حســــن السوسي .. الهجرة الأخيرة إلى ذاكرة الوطن

حســــن السوسي .. الهجرة الأخيرة إلى ذاكرة الوطن
الجمعة 4 دجنبر 2020 - 08:48

حين التقينا، قبل أسبوعين من رحيله عن هذه الدنيا، وقد مضى على تلك الفاجعة حوالي شهر، كان مطمئنا إلى قدرته على الافلات من غارات حرب العصابات التي يشنها فيروس هذا الوباء على المغاربة وعلى البشرية.

فهو كان قد عاد من باريس قبل ثلاثة أيام، بعد أن تسلم شهادة “سلبيته” من مختبر معتمد.

ليضيف وهو يعزف ضحكة رقراقة نابعة من غدير وداعته “لدينا دخيرة هائلة من المناعة المكتسبة، توفرت لدينا من حياة عركتنا بمشاقها وصعوباتها”…

التقيت حسن السوسي في الرباط، بعد سنوات من التباعد الجغرافي، فيما سيتحول بعد أسبوعين إلى لقاء وداع، أطعمنا أنفسنا وجبة دسمة من الذكريات التي أنتجناها خلال عن ما يزيد عن أربعين سنة من علاقة رفاقية، أخوية، علاقة عمقتها الزمالة المهنية… كان غذاء “فلاش باك” استرجاع لأيام زمان، ولو أنه انتهي إلى اتفاقنا على فتح ورش مهني مشترك… ضاع مع فقدنا لحسن السوسي.

حقا، كم أمتعتنا تلك الذكريات وتذوقنا حلاوتها واستزدنا استدراجها إلى مأدبة مكلمتنا، نموسق انسيابية شريطها ببعض الضحك المنزوع المرح وببعض الآهات المكتومة الترح.

ضمتنا “منظمة 23 مارس” السرية في خلاياها منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، غير أننا لن نلتقي علنيا إلا سنة 1979، في إطار مجلس التنسيق الوطني لإعداد مؤتمر 16 الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. كان منسجما ومرتاحا وفاعلا وهو يصول في تلك الوغى الطلابية… لأنه قدم إليها من “أكاديمية فاس للتكوين اليساري الطلابي في المغرب” سنوات السبعينيات، والتي كان حاز في ساحاتها على أعلى شهادات التأهيل في القدرة على حشد الطاقات وعلى الحوار وعلى المواجهات وعلى التحمل والاستماتة في السجالات. هي نقاشات تمتد إلى سجالات في تلك الحلقات الشهيرة بالحي الجامعي بفاس والتي تلتئم ليلا ونهارا وتتناسل في ساحات ذلك الحي… وقد كانت شهيرة بامتداد مداولاتها لساعات وبغزارة الجدال داخلها في كل قضايا الدنيا الجارية سنوات السبعينيات وما قبلها إن بسنوات أو بقرون… سجالات ونقاشات حول… الصراع الطبقي في المغرب بما يحيط بتشخيصه وبآفاقه وبالفاعلين فيه من السجال ومن المحفزات عليه… أسئلة المغرب الكبرى، أسئلة المسارات المحجوزة في تاريخه أو تلك المفتوحة… أسئلة الوطن ووحدته… أسئلة الديمقراطية في روافعها الفكرية وفي أزمتها وفي وعودها… أسئلة التنمية وإشكالاتها ومقترحات صيغها…سجالات حول وقائع القضية الفلسطينية وصدى صراعات فصائل مقاومتها في ساحات الحي الجامعي بفاس… أخذ وشد حول مجريات الحرب الأهلية في لبنان من منطلقها وحتى إلى تنوع القراءات لحرب الشوارع في بيروت… طبعا لا بد وأن يكون حاضرا في النقاش، الامبريالية وضحاياها ونواياها ومناوراتها… التحريفية السوفياتية (للعقيدة الاشتراكية) والتجربة الصينية بما أنجزه ماو والثورة الثقافية فيها وأدوار العصابات الأربعة فيها… إلى ما هو معروف من قضايا التحرر والديمقراطية في العالم آنذاك، تلك القضايا التي يتابع تفاصيلها ويختلف عليها وحدهم طلاب النسيج النضالي في فاس من نوع القضية الأرمينية… وطبعا كان مدخل ومنتهى تلك الحلقات وسجالاتها هو تشخيص لأوضاع الحركة الطلابية بكل ما تولده من حماس لدى الفصاءل الطلابية وتستدعيه من استنفار مراجعهم الفكرية بحيث يحضر فيها، ماركس، انكلز، هيجل، ابن خلدون، بليخانوف، لينين، ماوسيتونغ، ياسين الحافظ، استالين، عبد الكريم الخطابي، علال الفاسي، عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، المهدي بنبركة، عمر بنجلون، جورج حبش، نايف حوتمة، ألتوسير، غرامشي، ماكس قيبر، عابد الجابري، ناوري حسن، محمود درويش، مظفر النواب، فؤاد نجم… واللائحة طويلة.

كان فقيدنها قبل هذه “الأكاديمية” قد وصل إلى الجامعة في فاس حافظا للقرآن متآلفا مع علومه ومطلعا على الحديث ومتعلقاته وعلى دراية معتبرة بالفقه… بما نمى حفيظته ومنحه تمرسا على الدارسة والتحصيل… ليتوجه مباشرة طالبا في شعبة الفلسفة.

تلك أجواء جامعة فاس، وهي فقط الصورة المضخمة والمتميزة لصورة جامعاتنا آنذاك، سواءا في الرباط أو فيما بعد مراكش ثم وجدة… كانت الجامعة صدى لمخاضات المغرب السياسية الاجتماعية والاقتصادية وللهزات الكبرى التي واكبت تلمس المغاربة من مواقع مختلفة لتلك الأسئلة التاريخية أسئلة ماذا نريد لهذا الوطن من مسار بعد الاستقلال… مخاضات وتجاذبات وتدافعات فصول منهاـ هي التي ستدون في التاريخ باسم سنوات الجمر والرصاص… والتي أسست لهذا المغرب اليوم الذي نعيشه وهو مندفع في مواجهات تحديات النهوض التنموي وتحديات ترسيخ الديمقراطية في المجتمع وفي شرايين الدولة وطبعا أسست أيضا لهذه المكتسبات الوطنية التي نحن بصدد تثبيتها ليس فقط بالنسبة لوحدة التراب المغربي ولكن أيضا باستحضار البعد الوطني مؤطرا وموجها لفعالياتنا…

أجواء التعلم في جامعاتنا، والانفتاح الطلابي الحماسي السياسي المؤطر نقابيا على ما يعتمل في المجتمع، برت حسن السوسي كما طلاب تلك السنوات… وشحنتهم بالتوق إلى دور فاعل في الوطن… لقد كان ذلك هو ما ولد النشاط السياسي والنقابي والفكري للطلاب، والذي كان مطبوعا بالحماس المتصل بطبيعة الشباب ، هو تعبير عن طموح هذه الفئة الشابة أن يكون لها دور فاعل في الوطن بالرأي ثم بالاستعداد لتحمل مسؤولياتها في المستقبل … لقد كان لتلك المشاركة لبوس الصراع بين فصائل في كل جامعاتنا منذ نهاية الستينيات وإلى حوالي منتصف الثمانينيات… مع ما صاحب ذلك، في كثير من الحالات من اجتهادات مسؤولة ومطارحات مفيدة وفي بعض الحالات مغالاة وحتى الكثير من التطرف أو بعض الشعننة… غير أن تلك الحركية الشبابية ضخت في المنجز المغربي الاجتماعي، بكل أبعاده، أطرا بالآلاف، انتشرت في البنى الإنتاجية، الإدارية، التربوية والسياسية… انتشرت بنفس وطني حاد، وحماس للإنتاج فوار وبدرجة عليا بحس المسؤولية … وأيضا أنتجت تلك الحالة تلك الفعاليات وتلك “المدرسة الموازية”، أنتجت المئات من المبدعين والمبدعات في الثقافة والفكر والعلوم والفنون وفي السياسة… أكثرهم اليوم أسماء مرموقة عربيا وعالميا لامعة ورامزة للتجديد وللاجتهاد بالثقافة المغربية ومعبرة عن خصوبة الجامعة المغربية… وفقيدنا واحد من خريجي تلك “الحقبة الوضاءة” من تاريخ تعليمنا.

خرج حسن السوسي “من الساحة الطلابية” التي كان له فيها مكانة بوأته عضوية قيادة نقابتها وهي التي أدت به إلى محنة الاعتقال السياسي… غادرها ليواصل المسير بنفس الجدية والاجتهاد، ونفس ثقافة الحرص على الوعي والمعنى والمبدأ، وبالتالي الثقافة والفكر في كل الممارسات الحياتية، والممارسة المهنية واحدة منها.

حياته أطرها ودبرها بما ترعرع وشب فيه حتى شاب عليه. ترعرع بالعفة والحشمة والتحمل، التي هي أخلاق أهله في “النيف” قرب مدينة الراشدية. شب على المسؤولية النضالية وتحصينها بالوعي وبالجدية، وهي ما كانت الحركة السياسية اليسارية التي اندمج فيها تسعى إلى بثه… تلك الخصال لمسها فيه كل من تعرف عليه في المسار الطويل لنضاله السياسي… في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي كان نشيطا وله إسهامات في تأسيسها وإنغراسها الجماهيري، وعضوا في قياداتها المركزية، ثم أول كاتب عام للحركة الشبيبة الديمقراطية. مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي كان له تفاعل مميز خاصة في فرنسا حيث كان يقيم. وفي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وقد انتخب عضوا في مجلسه الوطني كان له حماس للإعلام ملموس وحضور فاعل في فرع فرنسا.

لم نكن قد افترقنا ولكن جمعتنا أكثر وعمقت علاقات الود بيننا جريدة “أنوال”… التحق بهيأة تحريرها مضيفا لها ايقاعا جديدا ومميزا. بكتاباته (أكثرها كان حول القضايا العربية وأساسا القضية الفلسطينية)، أو بحضوره الانساني وبالدفء الرفاقي المنبعث منه في تفاعله الاجتماعي مع زملائه… يقوم بكل التزاماته ويفي بكل تعهداته بما يراه مفيدا من مقترحات…. وأذكر له أنه كان يحرص على التقيد بالتعبير عن الرأي المتفق عليه في قيادة المنظمة، في القضايا التي يكتب فيها محتفظا برأيه الخاص للنقاشات الداخلية، كان مناضلا مسؤولا، يفصل بين الخاص والعام في التزاماته وأفكاره.

هاجر، مضطرا إلى فرنسا … هجرة مهنية، كان يسعى إلى التحليق في فضاءات جديدة … أرحب مهنيا، أريح اجتماعيا… شاب في السادسة والثلاثين من عمره… زاخر بالحيوية متين النوابض الثقافية … متمرس مهنيا… واسع الانفتاح الثقافي على العالم… ما كان عليه إلا أن ينجذب إلى العمل بالصحافة العربية بأوربا… عزم وتوكل وسافر… وهناك خاض في يم حياة مهنية أخرى منذ سنة 1988… تنقل بين الصحافة الورقية والتلفزة، مابين باريس ولندن، وفي كلاهما تميز في عمله، بإنتاجه وبجديته ورصانة كتاباته، وبمسلكه الرفيع الخلق. تعرف على أجواء الصحافة العربية وبخاصة على كبار الأقلام فيها، واللذين إلى اليوم يكنون له عميق مشاعر التقدير… كان للتجربة، وقد طالت، ما كان لها من صعود وهبوط، من ازدهار ومن اندحار، من مباهج ومن مواجع، ومن فرحات ومن حسرات.

هاجر مضطرا… وكان فتح قوسا في حياته بتلك الهجرة، مستعجلا إغلاقه في حياته، بالعودة إلى وطنه… استبد به الشوق إلى الوطن، لا بل لازمه دائما… أتعبته أحلام العودة إلى الوطن، تقترب من التحقق ثم تبتعد ويلفها الضباب… حاول مرارا ومع فشل كل محاولة تستعر نار الشوق فيه أكثر… بقي مصرا على العودة ولو إلى قبر في الوطن… وفي الوطن، حيث ولد “بالنيف”…الولع بالموطن أخمد فيه الهلع…

أذهل يقظة مناعته بعيدا عنه…وهو مستغرق في التلذذ بمتعة التواجد في “البلاد”…الهواء الذي ملأ خلاياه طفلا عاد إليه، الماء الذي سرى في شراييه عاد إليه، السماء التي اتسع بأديمها بصره طفلا عاد إليها، التراب الذي مشى عليه حافيا طفلا عاد إليه… لقد عاد الآن إلى موطنه، إلى أرض المنشأ… وذلك ما كان ينشده ويتمناه…ويقولها سرا وعلنا.

بكل ما عرف عنه من عزم على ممارسة ما التزم به، ويذهب في ذلك بعيدا…هذه المرة والأخيرة، لم يغالب الفيروس، ما كان ذلك هو همه…مناه كانت أن يذهب بعيدا تحت ثرى وطنه وموطنه…فعلها وغادر إلى الأعماق، أعماق الأرض التي أحب، وأعماق ذاكرة وفاء كل اللذين أحبوه…وفي العمق ذاكرة الوطن.

‫تعليقات الزوار

3
  • لائكية القمع والتجويع .
    الجمعة 4 دجنبر 2020 - 10:46

    سنوات الجمر والرصاص عرفت هيمنة الفكر اليساري على مجريات الأحداث بمنطقتنا وأمريكا اللاتينية . هذا النظام البلوريتاري الذي تحول لدكتاتورية الشخص الواحد والحزب الواحد خرب الكثير من التجارب الديمقراطية الوليدة ووسع من رقعة الفقر ومن رقعة القمع في الوقت الذي كان قادته يعيشون البورجوازية وحياة الترف . فأبناء الرعاة الحفاة العراة مصاصي النوى من الجوع والحرمان أصبحوا آلهة تعبد في الأرض كانوا أكثر راديكالية من داعش في بطشها وأكثر تخلفا من الأنظمة التي ثاروا عليها جرت عليهم سنن الأولين وقول الأمير المعتمد بن عباد الأسير وغريب أغمات : أولها دعوة فملك وآخرها ملك وسلطان فغنيمة .

  • يدير
    الجمعة 4 دجنبر 2020 - 18:25

    "حياته أطرها ودبرها بما ترعرع وشب فيه حتى شاب عليه. ترعرع بالعفة والحشمة والتحمل، التي هي أخلاق أهله في "النيف" قرب مدينة الراشدية. شب على المسؤولية النضالية وتحصينها بالوعي وبالجدية، وهي ما كانت الحركة السياسية اليسارية التي اندمج فيها تسعى إلى بثه (…) تلك الخصال لمسها فيه كل من تعرف عليه في المسار الطويل لنضاله السياسي.
    رحم الله الفقيد وإنا لله وإنا إليه راجعون.

  • moha
    الجمعة 4 دجنبر 2020 - 20:54

    و الله لمن سخريات القدر ان ترحل هده القمم العلمية الشامخة فى صمت دون اي اعتبار او وقفة عرفان في حقهم. اكيد ان جل اولاد و شباب النيف لا يعرفون الاستاد و الصحفي الكبير حسن السوسي رحمه الله ابن ازقور كما لا يعرف شباب فيكيك الفيلسوف و العالم الفد المرحوم عابد الجابري.نعم انها اقصى درجات التخلف و الانحطاط الفكري عندما تخلد اسماء المغنيات و المغنين و لاعبي كرة القدم و تطوى صفحة العلماء و المفكرين بعد اهالة التراب على اجسادهم. رحم الله علمائناو مفكرينا و كفاهم فخرا و عزا انهم اضاعوا عمرهم في التحصيل و البحث لا فى مراكمة الثروات الفانية.

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 1

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 10

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج