في تدبير المسجد وتكوين الساجد

في تدبير المسجد وتكوين الساجد
السبت 15 ماي 2021 - 20:48

يعتبر المسجد مرفقا أساسيا في المدينة الإسلامية منذ كانت وإلى اليوم، ومعلما حضاريا وثقافيا، اجتهد الزعماء والشعوب في إقامتها، والإبداع في هندستها وزخرفتها. باعتباره قناة و جهازا من “أجهزة الدولة الإيديولوجية” (بورديو)، فهو والمدرسة والأسرة و… مؤسسات تربية وتهذيب للمواطنين، والإدماج الطوعي في المنظومة الاجتماعية والثقافية.

التدبير الشعبي للمسجد:

لهذه الأهمية الحيوية والوجودية، يتم الحرص على جعله ضمن البنيات الأساسية للتجمعات السكنية في القرى والمدن. تهرع الجماعة إلى تشييده وتجهيزه والإنفاق على القيم عليه، حيث يبادر الأفراد إلى إخراجه للوجود وكذا ضمان استمراريته. إيمانا بقدسية الفعل، ونبل المهمة، وطمعا في الجزاء الأخروي المتمثل في “بيت في الجنة”. ولهذا يختارون له أحسن البقاع وأظهرها لعابري السبيل.

كما يتطاول ويتنافس الوجهاء والأعيان – “ولكل امرئ ما نوى” – بإظهار السبق في العناية به، كما يظهر أهل الورع والصلاح السبق في إعماره. وبهما معا يتحقق العمران المادي والمعنوي للمسجد. وبسبب هذا الإشراف الشعبي عليه، كان ساحة وميدانا لممارسة السلطة لفاقديها في مجالها، وإبراز الزعامة والقيادة في تقرير ما يجب وما يخب، وقد تصل أحيانا إلى امتلاك ناصية الإمام في إقامة الصلاة أو تأخيرها. وهو ما جعل منه في فترة زمنية، مطية وجسرا للحشد الجماهيري، والكسب الانتخابي.

من التدبير الشعبي إلى التدبير الرسمي:

بحصول المغرب على الاستقلال، سيتم إخضاع المسجد للتدبير الحكومي على غرار باقي المرافق العامة. مع ترك هامش للمحسنين في سد ما لم تسده الحكومة في هذا الشأن، وتحمل عبء ومصاريف تشييده. تجلى ذلك بشكل بارز في المخطط الرباعي 1981 – 1985 حيث سيشغل “المسجد أهمية كبرى في المخططات الحكومية، تكون على الأقل مماثلة لتلك المخصصة للمدرسة أو المستشفى أو دار الشباب” (سليم احميمنات). فكل هذه المؤسسات تتقاسم عبء العناية التربوية: نفسيا وصحيا واجتماعيا للمواطن. وهي المهمة التي أوكلت لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي حدد ظهير 12 أبريل 1976، اختصاصاتها، والمتمثلة أساسا في “العمل على رفع مستوى رعايانا المسلمين والنهوض بهم للقيام بتبعات هذا العصر، وتحصينهم وحمايتهم من المعتقدات المخالفة لمبادئ الدين الحنيف”، وهي المهمة التي ستضطلع بها الوزارة عبر قناة المسجد أولا، ثم المؤسسات التعليمية ثانيا، عندما أسند لوزارة الأوقاف تدبير الشأن التعليمي حينا من الزمن. وأيضا من خلال حضورها القوي في مؤسسات ثقافية وازنة، كالمركز الوطني السينمائي، المجلس الأعلى للثقافة والمجالس الجهوية للثقافة، واللجنة الاستشارية لدى المركز الوطني للتراث المخطوط.

المسجد آلية للتحصين الثقافي والتحصيل العلمي:

والمهمة التعليمية والثقافية ليست بجديدة على المسجد، فمنذ العهد النبوي والمسجد منارة تعليمية كما هو قبلة تعبدية. فحلقات العلم التي كان يشهدها، لا تقل عددا عن حلقات العلم. ورفعا من شأن الأخيرة، اختار الرسول (ص) الجلوس فيها، دون أن ينقص ذلك من شأن الأخرى شيئا. فمن خلاله تعمل وزارة الأوقاف بالاضطلاع بمهمة “الحفاظ على القيم الإسلامية وسلامة العقيدة، والحفاظ على وحدة المذهب المالكي، وضمان إقامة الشعائر الدينية في جميع أنحاء المملكة… إضافة إلى التكوين والتأطير والدراسات في المجال الديني” (ظهير نونبر 1993)، وهي كما نلاحظ، مهام تعليمية مدرسية.

إن التاريخ العلمي للمساجد، قد يغطي في أحيان كثيرة تاريخه التعبدي، فجامع القرويين والزيتونة والأزهر، لا تكاد تذكر، إلا وتبادر إلى الذهن إشعاعها العلمي قبل أي شيء آخر، وهو ما جعل المستشرق دولفان يعتبر القرويين “أول مدرسة في الدنيا”. فكل من استهواه طلب العلم، واستولى على لبه إكسير المعرفة، إلا وشد الرحال إليها، في زمن لم يكن يعلا على كعبها أي من الجامعات المعروفة اليوم. وسيرا على الدرب نفسه، جعلت الحركة الوطنية المغربية من المسجد معاهد للتعليم المعرفي والتكوين السياسي، في ما كان يسمى بالتعليم الحر. وقد أدى المغاربة مقابله تضحيات جسام، للحفاظ على الهوية الثقافية المغربية، والوقاية من الانحرافات الفكرية والعقدية، التي كانت تزرعها المدارس الرسمية الفرنسية والإسبانية. كما كانت المساجد المحضن الذي بربي على الوحدة وعدم التفرقة بين المسلمين، وهذا ما أينع ثمار “قراءة اللطيف” جماعيا، أمازيغ وعرب لمواجهة الظهير البربري العنصري.

حضور الإعلام في ثنايا الوعظ والإرشاد:

بالإضافة إلى الدور التربوي والتعبدي للمسجد، فإنه يؤدي دورا إعلاميا يساهم في تشكيل رأي عام، فـ “الخطبة المنبرية إعلام وتواصل أسبوعي إلى العامة والخاصة… تبصيرا للمسلمين بشؤون دينهم ودنياهم” (عبد الحي عمور)، وذلك بالتوجيه والإرشاد لفهم أحداث الواقع والتعامل معها من منطلق لا يتناقض وثوابت الدين الحنيف، ضمن نسيج إعلامي ما فتئ يتعاظم ويتنافس في كسب القلوب والعقول. لأن الواجب الشرعي، يتطلب أخذ الأحكام الشرعية من مظانها، والعمل على نشرها، وهو ما يجعل من منبر الجمعة محركا للرأي العام في الكثير من المحطات محليا وكونيا. واختيار أسلوب الخطابة في ذلك، إيمانا بأنه أكثر الأساليب إقناعا للناس، لما ينطوي عليه من “قوة على إقناع الناس ما أمكن في كل أنواع الأمور” (أرسطو)، لاستمالتهم والتأثير فيهم، وهو أسلوب كان شائعا عند العرب، يتباهون بأنسابهم خطابيا، فهذبهم الإسلام واستبدلهم عوض ذلك، استعماله في الارتقاء الانساني والبناء الحضاري، و”صاحبها إنسان موهوب يجتمع له القوم، فيفيض على عقولهم وقلوبهم بما ينقع الظمأ، ويبرد الصدر، ولا يبلغ مبلغ الخطيب المؤثر، غير إنسان بعيد النظر، رصين العبارة، كثير التجربة، صادق الإحساس”.

وتعاني خطبة الجمعة اليوم، تراجعا مثل الذي يشهده التعليم والثقافة ومختلف الميادين المعرفية. فصارت عبئا على المصلين، يتهاونون في الإسراع لحضورها، تفاديا لسماعها. وللرجوع بالخطبة إلى سالف عهدها، وإعادة الروح إليها، حتى يشعر الناس بحاجتهم إليها ويتفاعلون مع ما يقوله الخطيب، ويكون لها ذلك الأثر العميق في تشكيل الوجدان والسلوك، تم تدشين المعهد الإسلامي لتكوين الأطر الدينية سنة 1985، لتكوين الأئمة الخطباء، وتمكينهم من الأدوات التي من شأنها مساعدتهم على النهوض بواجبهم في توجيه وإرشاد الجمهور، وذلك بـ “الرفع من المستوى العلمي والثقافي للخطيب، والارتقاء بالخطبة المنبرية شكلا ومضمونا لتؤدي رسالتها الروحية على الوجه الصحيح، ولتكون في مستوى تطلعات الجمهور” (التنمية الوقفية). إيمانا بأن الخطيب ينبغي أن يخضع للتكوين والإعداد كالطبيب والمهندس…. خصوصا وأن نقل الخطبة أصبح متاحا على الإنترنت والشاشات، منافسة لباقي وسائل الإعلام، مما ضاعف مسؤولية الخطيب، الذي أصبح مطالبا بالتساؤل عن اهتمامات الناس وأولوياتهم. تحقيقا لمهمة الاستخلاف البشري في الدنيا، وينال الجزاء الأوفى في الآخرة.

‫تعليقات الزوار

1
  • sifao
    الثلاثاء 18 ماي 2021 - 21:33

    الدولة تنفق الملايين من اجل تعليم وتكوين ابناءها وفي النهاية يتخرج من المدرسة من يتحدث عن موضوع لا يفيد ولا يستفيد منه احدا في شيء…يحدثك عن المساجد والساجد…بئس الفضاء الذي اوجدني

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 1

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس