رواية "المتشرد" ـ 16ـ .. القصة الكاملة لسرّ تعلّق شروق بــــعماد

رواية "المتشرد" ـ 16ـ .. القصة الكاملة لسرّ تعلّق شروق بــــعماد
الأحد 10 ماي 2020 - 17:40

غادرت شروق وبقيت أنا والهُريرة والصمت..

أوصلتُها حتى اطمأننتُ على انطلاقها بالسيارة ثم عدت. طنجة أصبحت مدينة متوحشة ولا آمن على من أحبّ فيها بدرجة كافية. والمُصيبة أن يكون من أحبُّ شخصا واحدا لا غير.. إضافة إلى طنجة نفسها طبعا.

الحبّ ضعف. فجأة تكتشف أنك أصبحت مهتزّا، رعديدا، خائفا على فقدان من تحبّ. وقد كنت بالأمس – وأنت وحيد – أسدا هصورا لا تبالي بنوائب الحياة ولا تلتفت لأي شيء، ولو قال لك أحدهم أن إعصارا سيضرب طنجة ويذرها قاعا صفصفا لفتحت ذراعيك له وانتظرت – بقلب ثابت – أن ينتهي كل شيء بسرعة.

من الشرفة الصغيرة أتأمل حيّ مرشان وظلام البحر الحالك الذي لا يكسر ظلمته سوى ضوء المنار القديم الذي كان في زمن ما يرشد السفن إلى برّ الأمان، ولازال مصرّا على أداء دوره بإصرار لا يلين.

أرشف من كأس الشاي الذي تركت شروق نصفه مملوءا. أرشف الشاي بفمي ورائحة عطرها بأنفي. فاجأتني شروق مرّتين: مرّة عندما أخبرتني بالحكاية إيّاها، ومرة عندما أخبرتني بمحتوى تلك الحقيبة الرياضية التي كان يحملها والدها.

بصدق، أخبرتُ شروق أنني لست ذلك الشجاع الذي تعتقده وأن ركبتيّ كانتا ترتعشان عندما هدّدني ذلك المجرم بسكينه، لكنني أبيت أن أتراجع. ولأن شروق لديها جواب لكل شيء فقد أخبرتني أن الشجاعة ليست هي عدم الخوف، بل التغلب عليه أو الإقدام على الشيء رغم الشعور به. منطقها يفحمني دائما فآبى أن أكابر وأصمت معترفا أنها على حقّ.

شروق تعتبر نفسها مدينة لي بشدة، وتعتبرني الرجل الوحيد الحقيقي الذي عرفته في حياتها. هكذا قالت. حكت لي أنها تعرضت لموقف مشابه وسط الشارع العام عندما نهب أحدهم هاتفها وانطلق. قالت أن الشارع كان مملوءا بالعشرات من الذكور الأنيقين (تصرّ هي على تسميتهم بالذكور)، لكن أحدا منهم لم يحرك ساكنا وأفسحوا الطريق للّص رغم أنه لم يكن مسلحا. هؤلاء ليسوا أشرار أو شياطين، بل كلّ كلامهم الذي قالوه بعد الواقعة فيه مروءة وشهامة، لكنه يبقى مجرد كلام. تلك الثرثرة التي نمارسها يوميا تحت مسمّى “الإتيكيت” كي لا نبصق على نفسنا لو واجهناها بحقيقتها المزعجة.

– عشت عشرات المواقف ورأيت المئات. الناس يسبحون في نفاق كبير، ولو قرأت أفكار البعض لأصبتَ بالغثيان. إنهم يتظاهرون، يمثلون، يتقمصون. لكن، لا أحد منهم صادق إلا من رحم ربّي. وكان من حظي أن ألتقي واحدا منهم وأن تثبت لي المواقف، وليس الكلام الفارغ، أنه حقا رجل يفعل ما يؤمن به ولا يتراجع. ولا تدري كم بحثت عن رجل كهذا في أحلامي مذْ وعيت على الدنيا. ما أفعله كما قلت لك، وكما أرى في عينيك، شيء يثير الحيرة والارتباك. لكن، مثلما علّمني والدي، فالأشياء الثمينة لها قيمة لأنها نادرة. وأنت نوع نادر من الرجال لا أريد أن أفقده مهما كان الثمن. الجميل فيما حدث معك أنني رأيت مواقفك وتصرفاتك قبل حتى أن نلتقي، وهذا ما جعل إمكانية الخداع أو التظاهر مستحيلة. ســلْ أي امرأة عاقلة ماذا تريد من الرجل، فستجيبك: الصّدق والشهامة.

ما كان مفاجئا حقا هو أن الحقيبة، حسب شروق، كانت تحتوي على مبلغ كبير جدا من المال. تقريبا 100 مليون سنتيم بالتمام والكمال. وكانت واحدة من أفضل الصفقات التي أنجزها والدها، حيث استطاع بيع أحد الأبواب القديمة لإسباني مهتمّ بالتحف. الباب كان يوجد بأحد الأحياء التي كان يقيم بها الإسبان بطنجة والمعروفة بـ”الباطيو”.

الباطيو تم هدمه في السنوات الأخيرة من طرف مستثمر عقاري لا يفهم لا في العير ولا في النقير. طردوا سكانه من الطنجاويين الذين أقاموا فيه لعشرات السنين. لم يهتموا لهم ولم يهتموا لقيمته التاريخية. والد شروق، الذي تابع القضية منذ البداية، استطاع فيما يشبه المعجزة أن ينقذ بابا واحدا قبل عملية الهدم، حيث ترجّى سائق آلة “الطراكس” الضخمة أن يسمح له بأخذه فوافق بعد تردّد. لم يبدُ أبدا أن أحدا يهتم إطلاقا بقيمة المكان. الباب كان يعود لنُزُل صغير كان بــ”الباطيو”، وكانت مطبوعة عليه لوحة نحاسية بها تاريخ صناعته وهو 1889.

احتفظ والدها بالباب لسنوات. خشي عليه من التلف فعرضه للبيع أخيرا، ولحسن حظه وجد مشتريا إسبانيا دفع فيه مبلغ الـمئة مليون سنتيم، والتي أصر والدها على قبضها نقدا لأنه وأصدقاءه سبق أن تعرضوا للنصب من طرف أجانب.

بتلك المئة مليون سنتيم اشترى والدها هذا المنزل الذي أوجد به الآن، والذي كان سيفقده لولا تدخّلي. وكأني بشروق قامت بعملية حسابية من نوع ما لتصل في الأخير إلى أنني أستحق أن أكون صاحب المنزل، أو نصفه على الأقل.

يا إلهي! كم هي غريبة هذه الأحداث. ماذا لو خرجت الآن لأرويها لإخوان الشارع؟ لن يصدقني أحد بالتأكيد رغم أنهم رأوا كل أهوال الدنيا. لكن أن تجتمع كل هذه المصادفات لتبتسم لي الحياة أخيرا فهو فعلا أمر محيّر وغريب.

جوّ شهر أبريل مخادع. البرودة تتسرب إلى أوصالي فأدخل إلى غرفتي مجددا وأجلس جوار حاسوبي المحمول الذي اشتريته بأول راتب قبضته من شروق. كانت تلك نصيحتها، وأنا كنت من المُلبّين.

أراقب جديد مزاد “آلفي” فأجد أن هناك شخصا جديدا زايد بـ 230 ألف دولار. هذا جيد، لكنني أتمزق من الداخل غضبا وحسرة، ثم أعود فأهدأ متسائلا عن أي مسار كانت ستتخذه الأحداث لو كنت بعته له بــتلك الملايين المعدودة التي طلبت. كنت سأصرفها حتى آخر سنتيم وأعود لحياة التشرد كأن شيئا لم يكن. لكن، هل الوضع الآن أفضل؟ والله لا أعلم. لكن تكفيني شروق لحدّ الآن كربح أنا مستعد لدفع نصف عمري من أجله فعلا.

الغريب أننا لحدّ الآن لم نتبادل أنا وشروق أي كلمة إعجاب أو حب، باستثناء ما تقوله هي عن شخصي من حين لآخر، والتي تعرف هي جيدا كيف تقوله بحيث لا أنجرف معها وراء مشاعري. تجيد بشدة لعبة التحفظ. كأنها تخشى عليّ من جرعة حبّ قوية قد تكون قاتلة، فتمنحني إياها قطرة قطرة.

عرضُ الزواج لا يمكن أن يكون إلا من شخص قد أحبك. لكن شروق لا تقول هذا ولا تفصح عنه، وتأتيني بالسبب تلو الآخر في كل مرّة. هل يكون كلّ هذا في نظرها مجرّد ردّ دين لا أكثر. هل أرضى أنا بهذا؟ لحدّ الآن أنا نفسي عاجز عن تحديد مشاعري بالضبط لكنني أقرّ أنني لو فقدت شروق الآن، لا قدّر الله، فسأجنّ.

حياتي كانت فارغة فجاءت هيَ وملأتها فجأة. والحقيقة التي أعترف بها أنني لست مستعدا لأعود فريدا وحيدا كما كنت. لديّ الآن شخص أعيش من أجله وأحميه. وهي مشاعر أختبرها لأول مرة ووقعها على نفسي لا يكاد يضاهى.

شروق تستعد لدفع طلب تأشيرة إنجلترا. لديها صديقة هناك، وقد أرسلت لنا دعوة باسمينا لحضور نشاط ما له علاقة بالإعلام والإنترنت. شروق هي مديرة شركة “طنجيس” للمعلوميات والنشر، وأنا أحد موظفيها. هكذا جهزت كل شيء لنقوم بخطتنا.

سأسافر أولا، وستقيم هي حفل عرسها دون حضوري متحججة بأنني سافرت لأمر طارئ على أساس أنها ستلتحق بي لنقضي شهر العسل هناك. شهر العسل الذي لن يكون سوى رحلة مصيرية من أجل العودة بالكتاب أو نهلك دونه.

أتصفح أحد المواقع المحلية لأعرف جديد البرلماني عبد القادر رشيد وابنته، فأجد أن الموضوع بدأ يُنسى تدريجيا، ولو أن مسألة استثماره سياسيا لا زالت تطفو على السطح من حين لآخر حيث يتهم عبد القادر رشيد الحزب المنافس بالقيام بعملية الخطف ولو أنه يعلم في الغالب علم اليقين أن الأمر ليس كذلك، لكنه لا يتردد في المتاجرة بمأساة ابنته. إنه وغد زنيم دنيء.. وسيبقى كذلك.

أحد الأخبار أدهشني، ويتعلق باستعادة لوحة كانت قد سرقت من المتحف الأمريكي تحمل اسم الموناليزا المغربية، أصبح الطنجاويون يلقون عليها اسم “زهرليزا”، كانت قد سرقتها عصابة دولية على ما يبدو. من استعادها شابّ طنجاوي عادي يغار – مثلي وشروق – على هذه المدينة الأمّ.

حكاية سرقتها واستعادتها غريبة جدا ويندر أن تحدث في مدينة طنجة بتلك التفاصيل المثيرة. الشاب الذي استعادها اسمه خالد ويبدو أنه يقيم بحومة “اسبانيول”..

إلى أي مدى يمكن أن يكون مفيدا لنا هذا الشخص؟ سأسأل شروق وأرى ما الذي يمكن أن نفعله!

رواية “المتشرد” ـ 15ـ .. عماد يكتشف سرّ اهتمام شروق به أخيراً

‫تعليقات الزوار

15
  • يوسف
    الأحد 10 ماي 2020 - 19:11

    الحب احساس يجعل صاحبه ينسى كل ما يحيط به يتغلب على كل الصعاب وقصة عماد وشروق جزء لايتجزء من عنفوان الحب المبني على الشهامة والقدرة على التمييز بين عفوية الرجولة والذكورة

  • من الصويرة
    الأحد 10 ماي 2020 - 19:13

    تداخل مع رواية على بعد ملمتر واحد، حبكة ممتازة في انتظار القادم إن شاء الله

  • تزارين
    الأحد 10 ماي 2020 - 19:44

    .. وتعود روح جديدة لعماد.. فبسريرته النقية.. كانت له طريق جيدة إلى حدود الان.. الروائي يبتعد بنا كثيرا إلى عوالم أخرى.. تتجاوز ظاهر الأسطر المكتوبة.. شكرا لك

  • مغامر
    الأحد 10 ماي 2020 - 20:30

    بما ان القصة خيالية،لكن اهتمام هو الحفاظ على ثرواث وتقاليد المدينة،لكن انا احب القصص المكثوبة هكذا خير من قصة عاشها شخص واقعيا وبدأ يحكي لي أنها حقيقة ولو كانت حقيقة فهي عادية لا ثؤثر شيءا منها

  • الحبيب ادروش
    الأحد 10 ماي 2020 - 20:49

    جديرة التتبع يمكن ان تكون فلما

  • بنت الرباط
    الأحد 10 ماي 2020 - 22:08

    ونحن ايضا اقتنعنا بوجهة نظر شروق في تعلقها برجل شهم رغم ظروفه الصعبة. السؤال المطروح هو هل سيستردان الكتاب ام لا. وماذا بعد استرداده ؟؟

  • abousalma
    الأحد 10 ماي 2020 - 22:24

    تحية للساهرين على تنزيل حلقات هذه الرواية في وقتها المحدد وخاصة منذ الحلقة العاشرة.اي 19h40.حبدذا لو تمت برمجتها قبل اذان المغرب بنصف ساعة.على كل حال رواية تستحق التتبع والقراءة.شكرا

  • الأحد 10 ماي 2020 - 22:24

    احببت تسلسل الاحداث لدرجة اني خفت ان يقبض على عماد في قضية الاختطاف في اللحظة الحاسمة

  • محمد
    الأحد 10 ماي 2020 - 22:30

    احببت تسلسل الاحداث لدرجت انه اصبح لدي هاجس القبض على عماد في قضية الاختطاف وفي اللحظة الحاسمة ليتغير مسار الاحداث الى معاناة تجعل من القصة امتدادا للحظ السيء الذي يأبى الا ان يبقي المتشرد في خانته ولا يسمح له بالحياة كسائر البشر

  • الإثنين 11 ماي 2020 - 00:01

    الشهامة والمروءة لها علاقة بالمبادئ والضمير

  • Md bihi
    الإثنين 11 ماي 2020 - 00:21

    متى نشاهد هذه القصة فيلما سينمائيا أو مسلسلا تليفزيونيا ، إنها فعلا حكاية مشوقة جديرة بالتتبع والإهتمام . عندنا ما يكفي من الممثلين والممثلات و زيادة ، واااااا بانو آ المنتجين و المخرجين

  • السعيدي
    الإثنين 11 ماي 2020 - 00:59

    قصة رائعة، تنسينا حموضة البرامج التلفزية المغربية + mbc 5 للمحتويات المغربية.
    شكراً للكاتب وهسبريس بصفة خاصة.

  • بن قرقول
    الإثنين 11 ماي 2020 - 01:41

    لقد كنت واحدا من تلك المآة التي شاهدتهم شروق يسبحون في طوفان من النفاق وبحر من الإنفصام الحاد كلما أردت أن أنهى عن منكر تذكرت أن أبي الذي ينفق أضعاف مرتبه الشهري علينا هو جزء في صناعة هذا الواقع المؤلم وكنت أعرف أن السعادة التي كان يوفرها لنا أبي بسخاء كانت مسروقة من المتشردين..
    سامحيني يا شروق لقد كنت حاضرا يوم سرق منك هاتفك ولم أكن أستطيع أن أفعل أي شئ لأنني كنت مكبل الإرادة
    الشئ الوحيد الذي كنت أردده في نفسي وأنا أنظر إلى تحسرك على هاتفك المسروق هو
    فلوس لبن تيديهم زعطوط

  • said gourama
    الإثنين 11 ماي 2020 - 05:40

    فعلا تتشابك الاحداث وتتطور شهصية عماد بعد ان تسللت خيوط الحب لقلبه فاصبح يخاف على محبوبته شروق لهم هدف واحد الا وهو استرجاع الكتاب التاريخي المكتوب بخط اليد. ااحب يغدي غرسزة البقاء يعطي جدوى للحياة يجعلك تدرك انك تعيش لهدف. في انتظار المزيد شكرا للكاتب الذي نسج بأنامله احداث خيالة مع اشخاص في مكان معين كآنها الحقية.

  • حلا
    الأربعاء 13 ماي 2020 - 18:57

    جميل ان تذكرنا بروايتك السابقة زهراليزا بإقحامها في خضم الأحداث.يكفي فقط أن أحداث الرواية الجديدة تدور رحاها بنفس المدينة طنجة لتعود بنا الذاكرة لخالد والموناليزا الطنجاوية

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس