لا يحمل لفظ “البريكولاج” هنا أي معنى انتقاصي. فلا يتعلق الأمر مطلقاً بقياس ثقافة ملفقة “مرقعة” بثقافة محبوكة متقنة.
نستخدم هنا لفظ “بريكولور” في المعنى الذي يستعمله فيه كلود ليفي– ستروس حينما يجعله في كتاب “الفكر المتوحش” مقابلاً للمهندس. فبينما يتمكن هذا الأخير من بناء لغته في كليتها تركيباً ودلالات، وبينما يشكل المهندس الذات الفاعلة التي هي المصدر المطلق لخطابها الذي تستطيع أن تبنيه وتتيقن منه قطعة قطعة لكونها تقيمه على منهج، وتبنيه وفق قواعد، وتسنده إلى معيار، فإن البريكولور لا ينطلق من “الطبائع البسيطة” التي ينتهي إليها التحليل الديكارتي، والتي يدركها العقل بداهة، وإنما مما يتوافر له من أدوات، وما يقع تحت يديه من وسائل لم تكن مهيأة بالضرورة كي تستخدم من أجل العملية التي يستخدمها فيها، والتي يتحايل لتكييفها معها، وهي وسائل وأدوات يكون على أتم استعداد لهجرها والتخلي عنها إن تبدى أن أدوات أخرى أكثر منها ملاءمة.
في ثقافة البريكولاج إذاً لا يذهب الفرد بعيداً، بل يتأقلم مع ما يتوافر له من وسائل كي “يبني” حقائقه وعلائقه وأخلاقه وهويته. انه لا يركن إلى معيار ولا يعوّل على سند. فلا تخطيطات ولا مفاضلات، بل ربما لا تفكير.
والأدهى من ذلك، لا تعلق بمستقبل واعد. فالأحلام والمشاريع لا معنى لها هنا إن لم تجد تحققها المباشر، أي بالضبط إن لم تعد أحلاماً ومشاريع. مفاهيم كالأفق والانتظار والمشروع لا محل لها هنا. ما يتبقى للفرد هو أن “يدبر حاله”، و “يخترع” ذاته، لكن لا استناداً إلى مرجع وتحقيقاً لهدف ونشداناً لقيمة، وإنما باستعمال ما يتوافر، وما يوجد «تحت» اليد، وليس “فوق”، لا فوق اليد ولا فوق الواقع.
تستعمل اللغة الفرنسية كلمة مركبة هي ربما الأقرب إلى ما يفيد هذا المعنى الذي تتوخاه هذه الثقافة، وهي كلمة le bien être. فلا يتعلق الأمر هنا بالانشداد إلى ممكنات، وتشبث بقيم وتعلق بما من شأنه أن يتجاوز الواقع ويعلو عليه و «ينفيه». لا يتعلق الأمر بتحقيق “سعادة” وسعي وراء مرام وأهداف، ولا باستهداف مشاريع وتطلع إلى آفاق. فربما لا تجد مفاهيم كالمستقبل والأفق والمشروع مكانها في هذه الثقافة. إذ يبدو وكأنها لا تتم في زمان. وحتى إن كان ولا بد من حشرها في زمانية، فهي زمانية مكثفة. زمان “الآن وهنا”. فهذه الثقافة هي ثقافة ما “تحت اليد”، إنها ثقافة الـ “تحت”، وثقافة “اليد”، هي إذاً ثقافة “المحايثة” بلا منازع. فالبريكولاج هو السبيل الوحيد لتحدي الأبدية.
تتداول أوساط الشباب المغربي كلمة دارجة تكاد تفي بهذا المعنى للثقافة، وربما هي المقابل الممكن للكلمة الأجنبية المركبة التي أشرنا إليها. تلك هي كلمة “الهناوات”، أو “الدنيا هانية”، وهي تعني أنهم في “أتم الأحوال”، وأنهم يتركون لأجيال سابقة تعلقها بتحقيق سعادة فعلية، وتشبثها بقيم تعلو على الواقع وتنفيه، وتطلعها إلى آفاق مغايرة، وعقد آمالها على مستقبل يسوده عدل ورخاء.
(الحياة اللندنية)
مقال رائع .اسلوب ذكي.
الصراحة ما يخيفني كثيرا هي ثقافة البريكولاج. فاغلب المهن الممارسسة في في اطار البريكولاج
تاتي كمبادرات فردية و تضحية ذاتية للهروب من الازمة .ان ثقافة لابريكولاج معيار امبريقي لعدم مصداقية المقتراحات و المشاريع. ان ثقافة الزفت هده يجب محاربتها لانها ضاهرة غير صحية للشباب.
لي أربعة ملاحظات حول المقال:
1 لا زال مفكرونا للأسف يعتمدون فقط على نقل ما أنتجه مفكروا الغرب. في حين كان الأجدر أن يأتون بإبداع. هذه التبعية الحذافرية توحي بأن أمثال أستاذنا لا زال لم يهضم بعد منقوله الغربي ليتمكن من ابتكار جديد. إلى متى سيظل مفكرونا نقلة لما كتبه أساتذهم من الغربيين حصرا؟ و كأننا أمام تلامذة لا زالوا قاصرين!
2 الفكر لم يتجاوز الوصف في حين كنا ننتظر منه رؤى للعلاج. فهو لم يأت بجديد اللهم وضع إسم فرنسي على حال واضح و ملموس للعادي و البادي. هل يجب انتظار ساداتنا أن يأتوا بمقاربة للعلاج لنقول بعدها “روى إمامنا ميشيل عن جاك عن كلود أنه قال:….”؟
نحن ننتظرأكثر من العمق.
3 على الأقل كان على الكاتب أن يجتهد في وضع مقابل عربي لكمة “بريكولور”.
لا أدري أهو عجز في إيجاد اللفظة العربية أم هو قناعة بأن الكلمةالأعجمية أ كثر هالة وأكثر جدية من نظيرتها العربية؟ أم هو ابعاد مقصود للمخاطَب عن مجاله التداولي؟
على فكرة: أنصح من يريد أن يتعمق في هذه القضايا أن يقرأ للعلامة الفيلسوف كتابيه القيمين في فقه الفلسفة حيث يعالج في الواحد قضية المفهوم و التأثيل وفي الآخر قضاياالترجمة و الإبداع.
4 كاتبنا لا يتحدث إلا عن ديكارت و ليڨي شتراوس و لا يذكر من العرب من تناول نفس الإشكال بالتحليل من بينهم المهدي المنجرة وعبد الحميد أبو سليمان و غيرهم.
هل الصمت عند مفكرينا عن زملائهم العرب هو من الجهل أم من التجاهل؟
في النقطة 3 من ردي السابق “هذا المنقول! فمتى المأصول؟”:
أقصد بالعلامة الفيلسوف، الدكتور طه عبد الرحمن.
وأرجو المعذرة على هذا الحدف.
وشكرا.
الأخ رشيد،كدت أتفق مع ما ذهبت اليه لولا ما تبينته عندك من عدم ايمان حقيقي لا بالعروبة ولا بلغتها, فأنت ارتكبتك قي ملاحطاتك الأربع، أربعة أخطاء أعتقد أن ليس من حق مؤمن مثلك بالعروبة ومفكريها أن يرنكبها,
الأخ الكريم محمد، أشكر لك الرد على مداخلتي واعلم أني أحسن الظن بك وسأحترم رأيك سواء أتفقنا أم اختلفنا. وربما كنتَ محقا و كنتُ مخطئا. فهلا تفضلت ببسط ما تراني أخطأت فيه (من باب رحم الله امرءً أهدى إلي عيوبي)؟
في انتظار تبيانك أود أن أوضح بعض الأمور:
لم ألم يوما الذين يكتبون بغير العربية. بل و كم قرأت لبعضهم بالفرنسية أذكر منهم الأستاذ عبد الله العروي ومحمد أركون و عبد الرحمان بدوي وعبد الكبيرالخطيبي و مالك بن نبي وغيرهم. و أنا مدين لهم بالإستفادة من علمهم. ولا ألومهم ما داموا يقدمون أطروحاتهم بالجودة المنشودة عبر اللغة التي تخولهم ذلك. أذكر يوما الأستاذ المرحوم عبد الكبير الخطيبي حين قال بالنسبةإليه ” الفرنسية لغة الكتابة و الأمازيغية لغة الوجدان والمشاعر و العربية لغة التعامل اليومي. و أ ظن أنه أجاد في كل هذه اللغات.
الأمر يختلف في هذا المقام الذي نحن بصدده. فالكاتب هنا لا يكتب بحثا أكادميا بالفرنسية لقراء معينين ولكن يكتب مقالا بالعربية لجمهور واسع (ولكل مقام مقال). فوددت أن يكون للكاتب جهدا في تأ صيل مصطلح عربي لربط القارئ بمجاله التداولي حتى يكون الوقع أشمل.
و مزيدا لطمأنتك أخبرك أني أ عيش في فرنسا و أعي جيدا من خلال الممارسة أن الجيل الثاني و الثالث من الجالية العربية أ شد تشبثا بعروبتهم.
أما الصمت الذي يزاوله الكتاب تجاه زملائهم فهذه ظاهرة عامة عند كثير من الكتاب. فمثلا تجد الكاتب لما يتحدث عن شيء( الديموقراطية مثلا) يبتدئ باقوال الينان والروم و يسرد قولة أ قولتين من أحكام الماوردي ويذكر رأي مدرسة لاتينيية أو أنجلسكسونية ويخلص إلى قوله هو.(بطريقة أشبه ما تكون بقيود الشعر الجاهلي من وقوف على الأطلال وصف للفرس أو الوحش وتغزل بالحبيبة و… وانتهاء بيت القصيد). دون أن يشير و لوبنصف كلمة إلى معاصريه العرب سواء أكتبوا بالعربية أو بغيرها. لا بنقد ولا بتثمين. ثق أخي محمد أني سئمت هذا المنهج العقيم.
وثق بأن ملاحظاتي كانت منبعثة من المقاربة والمنهجية و لم تكن من الغيرة.
من جهة أخرى، و ما دام التلميح لنواياي و لإيماني و ما قد أستبطنه. فببساطة أقول أنا مغربي و عربي و مسلم . ولي غيرة على الإسلام و العروبة والوطن وعلى الأمازيغية وكل ما هو مأصول ولا مجال للتفريق بين هذه الغيرات و الهويات.
تحياتي