباينة حول المبدعين، في ما يتعلق بمختلف الحقول:

– من يقرأ قليلا، ويكتب كثيرا؛

– من يقرأ كثيرا، ويكتب قليلا؛

– من لا يقرأ، ويكتب، ربما؛

– من يهتم أساسا بإثراء الهوامش وإغنائها، تعليقا على نصوص مقتضبة ومختزلة جدا.

أخيرا، نتيجة تشكل أنساق فيض المعلومة، جراء مفعول الثورة الرقمية، وانسياب الهويات بتدفق جامح، صار هناك ”نص” عمومي مشترك الهوية نظريا، متاح بلمسات أزرار طفيفة، يأخذ في لمحة بصر هويات زئبقية، مما أحدث انقلابا جذريا على مفاهيم الإبداع، الخلق، التأمل، الجِدَّة.

إذن، من التجليات السلبية للمنظومة الرقمية المشتغلة منذ عقدين، اغتيال روح الإنسان لصالح البناء المنطقي الصوري للوغاريتمات رياضية، توجه شموليا تفكير الجميع، فأدت إلى قتل روح التفكير، لصالح القولبة والتنميط.

تجنب قدر ما أمكنكَ الوضع، لقاء كاتبكَ المفضل:

لا تلتق كاتبا، لا سيما الأثير لديك، وقد مثَّل دائما نموذجا ومرجعية. المبرر ربما، صدمتكَ على أرض الواقع شخصيته، غير التي عاهدتها خياليا عبر مسافات كتاباته، فتجد تصرفاته وسلوكاته الفورية، مغايرة تماما للتمثل الذهني الذي ساد فترة طويلة قبل لقائك به.

في هذا الإطار، يكشف لنا حيز من أدبيات الارتسامات والانطباعات تعليقات مضجرة من قبيل: متعجرف، سخيف، متهتك، تافه، بخيل، أكول…إلخ. ثم، يتغير كليا، منحنى الأحاسيس بين زمني الماقبلي والمابعدي، بحيث استعصى منذئذ على القارئ ”المصدوم”، الحفاظ على ذات الصورة المثالية.

بالتأكيد، قبل أن يصير هذا الكاتب كاتبا، فقد سَكَنه بداية ودائما، الفرد بكل بيولوجيته ومحفزاته العضوية. غير أن الصفة الرمزية، أتاحت في حقه قسمات فوق- بشرية.

القراءة والرياء:

هناك حقا، من تستغرقه قراءة التفاصيل وإحالات التفاصيل، بحيث ينبعث من بين ذلك كيان قارئ فطن، يقظ، ذكي، منتبه، إلخ. عين القارئ، الذي استهدفته بالاحتفال جلّ تنظيرات متون الشعرية الحديثة، منذ الإعلان عن موت المؤلف، وتخليد انبثاقات النص اللامتناهية، المرتكز وجوده على قارئ/مبدع، فاعل بالدرجة الأولى وليس فقط منفعلا أو محايدا أو مستسلما أو بارد المشاعر. قارئ متوقد المزاج، يلتقط بالإشارة، ويستشرف بثقابة نظر وحصافة، ما بين سطور الكلمات. قارئ خلاَّق، يعيد تدبيج ما يقرأه.

إذن، تظل إشكالية القارئ رغم مختلف الانزياحات نحو هذا الجانب أو ذاك، النواة الناظمة لهندسة النص، وفق هوياتها المتعددة. ومثلما، تُطرح بداهة التساؤل، بخصوص ماهية الكاتب، يحدث الأمر نفسه بالنسبة للقراءة مجرد هواية هي، أم مشروع؟ ثم كيف السبيل نحو وضع اليد على أسرار القراءة، التي تعكس حقا علاقة حب خالص مع ذاتكَ؟ من ثمة، تبلور نوعية تصور القارئ للقراءة: لماذا نقرأ؟

تأطير القارئ لهذا السؤال بتأويل واع، يحول دون سقوطه بين براثن أمراض الادعاء والرياء، التي تأخذ مظاهر غير سوية، بعيدة عن مسوغات القراءة المؤسِّسة، من قبيل ثقافة العناوين البراقة؛ التي تقف عند حدود الغلاف! وقد استفحل تقليدها مع اليسر الإخباري الذي أتاحته مواقع التواصل الاجتماعي، في خضم سيطرة موضة هذه ”الحروب” ذات الاستعراض الريائي، الدائرة رحاها بين الناس، من الصباح إلى الصباح دون توقف، على الصفحات الافتراضية، واشتداد المنافسة المجانية والسهلة، بين إعلانات الاستمالة والإثارة، لمجرد حصد حفنة أصابع الإعجاب الوهمي، أدى في المقابل إلى تبخيس فظيع لقيمة فلسفة العديد من المفاهيم في طليعتها حيثيات القراءة ودواعيها.

ما جدوى الكتابة بدون مكابدة التطهير؟

ليس كل الكتّاب مؤهلين كي ينتشلوا أنفسهم من نعت: ”كمثل الحمار يحمل أسفارا”، ما دامت القضية تتجاوز ببون شاسع مجرد مراكمة معارف بغير آفاقها. دون الدخول ثانية في دوامة، تلك التفاصيل المطروقة في ما يتعلق بممكنات موقع الكاتب ضمن هذا الإطار أو ذاك؛ حسب ثالوث: مرجعيته، وظيفته، مشروعه.

أقول، حسب ظني، ليس المطلوب من الكاتب تغيير العالم، مثلما يسهل الاعتقاد، بل المهمة الأولى والأصعب، تغيير ذاته حتى تصير نفسها، ثم خلال مكابدته تلك، يبثُّ الايجابي ضمن محيطه القريب.

الكاتب والدبلوم والوظيفة؟

يبقى الكاتب، قبل كل شيء، كاتبا وفقط، دون حاجته إلى مبررات إضافية إدارية أو غيرها؛ سوى مشروعية الكتابة. حتما، يلزمه في مرتبة ثانية بغية تعضيد وتكريس إشعاع موهبته، سياق سوسيو-مجتمعي وثقافي؛ بنَّاء ومحفز، يمده بالشروط الضرورية، قصد نجاحه في تحويل ما يكتبه إلى قوة مادية ذات فعالية اجتماعية ملموسة، لا تتوقف عن تفعيل نتائج تلك الجدلية المستمرة بين مجتمع يرتكز على رؤى أوراش الكتابة، وكاتب يثير بأسئلته تطور مجتمعه.

‫تعليقات الزوار

5
  • топ
    الأحد 31 يناير 2021 - 22:25

    مقال مفاهيمه ومعضلاته طويلة وعريضة يستحق التصفيق والتنويه لأنه وصف وعرّى بشكل جد فلسفي أصناف وأنصاف المثقفين والمتعلمين والقراء..مقال يستحق مئات من التعاليق في الأخد والرد.يا أستاذ لمن تحكي زابورك الناس عندنا يكرهون القراءة والكتابة و يرفضون التعلم ويتقنون حب الإستمتاع للقول “الجاهز” بالإنصات إليه وترويجه فيما بينهم ثم تدويره للأطفال والأجيال الصاعدة.وإنْ قرأوا ودرسوا فقط لأجل الحصول على و ظيفة الترسيم التي يعشقون ثم يتوقفوا عن لقراءة.وأخرون إن قرأوا وتابعوا الدراسة يصبحون مثقفوا المهنة والحزب .. أما مثقفوا المبدأ فهم يقرأون كثيرا ولا يكتبون إلا قليل وخوفا.. نوعية الكتابة المقبولة تحددها السياسة المرسومة.. أما الدين فحدث ولا حرج حرّم عليهم الخروج عن المقروء الدائري الديني ومن تجاوز خطه المرسوم في التفكير تصبح إجتهاداته بدعة وضلال وزيغ للعقل لذلك ترى الناس سكارى وماهم بسكارى ومن أعينهم تشم رائحة الثقافة أو الجهل.فحتى وإن إفتُرض البقاء داخل دائرة الثرات المرسوم ستراهم يحملون أسفارا ثقيلة أصبحت رمزا لعذابهم الأبدي فلوإطلعوا عليها ونقّحوها وطهّروها ماكانت عبئا عليهم لقرون من التخلف.

    شكرا

  • خارج 2971 بدون تصرف
    الإثنين 1 فبراير 2021 - 09:20

    الى طون تتلون مع الضل حيت يميل الضوء .غريب امرك وغريبة هي الفاف عقلك . وماذا عن حاملي خرافة تامزغا وعاشقي شيشناق الزواق ,الموروث الغير ثقافي والغير تاريخي ؟؟ اين انت من المنطق والمصداقية !!

  • топ
    الإثنين 1 فبراير 2021 - 15:05

    كلامك فيه عوَر ولا يستقيم لمنطق وأخلاق تاريخ،سجّل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفا أصبحت راقدة ومصنفة بجانب الكتب الصفراء التي لم يكن يقرأها أحد ويعمد الكثيرون بفعل عواطفهم الرهيفة للإعتقاد بها.وكلمة محفوظ في الصدورعرى عليها إلاه العقل الذي يحفظ في الذاكرة وليس في الصدرالذي هو مكان الأحاسيس والوجدان.تامزغا حقيقة كقطر جغرافي وتاريخي لشعبه الذي لم يغِب أبدا نازحا عن أرضه التي كتب الله في لوحه المحفوظ الذي نقشه بأصبعه تماشيا مع ألياف العقل القديم الذي يؤمن بهذه المعاني.في الحياة تطرأ تلونات لا ينتبه إليها إلا العقلاء ويتماشوا معها ومع ألوانها لذلك للعقل ألفاف تطرأ فوق بعضها البعض وتتغير مع الزمن للأحسن حسب الإنتخاب الطبيعي الذي يختار ما يشاء بإذنه.فمن لم يخضع عقله كل يوم للتنقيح والتقشيرعلى أليافه يصبح مضحكة و خرافة بين الشعوب المؤمنة بإلاه العقل.ظهور شِيشَنْقْ أرعد العقول ذات الألفاف البالية وهو يهمس في طبل أذنهم بصوت عال إلى درجة أصمهم قائلا:أنا شِيشَنْقْ لم أمت مازال التاريخ يدكرُني 2971 سنة رغم 1529 الخرافية .وهذه من حسنات التعريب التي جعلتِ الناس تُفتش في الكتب ليقرأ كلّ تاريخه…

  • بدون تصرف ،أگو وعقل أزرو
    الإثنين 1 فبراير 2021 - 19:40

    اخلاق التاريخ أو مراجعه .2971 تتموقع في نفس الفضاء الجغرافي ، بين حضارتين رسمتا افريقيا وابهرتا العقلاء ، الاولى بروعة سياسة نيلها والثانية بعظمة جيشها . هل لك ان تدلني ياعقل اين تتجلى عظمة دواوينك التاريخية ؟ لاكتابة لا قرائة لا تأويل لا حجج ولابراهين . اين تتجلى مصادرك ، أهي في ديلتا النيل أو في ميناء قرطاج ؟.

  • топ
    الثلاثاء 2 فبراير 2021 - 00:10

    أخلاق التاريخ تذكر عكس الأقوال وأصبح المستور مفضوحا ودون حشمة سميتها بحضارة وأضفت عليها روعة سياسة الإفتخارا في تقتيل بعضهم بعضا،عظمة الجيوش الجرارة تتجلى في ميليشيات تخرج بحثا عن الكلأ للتواجد وبوصلهم للحضارات انبهروا بوجود ماء ساخن يستحم به أهل الديار فأخدوا في حرق كل الكتب والدواوين التاريخية من أجل نصب قُدُور للأكل والشراب والإستحمام لغسل القشور حتى إنْمحت أثار الثرات والكتابات لكن نحمد روح عشتار مازالت التوثيقات في كتابات الضفة الإغريقية للفترة الهيلينية تشهد بذلك.لكن الفاجعة الكبرى المتبجح بها ردنا عليكبما في كُتبك فنقحها أوْ أطرحها في الماء
    لا أدري بأي حضارة تفتخر تاريخ الأمويين تاريخ نقوشهم كله عليه صليب وتاريخ العباسيين الساسانيين ظهر بخراسان وهُم من كتَب الكتاب و صنَع الأحذاث للروايات والغريب أنه لا أحد منهم من الأسرة المقدسة.. وبعدها جاء العثمانيين كمنتقمين وشكّلت غزواتهم ردَّة فعل للغزاة ماذا بقي لك للإفتخار لاشيئ… أين فضاءك الجغرافي لاشيئ…

    ##حقوق الغباء محفوظة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة