جائحة كورونا ونظام العمل عن بعد بإدارات الدولة

جائحة كورونا ونظام العمل عن بعد بإدارات الدولة
الإثنين 1 يونيو 2020 - 10:08

تكتسي الإدارة الإلكترونية أهمية خاصة في مسار تحسين مستوى الأداء والكفاءة داخل دواليب الإدارة العمومية، باعتبارها المدخل الأساس لتغيير العلاقة بين الإدارة ومستعمليها وبين الدولة ومواطنيها، فهو خيار استراتيجي ومستقبلي، يستوجب “… تعميمها بطريقة مندمجة، تتيح الولوج المشترك للمعلومات بين مختلف المرافق والقطاعات العمومية، كما أنها آلية ستسهم في تسهيل حصول المواطن على الخدمات في أقرب الآجال، دون الحاجة إلى كثرة التنقل والاحتكاك بالإدارة، الذي يعد السبب الرئيسي لانتشار ظاهرة الرشوة واستغلال النفوذ….” (من خطاب الملك محمد السادس خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة: 14 أكتوبر2016)..

وإذا كانت مرامي الإدارة الإلكترونية بالأمس القريب تتمثل في محاربة الفساد وتجفيف منابعه، فإن “جائحة كورونا” فرضت اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، ضرورة مواصلة وتسريع مسلسل رقمنة الإدارة العمومية، انطلاقا من كونها أحد الآليات الرئيسية لتجاوز الاتصال المباشر بين مختلف أطراف العلاقة الإدارية أولا، وثانيا هي مدخل وظيفي لضمان استمرارية المرافق العمومية في تقديم خدماتها لفائدة المواطنين والمواطنات انسجاما مع أحكام الفصل 154 من دستور فاتح يوليوز2011. وفي هذا السياق، يندرج مشروع مرسوم وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة المتعلق بالعمل عن بعد بإدارات الدولة، والذي سيعرض على المجلس الحكومي في القريب العاجل قصد دراسته والمصادقة عليه.

ويعتبر العمل عن بعد – حسب مشروع المرسوم – أحد العناصر المرتبطة بمفهوم الإدارة الحديثة، الساعية إلى تطوير وتنويع أساليب العمل، بواسطته يتم إنجاز المهام خارج مقرات العمل الرسمية التابعة للإدارة، باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال، بما يضمن استمرار إنجاز المهام وتقديم الخدمات في مختلف الظروف ولا سيما ظرف فرض حالة الطوارئ الصحية.

وتجدر الإشارة إلى أن العمل عن بعد ليس وليد ضغط “جائحة كورونا”، بل يستمد جذوره الأساسية من التحولات التي عرفتها الإدارة في العالم الغربي، خصوصا بالولايات المتحدة الأمريكية، التي تبنت استراتيجية العمل عن بعد في القطاعين العام والخاص منذ سبعينيات القرن الماضي تحت ضغط مجموعة من العوامل منها أساسا ترشيد النفقات الحكومية، والتخفيف من حركة المرور خصوصا في المدن الكبرى، وترشيد استهلاك الطاقة، وتقريب الإدارة من القاطنين بالعالم القروي، وتوفير فرص العمل بالنسبة لبعض الكفاءات غير القادرة على العمل في الولايات النائية، وأيضا لمنافعه الكثيرة على رجالات الإدارة.

وضمن هذه الآفاق، يسعى المشرع المغربي من وراء هذا المشروع إلى تحقيق نوع من التوازن بين حاجيات الإدارة المتمثلة أساسا في ضرورة استمرارية الخدمات بالنجاعة والفعالية اللازمتين، وبين الظروف الخاصة للموظفين من جهة، بما يوفره من مرونة في ساعات العمل مع الحفاظ على المعدل اليومي لساعات العمل الرسمية.

وبقراءة لمواد هذا المشروع، نجده يتمفصل حول المحددات التالية:

يتكون هذا المشروع من 16 مادة قانونية، موزعة على مجموعة من المواضيع التي تهم بالأساس تحديد مفهوم وميزات عن بعد بإدارات الدولة، وكيفيات إنجاز المهام والأعمال وأداء الواجبات الوظيفية خارج مقرات العمل الرسمية التابعة للإدارة، وفق شروط تعمل على تحديد الوظائف والأنشطة المؤهلة للقيام بها عن طريق أسلوب العمل عن بعد، ولائحة الأماكن الموضوعة رهن إشارة الإدارة لمزاولة العمل عن بعد، إذا كان سيتم خارج مقر سكنى الموظف المعني بالأمر، والقواعد الواجب احترامها في ما يتعلق بأمن أنظمة المعلومات وحماية البيانات الإدارية. وضوابط تدبير توقيت العمل واحتساب مدته، فضلا عن تحديد حقوق الموظف العامل عن بعد، والإجراءات المتبعة من طرفه للحصول على ترخيص الإدارة للعمل عن بعد، وممكنات تجديده، والواجبات الملقاة على عاتقة على مستوى ضمان أمن المعلومات والبيانات الخاصة بالإدارة، والأجهزة الموضوعة رهن إشارته، وكذلك حقوقه التي هي نفس الحقوق المخولة للموظفين الذين يزاولون عملهم في مقرات عملهم كرخص المرض والاستفادة من التعويض عن حوادث الشغل المرتبطة بعمل الإدارة….

من حيث أهمية هذا المشروع، يمكن القول، إنه سيلعب دورا أساسيا في تحقيق العديد من المكاسب الايجابية بالنسبة للإدارة من خلال الرفع من الأداء والنجاعة وزيادة الإنتاجية وترشيد النفقات داخل الإدارات العمومية، وهو وسيلة ذكية لمعالجة ظاهرة الاكتظاظ التي تعرفها مقرات بعض الإدارات العمومية، والحد من الغياب غير المبرر، ولما لا احتواء ظاهرة الموظفين الأشباح. فضلا عن فوائده بالنسبة للموظف، لا سيما بالنسبة للمصابين بالأمراض المزمنة والنفسية وحالات ضعف المناعة، وتبقى المرأة الأكثر استفادة من هكذا نظام، لأنه سيتيح لها الجمع بين القيام بواجباتها المنزلية والعائلية ورعاية أسرتها دون تضارب مع واجبات عملها، ودون ضغوط نفسية وعصبية وجسدية. كما أن لهذا النظام فوائده العائدة على المدينة والمجتمع المحلي كالحد من حركة المرور وتقليل الحوادث إلى جانب المحافظة على البيئة بخفض نسبة عوادم السيارات، خاصة مع تزايد القلق من تدهور البيئة والاقتصاد والمجتمع، وكذلك استهلاك الطاقة بكل أنواعها، الذي يعتبر أحد العوامل التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني نظام العمل عن بعد (العمل عن بعد: منشورات جامعة الملك عبد العزيز، وكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي: www.Kau.edu.sa).

مما لا شك فيه أن من بين أهداف العمل عن بعد توفير خيارات عمل متعددة للموظفين وخاصة في الحالات الاستثنائية التي تبررها حالة الطوارئ الصحية وانتشار الأوبئة والإجراءات الاحترازية، وتبعا لذلك، ومع استمرار انتشار وباء “كورونا فيروس” يبقى نظام العمل عن بعد بإدارات الدولة الآلية المثلى للمحافظة على سلامة الموظفين والمرتفقين من جهة، ومن جهة أخرى ضمان استمرارية الخدمات العمومية لفائدة المواطنين والمواطنات.

والذي تجدر ملاحظته في هذا الصدد، أن وزارة الاقتصاد والمالية بادرت إلى تعميم منشور بتاريخ 16 أبريل 2020 على مختلف الإدارات العمومية، بمثابة دليل “العمل عن بعد” يتضمن كافة التدابير والتوجيهات والإرشادات الكفيلة بتحقيق أجرأة سليمة لنظام العمل عن بعد، في انتظار المصادقة على مشروع المرسوم المشار إليه في متن هذا المقال، والذي بموجبه سيصبح نظام العمل عن بعد يطبق في إدارات الدولة في الحالات العادية كما في الحالات غير العادية.

يتوقف تطبيق نظام العمل عن بعد بإدارات الدولة على مجموعة من المحددات، التي من شأنها ضمان تطبيق سليم ومسؤول لكل المقتضيات المنظمة له، في إطار مشروع المرسوم الذي سيخضع لكل التعديلات الضرورية لضمان جودته وانسجامه مع الأهداف التي تحكمت في ميلاده، ولعل من بين أهم المواد التي ينبغي إعادة النظر فيها تلك المتعلقة بطبيعة الأعمال الإدارية التي ستكون موضوع عمل عن بعد، التي ينبغي الحسم فيها بموجب هذا المشروع، لأنه لا يمكن ترك ذلك لهامش السلطة التقديرية لمسؤولي الإدارات العمومية تفاديا لأي تأويل قد لا يتماشى ومرامي هذا المشروع، أو قد يستغل لأهداف تأديبية غير قانونية في حق مجموعة من الموظفين. وكذلك الأمر بالنسبة لطبيعة الأطر الإدارية والتقنية التي يمكنها أن تستفيد من هذا النمط من التدبير، كما نسجل غياب الإشارة إلى ذوي الأمراض المزمنة ودوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك نوعية الإدارات التي ستلجأ إلى هذا النمط من العمل، فليس كل الإدارات العمومية معنية. كما نتساءل عن الأسباب التي دفعت المشرع إلى استثناء الجماعات الترابية من نظام العمل عن بعد…. وعموما، ينبغي لفت الانتباه إلى أن العمل عن بعد بإدارات الدولة ليس إجازة أو امتيازا وظيفيا، لذلك فإنه يتوجب على المشرع ضرورة مراعاة كل الشروط التي تحفظ للإدارات العمومية هيبتها، حتى لا يكون الموظف هو المستفيد دون الوطن والمواطنين.

*دكتور في القانون العام / إطار بوزارة الداخلية

‫تعليقات الزوار

1
  • حسن
    السبت 6 يونيو 2020 - 18:20

    موضوع جامع مانع ، كما عودتنا دائما يا دكتور ، حتى في شفاهياتك ، موضوع في منتهى الواقعية والإحاطة الممتعة ، تابع مسيرتك ، وزدنا عطاء ، وكن كما قال الأديب صادق الرفاعي : " إن لم تزد في هذه الدنيا شيئا مفيدا ، فانت فيها زائد " … زدنا واستمر قدوة لنا .

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة