تبادل رسائل بين طليق وأسير

تبادل رسائل بين طليق وأسير
الأربعاء 24 مارس 2021 - 02:02

في خضم الأحداث الجسام التي باتت تعصف بإنسان الألفية الثالثة، والتي أذكت نيرانها جائحة كورونا وتناسلاتها، طفت على السطح ظواهر سوسيو-اقتصادية لا مألوفة كنتائج حتمية لفرملة عجلة الاقتصاد العالمي، وبالتالي تنميط فكر الإنسان في دائرة جد مغلقة تكاد معها كل أجهزة المراقبة، في علاقاتها بالأنظمة والقوانين، أن تبدو معطلة؛ فأضحى مفهوم الأسير بمقارنته مع مفهوم الطليق لا يكاد يختلف إلا في الحيز المادي الذي يشغله كل منهما؛ الأول يقبع بين جدران وحواجز مغلقة، بينما الثاني (الطليق) يعيش في دائرة ضيقة غادرتها جل القيم والمثل العليا فأصبح مغتربا لا يكاد يعثر على قوته اليومي.

بين هذين الحاجزين، أو بالأحرى السجنين، ستنبعث أصوات في شكل رسائل لها مدلولها في الكشف والتوثيق لألوان المعاناة وأشكال الحرمان التي باتت تعتمل في صدور كثيرين من أبناء البشرية، نسوقها طورا باسم الطليق وطورا آخر باسم الأسير:

من الطليق(x) إلى الأسير(y)

لست أدري ما إن كان بوسعي أن أغبطك وأنت قابع في زنزانتك، أو أعذرك عن ظروف معاناتك من الوحدة وشظف العيش وفقدان الأخلاء والأحباء، رغم أن ظروفك هذه، لو تعلم ما آل إليه حالنا في ضيافة الجائحة، لا تختلف عن ظروف معيشنا اليومي، فقد قذفت بنا الساعات الأخيرة إلى قارعة الطريق بالنظر إلى ثقل الفواتير والاستحقاقات التي لم تعد لنا طاقة لتحملها، عرضنا كل ممتلكاتنا للمزاد العلني وقبلنا بأبخس الأثمان لنسد رمق الحياة.

الأبناء تعرضوا جميعهم لضريبة الجائحة، فتم فصلهم عن مهنهم وارتموا في حضني، لعلهم يستعيدون شيئا من الدفء العائلي الذي بارحهم منذ زمان.
أين هي الأماكن التي كنا نختلف إليها ونذرعها في الليل خاصة؟ لقد عادت قاعا صفصفا، وحملت أبوابها شرائح معدنية صدئة مكتوبة بخط رديء “مغلوق”، وكأن مد حرف اللام بالواو يحمل عابر سبيل على الاعتقاد بأن الإغلاق سيطول أمده!

أصحاب “البيصارة”، و”الشفنج”، و”الحريرة”، و”الخبز”… كلهم علقوا لافتات ذات بقع دهنية قديمة مائلة إلى السواد، تستقبل الزوار مختالة، مكتوب عليها “الطلق ممنوع والرزق على الله”.

وإذا ذهبت في رحلة صحبة “القفة” فعليك بالتحلي بصبر أيوب، وتحمل آلام أسواط الأسعار وهي تنهال عليك، أما إذا بحثت عن الجودة فستجدها حتما لدى الأسعار وغائبة عن المواد، حتى لا تكاد تميز بين الحليب وسائل الدقيق، ولا بين “الإبزار” و”الفلفل المحمص”، أما إذا كنت من عشاق “العسل” فلن يقنعك أحد بجودته وصفائه وأصالته، اللهم إلا إذا حاورت النحلة في شأنه!

تسألني عن “الكتبي” بّا عزوز، فقد تحول في الآونة الأخيرة إلى “بائع الزريعة”، بعد أن لاحظ عزوف الناس عن القراءة، وهكذا لبست المكتبات حلة جديدة وتحولت رفوفها إلى مرقد لأشكال وأنواع شتى للهواتف، الذكية منها والغبية، فقد احتكرتها مواقع فيسبوك وواتساب وتويتر…

أما الصحة العمومية فقد تحولت زياراتها إلى مواعيد عرقوب، تصل أحيانا إلى سنة شمسية كاملة، وقد تتجاوزها في الحالات المزمنة، هذا وإن أقرب شخص وسيط للسلطة “المقدم” أصبح في الأيام الكرونية الأخيرة ممثلا لفرعون وليس للسلطة، ويلزمك أن تكون فقيها “باللغة” التي يجيدها، خلافا للغة الخشبية التي تطفح بها أوراقنا من قبيل “الشفافية” و”النزاهة”…

من الأسير (y) إلى الطليق (x)

رسالتك الأخيرة بعثت بالدفء إلى أوصال زنزانتي وأشعرتني في آن واحد “أني محظوظ”، لا يفصلني عن فضاء “الحرية” سوى الجدران، وأية قيمة لها إذا كانت هي الأخرى سجينة البزنسة والسلطة والجاه أو فيروس كورونا؟!

فحرية الرأي، كما جاء في رسالتك، أضحت مجرد كليشيه تزدان بها أوراقنا؛ فحتى سجناء الرأي العام أصبحوا قلة، بعد أن عمد المخزن إلى تكميم أفواههم بالدرهم، سواء تعلق الأمر بالصحافيين أو النقابيين… كلهم وقعوا في هيام الدرهم، لا يخطر ببال أحدهم أن يصوب قلمه أو لسانه في اتجاه إدارة أو سلطة أو مؤسسة.

نحن هنا، على غرار ما هو شائع عندكم، سجناء فيسبوك الذي انتزع السيادة من الكتاب، ولم تعد له تلك السطوة التي انفرد بها سابقا، حيث كتب العديد من سجناء الرأي في العالم مذكراتهم من خلف قضبان الزنازين أو أقبلوا على التأليف في ألوان كثيرة من المعرفة، أما اليوم فلا أرى هنا بجواري إلا المجرمين العتاة وبائعي القضايا بالتقسيط؛ معظمهم ينتمي لمدارس إجرامية معلومة وليس خاضعا لأي قانون داخلي، بل تراه يتمتع بامتيازات لا يمكن أن تخطر ببال أحد، سيما إذا كان منتميا لسلطة المال.

نعم نحن هنا، كما تعلم، جميعنا خاضع لسلطان الدرهم، وأضحت علاقاتنا في ظله تراتبية بمقدار تزلفنا وتقربنا من حضرته، فكم منا انمحت من قاموسه كلمة “الحرية” لمجرد أن كشر في وجهه الدرهم، وكم من أحد ولج إلى السجن مثقلا بتهم تتراوح بين القتل العمد والاغتصاب والسرقة الموصوفة… وبين عشية وضحاها غادره لمجرد أن قدم قرابين سمينة للدرهم ودعا له بالتمكين من رقاب العصاة والمارقين.

سأختم بواقعة حديثة، ما زالت حديث عديد من المعتقلين، تتلخص في منع دخول “قفة” بعد أن عثر الحراس، من بين محتوياتها على كتاب ورقي بعنوان “فك الأغلال”، وهي سيرة ذاتية من توقيع سجين تشيكي أمضى في زنزانته ثلاثين سنة، ولما سأل الزائر عن سبب المنع، أجابه السجّان “هذا النوع من الكتب محظور”، ولما ألح صاحب القفة عن السبب من وراء هذه المصادرة، هدده السجان وأغلظ له في القول “كلمة واحدة منك هذه المرة ستنقلك ضيفا عزيزا مكرما عندنا مدة عشرة أيام.. هيا اُغرب!”.

‫تعليقات الزوار

5
  • السلمي
    الأربعاء 24 مارس 2021 - 10:44

    شكراً للأديب المغربي الكبير الأستاذ مجدوب على هذه الخرجة التي شخص فيها الواقع بين طليق وأسير ، والحقيقة أن مفهوم الحرية غدا أمرا واحدا بين الإثنين، فالجائحة ساوت بين الحرية وبين السجن كما أن الأشياء التي كان يتمتع بها الإنسان الحر غابت في ظل التدابير الاحترازية التي ألجمنا بها الفيروس النعيل ، أما القراءة والكتاب فقد تراجعت قيمتهما بفعل فيروس تكنولوجيا الهواتف الذكية والغبية فقد استوى في ظلها الأمي والمثقف، وهل صار أمرا صعبا التمييز بينهما؟… هذا (بوشكارا) دخل البرلمان وهو لا يميز بين الألف والزرواطا في حين أن حاملا للدكتورة وعلى بضع خطوات من مبنى البرلمان يأكل (الهرماكا) وبوشكرا يشرع للمثقف!! أي زمان هذا! إنه واقع منحط.

  • البو عمراني
    الأربعاء 24 مارس 2021 - 16:23

    حقيقة الجائحة أفسدت طعم الحياة، وغيرت كثيرآ من المفاهيم بما فيها الحرية، وهل حرية الطليق هي نقيض حرية السجين؟ حاليآ لا يبو فرق كبير بينهما فالحرب أو الطليق كما أسماه الكاتب يشعر بالغبن وضيق الحال وأن حريته مصادرة، كما أن المراقبة انعدمت في ظل الجائحة والجاهل أصبح منافسا للمتعلم والمثقف، هذا هو واقعنا كما هو وشكرآ هسبريس

  • الخوف القاتل .
    الأربعاء 24 مارس 2021 - 22:19

    نكون كمن يكذب على نفسه عندما نعتقد أن الحجر الصحي كان له دور في تقليل حالات الوفيات بالفيروس اللعين وإلا فإن الأحياء الشعبية بالمغرب كما بكل دول العالم الثالث كانت لتسجل وفيات بالآلاف لأنها بصراحة الصراحة لم تلزم يوما بالحجر لا في عز فرضه الشامل ولا في حالة التخفيف . هذا المرض الذي هزمنا الخوف منه أكثر من الفيروس نفسه حتى وعلى افتراض أنه سريع الانتشار كما يزعم الزاعمون إلا أنه قليل الفتك لدرجة أن التعامل معه كأنه مرض عارض كان ليكون كافيا وأقل دمارا من هذا الاغلاق المميت الذي تجاوزت فداحته عشرين سنة من الجفاف المتواصل لأن غالبية الذين قضى عليهم المرض كانوا دفعة هذه السنة من الوفيات نظرا لتقدمهم في العمر أو لتجمع الكثير من الأمراض المزمنة القاتلة في اجسادهم . شخصيا أنا ضد الاستمرار في هذا العته المجنون وأدعوا من هذا المنبر إلى العودة للحياة الطبيعية مع بعض اجراءات الحماية الضرورية فقد افقدنا هذا الملعون كل فرح وكل تجمع عائلي جميل . علينا أن نعيش حالة إنكار لنستعيد حياتنا ولو في حدودها الدنيا في انتظار التطعيم ومناعة القطيع .

  • KARIM. m
    الأربعاء 24 مارس 2021 - 22:27

    لا فرق بين طليق وأسير ولا بين جاهل وعارف الكل استوى في هذا الزمان ومن منطق النفوذ والمال

  • مردوخ
    الخميس 25 مارس 2021 - 14:41

    صراحة كورونا أفسد كل شيء وخلط الأوراق فضلا عن تأثيره في السلوك البشري العام، حاليآ الشارع المغربي تحول إلى حلبة للسلوكيات الهمجية المشينة، كما أن التعليم في البلاد دخل في غيبوبة قد لا يستفيق منها قبل 2022، أما الاقتصاد والمراقبة ففوضى عارمة والسيادة لبوشكارى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة