فضل الكلاب

فضل الكلاب
الأربعاء 29 غشت 2012 - 21:37

“كلما رأيت البشر، كلما أحببت الكلاب أكثر وأكثر”، هكذا يكتب محمد بن المرزبان، الذي عاش في القرن الذي عاش فيه المتنبي، في كتابه “كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب”. لكن في زمننا هذا، زمن الخزي، تحول البشر إلى خنازير فأصبح التمسك بالكلب خيرا من التمسك بأناس هذا الزمان، وتحولت الفلسفة الكلبية، التي تقوم على الفضيلة للوصول إلى الحقيقة، إلى مرض قائم على الأعمال اللاأخلاقية التي تقود إلى الإحباط وخيبة الأمل وغياب الثقة من أجل الوصول إلى المال والنفوذ والشهرة، ضاربة عرض الحائط بالفضيلة. كذلك يتطرق المرزبان في كتابه إلى اهتمام العرب بهذا المخلوق واحتفالهم به احتفالا كبيرا لما عرفوه عنه من وفاء لم يجدوه لدى البشر؛ فالكلاب الوفية تلازم أصحابها طيلة حياتهم، ولاسيما إذا كانوا ذوي ثروة أو نفوذ، فتحرك لهم أذنابها باستمرار وتهاجم كل من هاجمهم وتنبح عليه وتكشر له عن أنيابها. المذهب الكلبي الجديد مثال نادر للوفاء على هذه الأرض ومخلص في دفاعه عن أصحابه حتى ولو كانوا سارقين أو مختلسين، فهي تدرك جيدا مقولة: حملت إنسانا وكلبا أمانة فضيعها الإنسان والكلب حافظ.

كلبيو هذا الزمن، أصحاب الجلود الغليظة وآكلو السحالي، بات شغلهم الشاغل ليل نهار صفع وضرب كل من اسمه زيد وعمرو. أسقطوا من قاموسهم القيم الاجتماعية القائمة على الفضيلة والحرية الأخلاقية للتحرر من عبودية الرغبة وأضحوا يقدسون المتعة، الهدف الأساسي لحياتهم، التي، في رأيهم، تمثل السعادة الحقيقية، وسلكوا مسلك الجشع الذي يتسبب في آلام الآخرين، فكلبيو هذا الزمن تطبعهم اللامبالاة بالعرف وما يهمهم هو شكل اللباس واللباقة والسهرات الفاجرة والمنازل الفاخرة والسيارات الفخمة ووضع نظارات “الرايبن” على أرنبة أنوفهم وإحكام إغلاق نوافذ سياراتهم حتى لا تتسرب إليهم رائحة.

الأحياء الفقيرة القذرة المدنسة!

تراثنا يعلمنا أن كرامة الشخص تلزمه بأن ينظر باحتقار إلى كل الرغبات المألوفة في الحياة، ويعيش غير عابئ بالثروة والجاه وأن سعادته مرهونة بالتزاماته نحو المجتمع والدولة والأسرة والأقرباء، لأن هذه المتعة تولِّد رغبات لا يمكن إشباعها. ولكن شخصية كلبيي هذا الزمان معطوبة لا تحظى بالقدر الثقافي الذي يتناسب وحجمها، كما أنها شخصية ليست مستقلة وتعاني من الازدواجية والانفصام وتتسم بضعف الإرادة، وكل ما ينمو في داخلها يوحي بالشعور بالعجز والنقص. هذه الازدواجية تمنع جل أصحاب المذهب الكلبي من التعبير عما يصبون إليه، خاصة وأن خطابهم يبقى ناقصا. وفي نفس الوقت تطبع هذه الشخصيةَ النظرةُ الاستعلائية، حيث أصبحوا يعتقدون أنهم أبطال وأنهم حملة لواء القيم الصحيحة، لكنهم في الحقيقة أشخاص متعددو الأوجه ومتكبرون. وأصبحت هذه الازدواجية، بالفعل، حالة شعورية واقعية تنهش جسد المجتمع المغربي. الانفصام الشخصي الذي يعيشه المذهب الكلبي هو حالة مرضية تؤثر في التفكير والوجدان والسلوك وتدفع بالإنسان إلى أن يصبح منافقا لا شخصية له. إن تقلب الآراء والأفكار والأهواء ليس أمرا جديدا أو حتى معيبا، شرط أن يقترن بمبدأ أو مبررات معقولة. لكن ما نخشى عليه هو هذا الوباء الذي أصبح يصدر عن أصحاب المذهب الكلبي والذي نفهم جيدا أنه ليس وليد الحاضر، بل هو وليد الماضي وتراكماته، تحركه خيوط معينة تلعب دور “طابور خامس” لافتعال “حالة وجدانية” تتسم بالإحباط والاستسلام. الفارق الفاصل بين الكلبيين والإنسان العادي هو أن الأخير يعيش الواقع دون أن يستشعر الحياة، أما الكلبي فيعي محيطه جيدا ويضع الأشياء في سياق “المصلحة الشخصية” بالدرجة الأولى ويحاول أن يفهم وضعه انطلاقا من تحريفه للماضي على ضوء الحاضر وسرقة المستقبل على ضوء مغالطات الحاضر. إن مأساتنا تكمن في عدم وضع كلبيي مجتمعاتنا التي تهوى أن تطلق على نفسها كلمة “الأنتلجانسيا” للتحليل النفسي حتى ينكشف أمرها. هؤلاء الكلبيون يعتمدون خلق التناقضات عبر مجموعة من التفاعلات “المرضية” التي تتميز بالقصور أو ضيق الرؤى وتتسبب في الاضطراب الوجداني الذي يؤثر حتما على روح الإبداع وعلى المستوى السلوكي والاجتماعي.

المؤسف في الأمر أن هذه الاضطرابات الوجدانية هي في الغالب نتيجة معاناة اقتصادية ومادية، فالكلبيون أصبحوا يخافون أكثر من أي وقت مضى على مساكنهم في مربيا بإسبانيا أو شققهم الفخمة في باريس أو عماراتهم الشاهقة في لندن ونيويورك. كما أن همهم كله أصبح يتركز على مستقبل أبنائهم الذين لا يريدون لهم أن يتعلموا في مجتمعاتهم لأنهم لا يؤمنون ولا يحترمون تراث بلدانهم المحلي والأصلي ويريدون لهم أن يتشبعوا بالقيم الغربية ويتقنوا اللغات الأجنبية لحملهم على الانفصال عن مجتمعاتهم حتى لا ينحدروا إلى مستواها. هكذا تتراكم الانعكاسات المدمرة على صعيد كل ما هو ثقافي وإبداعي، وحتى اجتماعي، على حساب الكرامة التي تخلى عنها كلبيو مجتمعاتنا. وهكذا يتبين بشكل علني موقفهم المتناقض والمتذبذب الناتج عن عدم الثقة بالنفس، فتسقط أعمالهم إلى قاع سلال المهملات!

نحن نشعر بالمرارة التي تشم رائحتها في الهواء المسموم والتي يتسبب فيها الكلبيون. إنهم يساهمون في تشويه معالم حضارتنا وصورة ثقافتنا لجيلنا القادم وللأجيال الغربية، ولا تهمهم قيم العمل الخلاق بقدر ما تهمهم المصالح الضيقة والترويج لأنفسهم والتفاخر بما لديهم وما يميزهم. لكن الخطير أن تردم اليد اليمنى ما أنجزته اليد اليسرى من تراث راق لا يزال يسطع في سماء مجتمعاتنا. والعجيب في الأمر هو اكتساب أصحاب المذهب الكلبي القدرة على قول الشيء وعكسه في آن واحد، فتدور الدائرة ويرجع الإنسان إلى نقطة الصفر متحولا معها إلى “يراعة” تجلب الخراب على نفسها فتأكلها الجرذان. والأخطر هو استسلامنا للمذهب الكلبي ليخلو له الجو لتمرير ما يريده، لأن المهم عند أصحاب المذهب الكلبي هو خلق الفرص لبعض «”لضعفاء” الذين لا يعرفون حتى من أين تؤكل الكتف، لكنهم يعرفون نوع الصفقة التي ترفعهم وتقربهم من المختلسين. وهذه العقلية لا تتطلب الكثير من الخداع والمكر بقدر ما تقوم على مهارة مبدأ «انهب واركض». وأغرب ما في الأمر هو إيمان أصحاب المذهب الكلبي بهذا التدجين نتيجة العقد النفسية وانفصام الشخصية وفرض وجهة النظر الواحدة وتضعضع بنيتهم الأخلاقية لأنهم لا يؤمنون بقضايا أوطانهم لأنه لا روح لهم فيصبحون خارج حدود المكان والزمان. لكنهم سيقفون على الحقيقة في يوم من الأيام كما خرجت من فم “دلوريس ابروري”، الكاتبة والمتمردة الإسبانية التي قالت مرة “من الأفضل أن يموت المرء على قدميه على أن يعيش على ركبتيه”.

‫تعليقات الزوار

5
  • مراد يوني
    الخميس 30 غشت 2012 - 02:08

    مقال رائع وواقعي محض
    امراةمن اسكوتلاندا تربي الدئاب ولديها اكبر دئب بالعالم وقد عضها اكثر من مائة مرة وتقول | افضل عضات الدئاب بمليون مرة على عضات البشر الخانقة الشريرة

  • حسن بلعروك
    الخميس 30 غشت 2012 - 03:50

    السيد حسن ابدعت كما عهدناك دائما.
    نعم الكلب وفي لكن لأصحابه إذ ليس للكلب مبادىء إلا مبدا الوفاء لمن يربيه .
    مع ذلك للكلب مزية أخرى :إنه لا يبدل صاحبه و لو كان معدما فقيرا بآخر مترفا و غنيا .لكن كلاب البشر تفعل ذلك و بسرعة البرق.فهي أكثر من الحرباء تلونا ومن العقرب غدرا.
    أستاذي الكريم أذهبت بهذا المصطلح الجديد القديم غيظي على هؤلاء الكائنات الغريبة الشريرة التي لا تشكر نعمة و لا تعترف بجميل و لا تحترم حتى نفسها و لا تحب و لا تحترم لا وطنها و لا مواطنيه.إلاهها المصلحة و سنتها المصلحة و غايتها المصلحة و اسمى امانيها المصلحة.
    دمت مبدعا السيد حسن بنشليخة.

  • Hajidat
    الخميس 30 غشت 2012 - 11:17

    Your article seems kind of pesimistic. Humans are the same since the creation of Adams. Allah created people and created also all human characteristics like love, jealousy, hatred, beautiy, ugliness, cheating, faith…Life is based on the 2 side opposite and every characteristic takes its value from its opposite. Like day takes it value from night, water takes its value from fire, man takes its value from the woman. My friend, earth life is like that and we have to deal with it. There is suffering, cheating, stealing, betraying, loving, hating…all these value are created by the creator ( Allah) and of course that is for a reason. Oh before I forget, there is Palestine and Israel and that conflict is also for a reason. That conflicts also has good and bad stuff for Muslims and non Muslims…Our life is all a conflict as He said (Tilka ayyamon nodawiloha bayna annas)

  • لامنتمي
    الجمعة 31 غشت 2012 - 17:15

    جاء في الحديث الشريف: يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدكم جرو كلب خير له من أن يربي ولدا .

  • WALAD
    الجمعة 31 غشت 2012 - 17:25

    Good article. I myself live in USA and was married to a dog loving wife and she treat them more than her kids. One time, a friend of mine came to the US and when she was introduced to my ex wife, she noticed that we have two dogs in the house. My ex told her that she she has 3 dogs. so my friend was like where the third one? my ex replied pointing her finger at me that I am the third dog. so to the Moroccan lady this was an insulte but I know deep inside me my wife meant it in a good way since she love dogs, she loves me too.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة