قصبة جرسيف .. تراث إنساني بِضِفتين

قصبة جرسيف .. تراث إنساني بِضِفتين
صورة: أرشيف
الأربعاء 21 أبريل 2021 - 22:48

ما بدا منذ أزل يكاد يكون أول مجهول هو التراث، وكل فعل وتفاعل الإنسان في مكان ما وزمن ما حتى الآن هو أيضاً. علما أن في كل فترة من الفترات هناك بقايا ومعالم مادية ولا مادية، ومن ثمة تراث، بقدر ما يحتويه من هوية وخصوصية بقدر ما يقتضي من بحث ودراسة وحماية ووعي وتحسيس واستثمار، إغناءً لعيشِ وتعايشِ وحاضرِ ومستقبل الإنسان. وكم هو مفيد ما يُعقد حول التراث من لقاء علمي هنا وهناك لترتيب ما هو بحاجة للالتفات والانصات، ولعل من اللقاءات ما تتوجه بالعناية لمواقع تراثية ضاربة في القدم لإبراز موارد زمنها وتثمينها، وتحديد ما من شأنه جعل تراثها داعماً لتنمية محلية عبر ما يحضر من طرح ورأي ومقترح.

في علاقة بما يتقاسمه شرق المغرب من تراث واسع ومتباين، كانت منطقة جرسيف وعاءَ تفاعلٍ بشري عبر فترات تاريخ البلاد، لِما هناك من حفريات ومعالم أزمنة غابرة وآثار لا تزال بحاجة لعمل علمي من أجل الكشف عنها وإبراز مكامنها واستثمار رمزيتها. ولا شك أن الماء بالمنطقة كان ولا يزال مكوناً بيئياً معبراً وعنصراً فاعلاً موجهاً، جعل تراث جرسيف ومحيطها ذا خاصيةٍ بيئيةٍ وتفرد موضع من خلال التقاء مجريين مائيين شهيرين فيها ضمن مشهد مورفولوجي طبغرافي ملفت للنظر، ومن ثمة ما طبع المنطقة من هوية مجالية منذ القدم فكانت بأثر فيما هي عليه من تراث غني متعدد في أوجهه وتجلياته. علماً أن جرسيف “أجرسيف”، ربما اسم بجدلِ بنيةِ بيئةٍ وعلاقة بطبيعةِ موقعٍ ونقطة تلاقي وادين “ملوية” و”مللو”..

وإذا كانت منطقة جرسيف بمثابة وعاء لإرثٍ إنساني واسع يجمع بين شاهدِ عُمران ورمزية زمن، فلا شك أنه بوجدان وتمَثل واعتقاد ورواية وشأن وامتداد في الذاكرة المحلية كأثاث أصيل في شموليته. وبقدر ما يطبع المنطقة من تراث لا مادي يجمع بين نمط عيش وتقاليد وعمارة وتعمير ولباس وغذاء وخبرات واحتفالية وفرجةٍ وتعبير، تقول اليونسكو إنه كل ممارسة وتصوّر وتعبير ومعارف ومهارات، كذا ما يرتبط بهذا وذاك من نِتاجِ حرفٍ وأمكنةٍ ثقافيّة وغيرها، وأن ما هو متوارث رمزي من جيل لجيل هو ما يبدعه الانسان فرداً وجماعة معاً من جديد بشكل مستمر ووفق ما ينسجم مع بيئة ما وزمن ما، بقدر ما تزخر بتراث مادي على قدرٍ عالٍ من القيمة التاريخية الإنسانية لِما كانت عليه المنطقة من أدوار ووقع في زمن البلاد والعباد.

ولعل جرسيف بقدر ما هي موقع فسيح متميز واستقرار بشري قديم ارتبط بالماء أساساً ووادَيْ “ملوية” و”مللو” خاصة، بقدر ما عُرف في زمن المغرب الوسيط بالقصبة التي اختارها بنو مرين استراتيجياً كما في علم المهتمين والباحثين لتخزين وتأمين موارد عيشهم، قبل أن تتحول جرسيف القصبة إلى دار إمارة على عهد السلطان أبي عنان المريني أواسط القرن الثامن الهجري. وكان من تَميُّز المنطقة خلال هذه الفترة من تاريخ البلاد في علاقة بمياه الوادين، انتشار بساتين أشجار مثمرة عدة لدرجة تذكر المصادر أنها كانت تبدو كأنها جنة آدم لِما يحيط بها من جفاف.

ضمن هذا الغنى الذي يطبع جرسيف ومحيطها تراثياً، ارتأينا بمختصر مفيد اطلالة حول ما هو رمزي في علاقة بالماء، ومن ثمة الحديث عن مكونين مجالين أساسيين: وادَيْ”ملوية” و”مللو”. علماً أن ما هو رمزي تراثي محلي مُرتبط بأشرطة مياه تتقاسم المجال وتحكُمه منذ القدم حتى الآن، هو إرث إنساني وذاكرة وكيان وهوية حاملة لتميزٍ وثقافة وحضارة معاً. مع أهمية الإشارة إلى أن مساحة هامة من معالم تراث المنطقة اندثرت مع مرور الزمن وما تبقى يوجد على ايقاع ضغوط عدة ومتداخلة. وعليه، هناك حاجة ليس فقط لإلتفات وإنصات وإنقاذ، بل لبحث وتنقيب ودراسة وورش عمل في أفق ما هو إنماء ونماء رافع.

وغير خاف أن منطقة جرسيف لا تزال بغير ما هو شاف من أبحاث تراثية علمية، ومن ثمة من نصوص أكثر تجاوباً مع زمنِ مكانٍ ومكامنِ تراث منطقةٍ واسع، ومن هنا أهمية تكاثف جهود وفعل وتفاعل الجميع، كل من موقعه، من أجل ما هو داعم مساهم في حماية تراث المنطقة وتثمينه ليكون له دور لفائدة الحاضر والمستقبل معاً، فضلاً عما ينبغي من وعي بقيمة إرث حضاري وبسبل دمجه كثراء وثروة في النماء المحلي.

ولا شك أن أهل وسَلَف جرسيف عبر تلاقح الأجيال بين وادَيْ “ملوية” و”مللو”، كان لهم دور في حماية تراث المنطقة عامة، الرمزي منه خاصة، من ثقافة العيش وتعايش وتقاليد وقيم حياة وتعبير وسبل تدبير البيئة وعلاقات وغيرها. ولولا هذا السلف وحفاظه على ما طبع المنطقة من هوية وتراث، لمَا تعرف عليه الخلَف ولمَا ظل حاضراً حياً عابراً للزمن. إن سبل وثقافة وتجليات استغلال مياه وادَيْ “ملوية” و”مللو”، ومن ثمة ما هناك من مياه جارية وضاف ونُظم حياة وطبيعة تنظيم مجالي وسواقي وتدبير وتقاسم ومنظر زراعة وأغراس وغيرها، تشكل بحق خصوصية منطقة وهوية مكان وشواهد إنسانية ضاربة في الزمن.

من هنا ينبغي تثمين وحماية فسيفساء تراث المنطقة وتحفها الإنسانية المادية واللامادية، من خلال، لِم لا، متحفٍ خاص برؤى وأرشيف وأثاث محلي ما، من شأنه احتضان وتجميع وإبراز وتسويق ما هي عليه المنطقة من هوية بيئة مائية وغنى وتنوع تراث. وكذا ينبغي الاشتغال، لِم لا، على دليل جامع لمعالم وعلامات تراث جرسيف، فضلاً عن إطار داعم كما بالنسبة مثلاً لمركز بحث في التراث المحلي، لإثارة ما هو بعلاقة من جهة وجمع ما ينبغي من معطيات ووثائق وأرشيف يخص المجال من جهة ثانية. ناهيك عما يمكن أن يسجل من قيمة مضافة رافعة للتنمية المحلية، من خلال الترافع في أفق تصنيف ضفاف وادَيْ “ملوية” و”مللو” على مستوى مجال جرسيف المدينة وجوارها كتراث وطني، ولِم لا إنساني.

إن تراث جرسيف في مستواه المادي واللامادي معاً، بقدر ما يشكل عنصراً من عناصر تاريخ المنطقة وهويتها واستمراريتها وتطورها وتفاعلها ضمن أزمنةٍ ومكان، بقدر ما هو بمثابة ذاكرة جماعية ونِتاج تلاقح أجيال وسلفٍ عبر قرون من الزمن، ومن ثمة سبيلاً لتموضع وتموقع الخلف في كل هذا وذاك. ولا شك أن جرسيف حيث وادَيْ “ملوية” و”مللو” هو وعاء تراث بأصول متعددة لِما كانت عليه المنطقة من علاقات وانفتاح على شرق البلاد وغربها خاصة، من خلال سبل عبور ورحلةٍ وترحالٍ وقوافل تجارة ورعي وثقافةِ مياه.

تبقى قصبة جرسيف إرثا بيئيا مائيا إنسانيا أصيلا بحاجة ليس فقط لتثمين وحماية وإغناء واستثمار، بل لِما من شأنه إبراز مكامنه وتجلياته وتميزه من خلال ورش واعد رافع من تأثيث وتشارك المعنيين محلياً، جهوياً ووطنياً. وليس رهان جرسيف الانمائي وتطلعاته الترابية على أساس رمزية موضعٍ بملتقى وادين “مللو” و”ملوية” حلماً ولا جدلاً مستحيلاً، فقط ما ينبغي من رؤية وبُعد نظر وإرادة فضلاً، عن قناعة وسبل تنسيقٍ وتعاون.

مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث

‫تعليقات الزوار

1
  • الهواري
    الخميس 22 أبريل 2021 - 00:11

    قرأت المقال واشكر جريدة هسبريس التي تؤنسنا في المهجر بالاخبار والملفات الهامة والاستطلاعات الجيدة . أتمنى وانا ابن قبيلة هوارة كرسيف أن يكون بكرسيف متحف للتراث البيئي مثل ما جاء في المقال والاهتمام بأطراف واد مللو وملوية بمدينة كرسيف بينها وبين الشوبير. رمضان مبارك

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة