في ذكرى رحيل إدريس بن زكري ..

في ذكرى رحيل إدريس بن زكري ..
الإثنين 20 ماي 2013 - 22:31

مات قرير العين ولم يُسعفه جسده على الانتقال حتى آخر الليل

من نواحي تيفلت قدم إلى جمر المرحلة، تميزه أثار انتباه عبد اللطيف اللعبي في زمن الأحلام الكبرى والثورات الحمراء، وعبر 17 سنة قضاها في زنزانة تعلم أن يهرب أمانيه إلى أمكان شهية، وحتى وهو يتحول إلى رمز للمصالحة الوطنية مع التاريخ والجغرافية حافظ على تواضعه ونقائه وحكمته وتمثل مع الحكمة الفرنسية.. “ما يستحق أن يولد من يعيش لنفسه”.

كما مؤسسات المغرب لم يسعفه جسده على الانتقال الديمقراطي، حيث اقتسام الحقيقة بالتساوي بين لحظتين قافيتين، لم يكن إدريس بنزكري مجرد اسم علم مفرد، إنه وشم على جسد مرحلة بكاملها.

في مسار حياته نقرأ التحولات العميقة لمسار تاريخ وجغرافية وذاكرة وطن يتعلم كل مرة المبادئ الأولى للحبو نحو دائرة النور.. إنه ضحية مرحلة قافيتين مرحلة بناء الدولة ومرحلة دمقرطة مؤسسات الدولة.

في المرحلة الأولى أدى الثمن غاليا، حين دفنت السلطة المستبدة زهرة عمره في رماد الهباء، وفي المرحلة الثانية قدم ما تبقى من عمره لإحياء وتوطيد ركائز دولة حلم بها واشتهاها فاقتات على لحمه الأعداء والأصدقاء، بدا في لحظة كما لو أنه يهب قميصه لتعبث به ذئاب المرحلة ويدفن فيه كل معارضي المصالحة من بقايا العهد البائد، كل هزائمهم فيما يقتسمون معه الغنائم.

خجول، متكتم، متلعثم، هادئ هو إدريس بن زكري، عرف الإخوة والأعداء كيف يقتسمون جلده بالتساوي، الأطر الصاعدة للعهد الجديد الذين كان يلزمهم وقود لقاطرة المرحلة ورفقاء دربه الذين شمروا على ساعد الجد ليدفنوا من خلاله ما اعتبروه تنازلات جارحة.

في شخص إدريس بن زكري تتقاطع مسارات موجعة للمغرب الحديث.. الخيانات القافية بين رفاق الدرب، ثعلبية حراس العهد القديم الذين يبحثون عن صكوك للغفران لجرائم الماضي مع استمرار عفونة جثثتهم فاضحة في الحاضر، ومكيافيليات بعض الرفاق الذين يجدوا في إدريس بن زكري غير قميص عثمان ليعلقوا عليه هزائمهم أو أحلامهم الموءودة.

يبدو لي إدريس بن زكري أحيانا على النقيض من ديوجنيس الحكيم اليوناني الذي كان يحمل مصباحا في واضحة النهار كشفا عن الحقيقة، كان إدريس يحاول فقط أن يقدح شرر النور في عتمات الظلمات فواجه في طريقه سلطة متكلفة تغلق الأبواب تجاه منافذ النور وبين سورات العهد القديم الذين كان بإمكانهم إحراق كل شيء بما فيها ملفات الحقيقة لكي لا تستطيع الأجيال القادمة إيقاظ شمعة في الظلام، وأيضا إخوته من بني جلدته الإيديولوجية فضلوا أن يلعنوا الظلام بدل أن يوقدوا شمعة، وحتى بعض رموز العهد الجديد الذين نعوا إدريس بن زكري على لسان الملك بكون الأشجار الواقفة لا تموت، كانوا يحسون حجم الفقد حينما رحل إدريس، لكن بعضهم لم يقدموا لإدريس ما يساعده على الحياة.. وحده جسده الذي لم ينتعش بلذات الحياة كان وقودا لمرحلة سياسية بكاملها، لقد وهبنا بن زكري روحه ليصالحنا كمغاربة مع ذاتنا وتاريخنا، مع جراحنا وأفقنا الوردي.

إنه رجل في أمة، صادق هو مثل قبلة منتزعة في غفلة عن حراس الليل أو بين قذيفة وأخرى في ساحة معركة طويلة، أمين هو حتى حينما نثق بقدرة دمنا، لحظة النزيف، أن يصلنا من السيروم المعلق بالقرب من سرير النجاة، هش مثل بسمة طفل، صبور هو مثل جمل، علم يعلو على الهواء الملوث، هكذا هو إدريس بن زكري الذي سيظل وشما على زمن قاس بالمغرب، كان يعي أنه لا يمكن أن نصنع الخبز من قمح لم يزرع بعد، وأن الحياة ليست حصانا حتى يمكن حملها على الجري بالسياط، ووحده يعلمنا أن المعاناة هي الطريق نحو الصدق والحقيقة.

التقيت إدريس بن زكري عشرات المرات، وكل مرة كنت أجده هو هو.. غامض مثل زهرة القرنفل، خجول مثل فتاة بكر لحظة الخطوبة، صامت مثل بئر عميق لا يتردد فيه صدى صوتك، متردد مثل علامة استفهام، مستقيم خط انتصاب اليافع في مواجهة شكوكه، كتوم مثل رصاصة صامتة… حتى حينا تجمح بي أجنحة الخيال لا أتصور إدريس بن زكري إلا مثل آخر وردة يرثي فيها القمر باعتباره ضحية لعهدين من أجل أمة.. ضحية العهد القديم حين قدم زهرة عمره قربانا لسجن حراس القيم، وضحية لعهد الجديد لأنه لم يساوم أو يقايض على ثمن الانتقال.. لقد واكبت شخصيا وعن قرب اللحظات الموجعة والمخاض العسير لقبول بن زكري بقرار المغامرة من أجل الحقيقة والإنصاف صحبة كوكبة من أصدقائنا مشتركين إلياس العماري، أحمد لحليمي، عبد القادر الشاوي، صلاح الوديع، علي بوزردة، أحمد حرزني، نرجس الرغاي، سميرة سيطايل وآخرين… كلما التقيته، كان يبدو كغزال جريح، ولمست في عينيه ذلك التردد الصعب بين الخوف من غدر سلطة المخزن ورهبة من ضياع لحظة تأسيسه في زمن المغربي الحرج.. كان لا يتكلم كثيرا لكن في عينيه ظلت تنتصب كل الأسئلة الموجعة.

ذات ليلة وقبل إعلان انطلاق مسار المصالحة بأسبوع، التقيته بالمركز الألماني “غوته”، رفقة الشاوي عبر لنا عن تخوفه من سهام الإخوة وسموم رفاق الدرب وشيطنة دروب المخزن، وأعاد على مسامعنا حكاية فاوست الذي باع نفسه للشيطان وفي اللحظات العصيبة لمخاض مبادرة تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة التقينا بهولندا وقادتنا دروب المحبة إلى التسكع في قلب ليل باريس عاصمة الأنوار والعطور والنساء الجميلات… يومها رأيت في إدريس بن زكري يقينا لم أكن أؤمن به، وعلمني أن الأماني الكبيرة التي لا نستطيع التضحية من أجلها لا تستحق أن تعاش، أو حتى أن نحلم بها والأجدر بنا أن نتبول عليها في أول منعطف للطريق.

إدريس بن زكري الذي قادنا نحو إنصاف حقيقتنا، كان أكبر من الحقيقة رغم تواضعه، إنه لحظة التجلي الأسمى لانخراط الروح في وهج اللحظات المفصلية لتاريخ أمة.. أناني هو في قناعاته الوطنية، جاء في لحظة أشبه بالمخاض العسير لولادة أمة تسعى للمصالحة مع تاريخها وذاكرتها، وفي اللحظة التي كان يقود فيها المغاربة ليصالحوا جراحهم ويذهبوا نحو جلسات الاستماع مطهرين من أحقاد الانتقام عبر سياسية الصفح الجميل خاصمه جسده، وتخلى عنه في منتصف الطريق نحو الحياة وأصبح مثل آخر وردة نرثي فيها القمر.

لم أستطع الحضور في جنازته حتى وإن قدمت من الدار البيضاء إلى شارع المقاومة أمام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سابقا، انتابني خوف كما لو أنني أُشيع نفسي إلى مثواها الأخير، لم أستطع الخطو على بياض كفنه لأنني كنت أخشى عدم تسديد حقه في الوجود وأن ما تبقى من عمري لا يسع قامته وبهاءه، ترسخ في ذهني الآن أن إدريس بن زكري لم يمت فقط لأنه كان فوق المساومات والترضيات، كان له حس إنساني دفين وظل يخشى أن يموت قبل أن يوقع على أهم مكتسب اعتبر يومها رائدا في التجربة العالمية للمصالحة، يتعلق الأمر بالتغطية الصحية لضحايا سنوات الرصاص.

قبل تقديم تاريخه كطحين رحى لمغرب المختبر المفتوح على كل الاحتمالات، أتذكر ما قاله لصلاح الوديع يوما في لحظات التجلي الأسمى حينما علمنا بمرضه: (أخشى أن نضيع في هذه اللحظة التاريخية إدريس بن زكري.. إنه الأعمق فينا ممن يقود خطواتنا نحو المنافذ الأكثر توهجا من قداسة الشر).

وفي فيلا فؤاد عالي الهمة الذي أشرف على تدبير مرحلة المصالحة التقيت ادريس بن زكري بتمارة، أحسست يومها أن الرجل أكبر من أن نختزله في جملة مفيدة، كان واضحا في شروطه التي تختصر وجع مرحلة، وأحترم اليوم في فؤاد عالي الهمة إنصاته لما سماه “إرغامات إدريس بن زكري”، يومها خاطب الرجل الأكثر نفوذا في القصر، اليوم بن زكري وهو الذي قبل أن أوصله بسيارتي المعطوبة على أن توصله سيارة الدولة بكل الأهبة الممكنة: (إن المغرب يشاء اليوم عبرك الاعتماد على إمكانياته الخاصة وعلى عبقرية أبنائه لإنقاذه من ثقل ماضيه لمواجهة أسئلة حاضره وتحديات مستقبله).

في الطريق إلى منزله بالرباط، التمس بن زكري مني أن أنزله بشاطئ الهرهورة كنا قد تجاوزنا منتصف الليل بدعوى أنه يريد أن يتمشى على شاطئ البحر، رفضت ومازحته قائلا: أنت الآن في ذمتي كمسؤول دولة وأي شيء سيحدث لك سيعرض مصيري للخطر، وذكرته بزمن الوجع حين كان معتقلا بالسجن المركزي بالقنيطرة، وفي ظل مدير متسامح كان يسمح لهم كمعتقلين سياسيين بمغادرة أسوار السجن يوم السبت أو الأحد شريطة أن يعودوا قبل غروب الشمس، وحدث يوما أن ذهب الشاوي وبن زكري إلى نهر أبي رقراق للسباحة وغرق بن زكري وتأخر الجمع عن الموعد المحدد، فانتزعت منهم الحرية ولم يعودوا يرون شمس الرباط كل أحد بسببه، وضحكنا ضحك طفلين معا.. لكنه أصر أن يختلي بنفسه كما لو يستفرد بقلقه الحميمي جدا..هو ذا إدريس بن زكري كما عرفته.

‫تعليقات الزوار

7
  • ادريس
    الإثنين 20 ماي 2013 - 23:11

    ادريس، روح سطعت بيننا وغادرتنا يتامى.

    رحمة الله عليك يا ادريس بنزكري.

  • fouzia
    الإثنين 20 ماي 2013 - 23:13

    رحم الله الفقيد وان لله وان اليه راجعون…

  • ياسر
    الإثنين 20 ماي 2013 - 23:37

    رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله آمين يارب العالمين ، أخشى أن يكون المرحوم آخر شهم في هذه البلاد.

  • amazigh
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 00:02

    تركتنا في وسط الطريق.رجل عجزت النساء ان تلدن مثله في زمننا البئيس.زمن الانا والتملق.رحمة الله عليك يا بطل

  • EL YAZALI OUSSAMA
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 13:26

    رحم الله الفقيد وان لله وان اليه راجعون…

  • zemouria de la suéde
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 14:53

    يعجز اللسان عن وصف ادريس بنزكري,رجل لا كل الرجال,فضل التضحية بنصف عمره وراء القضبان على ان يتخلى على مبادئه. هذا بكل اختصار ابن مدينتي الصغيرة تيفلت نحترمه ونقدر نضاله وسيظل راسخا في اذهاننا. رحمة الله عليه وشكرا لصاحب المقال على الكلمات الصادقة في حق الفقيد..

  • CASA
    الثلاثاء 21 ماي 2013 - 18:11

    Le seul vrai militant qui est resté fidéle à ses principes et qui n'a pas profité de sa situation ……………………………………………les autres bonjours l'opportunisme

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 1

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال