دمعة لاهبة

دمعة لاهبة
الثلاثاء 15 يونيو 2021 - 01:27

كان متشردا… يفترش الأرض ويلتحف السماء، ويتخذ من الشارع العام مأوى وقرارا، لكنه ليس كباقي المتشردين، فهو حينما يطرق في صمت تعلوه هبة عظيمة تجبرك على احترامه وتقديره، وتجعلك تقرأ على تجاعيد وجهه البئيس أسرارا كثيرة اختزلت تجارب مرة وسنين قاسية.

في ذلك الصباح لم يجد أدنى رغبة في التجول في الشوارع، ولا أن يجلس مطولا ـ كما اعتاد أن يفعل ـ على جنبات أسوار المدينة القديمة، فأمضى الصباح كاملا في مكانه، متأملا في ذاته ومن حوله، وفي المساء لم يتحرك أيضا، ولم يخرج إلى “ساحة الحمام” أو “طريق مراكش” أو “الأندلس” أو غيرها من الأحياء حيث اعتاد أن يكسب قوت يومه، فاكتفى بما تجود به حاويات النفايات من خبز يابس وحليب فاسد ومعلبات انتهت صلاحيتها…

وضع ما جادت به النفايات في كيس صغير ثم تولى إلى زاوية في الشارع العام، وأطلق العنان لمواجيده تطرز الألم والأسى ونظراته الحزينة تشيع شمس يناير الدافئة التي كانت تغرب في حمم من آهات وآلام.

كانت أسراره تشكل سحبا ثم ما تلبث حتى تمطر أحزانا غزيرة، وريح الذكريات القارس يزمجر بين جوانحه، ولا من أدرك قصته أو اطلع على مخبآت فؤاده، كيف قلبت له الدنيا ظهر المجن؟ هل كان غنيا فافتقر؟ هل كان ذا أسرة فهُجِر؟ أو كريما فألبسه الدهر سرابيل الهوان والذل؟ الجواب على جبينه لمن يجيد لغة الملامح، أو يتذوق ملح الدامع.

انتظر حتى سجا الليل وخفت الحركة وعم السكون، فتناول ما جمعه سابقا، ثم اتكأ على ساعده وأغمض عينيه راجيا أن يكون غده خيرا من يومه.

من بعيد كان شخص آخر تخلت عنه الدنيا فصار أحمق يجري في الشوارع ليل نهار، طالته مقصلة الزمان ففصلت أحلامه عن واقعه، وآماله عن مستقبله، فأضحى لا يدرك أمرا ولا يفقه شيئا، ولا يميز بين ضار ونافع أو صالح وطالح، وإنما يجري فحسب، حتى إذا كلّت قدماه وتورّمتا وعجزتا عن حمله، ألقى بنفسه في أحضان الثرى.

وهو يجري تلك الليلة صادف في طريقه رجلا ممتدا في ركن من أركان الشارع، فتوقف، ومضت في رأسه أفكار كوميض البرق، أفكار لم يتبين معناها ولم يدر مضمونها، ثم تحركت في صدره هواجس لم يتبين حقيقتها، فأرعد وأزبد وتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم تحركت يداه حركة آلية فحمل صخرة عظيمة، ثم اقترب من الجسم الممتد قدامه، حتى إذا استيقن من نومه وتبين موضع الرأس منه، أصدر مجددا كلمات غير مفهومة وألقى عليه تلكم الصخرة…

تحرك الرجل المتشرد من حرارة الضربة لكن لم يمهله حتى ضربه مرة أخرى، لم يتحرك المتشرد هذه المرة، لكن الأحمق لم يتورّع عن حمل الصخرة مرة ثالثة وإلقائها على الرجل المتشرد نزلة أخرى… فسال الدم في سكون، وسالت معه روح الرجل.

في الصباح كشفت كاميرا للمراقبة عن تفاصيل الفاجعة، ثم بعد مدة سيق الرجلان، أما أحدهما فإلى مستشفى الأمراض العقلية، ولا من سأل عنه، وأما الثاني فإلى المقبرة ولا من شيعه أو جاد عليه بدمعة.

تأسف بعض الذين رأوا المشهد، ثم مضى كل لحاله… ومضت الحياة هي الأخرى غير آبهة.

‫تعليقات الزوار

1
  • قول الحقيقة
    الخميس 17 يونيو 2021 - 10:23

    طبعا الحادثة حقيقية و مؤلمة و تعري هي وغيرها من الحوادث و الأوضاع ماوصلت إليه القيم و الأخلاق و التضامن و التآزر . أظن أ، ماذكرت قد انقرض من مجتمعنا وظهرت الأنانية و الكراهية و اللامبالاة و غيرها من مظاهر التفرقة و التمزق و الانحطاط الفكري و الاجتماعي و الاخلاقي. ولقد استفحل الأمر كثيرا و أصبح الكثير يعاني من هذه الظاهرة حيث انعدم الأمن في شارع العام و الكل بدون استثناء معرض و باستمرار لأخطار مختلفة ومتعددة العواقب من سرقة و اعتداء جسدي و لفظي و إهانات و غيره كثير . ترى متى نتحرك للحد منهذا الوضع أم سيزداد سوءا و نضيع.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين