كاتبٌ كناري: قرأتُ القرآن منذ شبابي .. وفخور بأصلي الأمازيغي

كاتبٌ كناري: قرأتُ القرآن منذ شبابي .. وفخور بأصلي الأمازيغي
هسبريس
الجمعة 25 دجنبر 2020 - 03:30

آنخيل سانتشيث كاتبٌ إسباني من جزر الكناري، شاعرٌ وروائي ومترجم وباحث في الأنثروبولوجيا. وُلد سنة 1943 في مدينة غالدار بجزيرة كناريا الكبرى. درس في الرابطة الفرنسية والمدرسة الألمانية بمدينة لاس بالماس، وتخصّص في الأنثروبولوجيا بكلٍّ من جامعة لالاغونا بجزيرة تينيريفي وجامعة صلمنقة بشبه الجزيرة الإيبيرية ثم بجامعتي غرونوبل وباريس – فانسين بفرنسا وأخيراً بجامعة غوتيغن الألمانية.

ساهم تكوينُه الأكاديميُّ بين أحضان تلك المؤسّسات في توسيع دائرة اهتماماته المتنوِّعة أدبيّاً وثقافيّاً، إذ تشمل أعمالُ آنخيل سانتشيث مختلف الأجناس الأدبية. نُشر له ما يزيد على ثلاثين كتاباً؛ بينها تسعة عشر ديواناً شعرياً يندرج أغلبها ضمن صنف الشعر البصريّ. استهلّ مسيرته الإبداعية سنة 1967 بإصدار أولى بواكيره الشعرية تحت عنوان “تسع وعشرون قصيدة”. وفي السرد، صدرت له سبعةُ كُتبٍ بين القصة والرواية، علاوةً على أربعة كتبٍ في الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية وأعمالٍ أخرى ما بين الترجمة والمقالة والإصدارات النقدية. فاز بجوائز عديدة، آخرها جائزة جزر الكناري للأدب عام 2018.

وفي الحوار الآتي الذي خصّ به هسبريس، يُحدِّثنا هذا الأديبُ الكناريُّ الفخورُ بأصوله الأمازيغية عن موضوع الهوية بالجزر الخالدات وتجربته في صحراء المغرب وآثارها على شخصه وأدبه، ويحكي لنا كيف قاده الفضولُ المعرفيُّ إلى دراسة اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم، ويصف لنا انطباعاته عن ذلك وعن المدن المغربية والمغاربية التي زارها، كما يُحدِّثنا أيضاً عن قراءاته في الأدب المغربي والعربي وعن متمنّياته لمستقبل العلاقات بين جزر الكناري وبين المغرب بصفة خاصّة والمنطقة العربية عموماً.

عرَّفتَ نفسك في حوار إعلامي أُجري معك حديثاً كما يلي: “أنا خليطٌ من الأمازيغي والأوروبي والكاريبي والإفريقي، نظراً لتجربتي بإفريقيا والقروي”. منذ متى وكيف تحقّق لديك الوعيُ بهذه الجوانب من هويّتك لاسيما الأمازيغية والإفريقية منها؟

لقد كانت مسألةُ هويّتي الأمازيغية والإفريقية واضحةً لديّ منذ الطفولة، إذ إنِّي وُلدت في غالدار وهي مدينة في شمال جزيرة كناريا الكبرى، حيث لا تزال تُوجد آثارُ سكّان ما قبل الغزو الإسباني. وهناك على الساحل تُوجد مقبرةٌ مُحاطة بأكوام كبيرة من الحجارة، حيث كان يُدفن أموات الجماعة التي كان يحكمها “غوانارتيمي”، كما يسمّى باللغة الغوانشية، والذي يتمّ انتخابه في مجلس الشيوخ الذي يُشكِّله عليّةُ القوم. وكنّا نشعر، حينها ونحن أطفال، بأنّنا قريبون روحيّاً من تلك الحضارة ونعتبر أنفسنا ورثة سلالتها، وكنّا نلعب ألعاباً نقوم فيها بدور الغوانشيين وهم يُحاربون الغزاة بسيوف ورماح من الخشب ومقاليع نرمي بها الحجارة. ولديّ سلفٌ من جهة الأب يحمل كُنية أوراماس، وهو ينحدر من عائلة القائد والمحارب الغوانشي الكبير دوراماس وهو نسبي الأمازيغيُّ الذي أفتخرُ به. ولأنّنا درسنا أصولنا الأمازيغية دراسةً مُعمّقة فنحن نحبُّ كوننا خليطاً بين الأمازيغي والأوروبي ومحافظين على هذا الحمض النووي.

وأنا شخصيّاً أقومُ بجمع الفخّار من طراز ما قبل الغزو الإسباني، وقد زُرت كلّ المقابر والنقوش القديمة الموجودة في جميع جزر الكناري وهو شيءٌ ألهمني في عملي الأدبي وفي اهتمامي بعلم الكائنات؛ وخزانتي مليئةٌ جدّاً بالكُتب عن هذا الموضوع لأنِّي أريد أن تكون معلوماتي مُحيَّنة سواءٌ فيما يتعلّق بالبحث في ذلك الماضي أو في الوضع الاستعماري الحالي. لحُسن الحظّ لدينا مُتخصِّصون أوروبيُّون وكناريُّون حقّقوا تقدُّماً كبيراً في معرفة وتثمين الحقبتين معاً.

صرّحتَ، في مناسباتٍ سابقة، بأنه جرى إرسالك عام 1970 لأداء الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسباني بالصحراء المغربية حين كانت لا تزال تحت الاحتلال الإسباني… من فضلك، أخبرنا بمزيد من التفاصيل عن تلك التجربة، وما هي تأثيراتُ ذلك في شخصيِّتك وفي مسارك وإنتاجك الأدبيّين؟

إنّ تجربتي في مستعمرة الصحراء مرحلةٌ لا تُنسى من حياتي. عندما استنفدت التأجيلات الثلاثة التي مُنحَتْ لي لكي لا أذهب إلى الخدمة العسكرية حين كنت طالباً في باريس، قاموا بإرسالي إلى بير لحلو (منطقة العيون) حيث قضيتُ شهراً من التكوين العسكري وتعلّمتُ إطلاق النار بالرشاشات ومدافع الهاوتزر. المؤكّدُ أنّي كنتُ أشعر بالاستياء وأنا أرتدي البذلة العسكريّة لجيش الاحتلال عندما بدأتُ في التعرّف على السكان المحليّين وفي احترامهم وحبِّهم؛ وهو صراعٌ داخليٌّ استطعتُ تجاوزه عن طريق الاعتقاد بأنّه مؤقّت.

لقد تمّ تعييني في إحدى الثكنات هناك، ولأنّني كنتُ مُجازاً في اللغة والآداب العصرية من جامعة صلمنقة كنتُ مثقّفاً وأتحدّثُ لغات عديدة وكنتُ أُتقن استعمال الآلة الكاتبة، وبفضل ذلك حصلتُ على تعيينٍ بأحد المكاتب، حيث كانت تحت تصرُّفي آلةٌ كاتبة قديمة من نوع “أندر وود” والتي مكّنتني من تأليف كتابين دون علم القائد الذي كنتُ تحت إمرته. واستلهمتُ أحد هذين الكتابين من تلك التجربة وعنوانه “نوماشيا” (اسم يعني المعارك البحريّة في الثقافة الرومانية)؛ وهو ديوانٌ شعريٌّ أظهرتُ فيه تعاطفي مع تلك الأرض وأهلها. في أيّام الآحاد، حين كان بمقدورنا ركوبُ الحافلة إلى مدينة العيون كنتُ أذهبُ إلى السوق لشراء بطانيّاتٍ مغربية وتمائم الطوارق وقلائد نسائية وفخّار وبطاقاتٍ بريديّة وأدواتِ إعداد الشاي والنعناع المجفّف؛ ولأنّنا كنّا كناريين ونذهب ونحن نرتدي الزيّ المحلي استطعتُ أنا وعددٌ من الزملاء ربط علاقاتِ صداقة مع فتيانٍ صحراويين كانوا يَدرُسون الباكالوريا في الثانوية.

أتذكّرُ أنّنا كنّا نهدي إليهم نسخاً من كُتب فرانز فانون حتى يكونوا على وعيٍ بالأضرار النفسيّة التي يُسبِّبها الاستعمار والتي أحسن تأليفها ذلك الطبيبُ النفسيُّ من جُزر المارتينيك والذي عمل في الجزائر العاصمة. لقد كان لي عددٌ من الأصدقاء: إبراهيم وعبد الطيف وسمير الذين علّمونا الكثير عن تقاليدِ الرُّحّل ووجودِ العبيد وامتيازاتِ شيوخ القبائل ووضعيةِ النساء ودرّبونا على طقوسِ الشاي والكؤوس الثلاث، وأرونا عدداً من حيواناتِ ونباتاتِ المنطقة: الفَنَك (ثعلبُ الصحراء)، “لفعى” (ثعبانٌ صغيرٌ مُذهّبُ اللون)، رياحُ “إريفي”، كما كانوا يُمرِّرون لنا لفافاتِ الحشيش التي دخّنتُها هنالك لأوّل مرّةٍ في حياتي. كانت صداقاتٍ منعشةً جدّاً؛ لأنّها جعلتني أتعرّفُ بشكلٍ جيِّدٍ على تلك الساكنة، وعلى لباسها “الدرّاع” والخلاخل التي كانت الجواري السودُ يضعنها في كواحلهنّ. تعلّمتُ بعض الكلمات من لغتهم ودوّنتُها حتى أنّي كتبتُ قصّةً عما عشتُهُ هنالك، إذ سنحتْ لي الفرصةُ بالذهاب على متن شاحنةٍ تابعة لإحدى وحدات فيلق سيدي بويا (ثكنةٌ قُرب الساقية الحمراء) إلى السمارة و”بِييّا ثيسنيروس” (الداخلة حاليّاً) بصفتي العريفَ المسؤول عن تموين ثكنة “كابريريثاس” التي عُيِّنتُ فيها، وكانت عبارة عن كتيبة تأديبيّة وكانت تابعة للوحدة الثالثة لفيلق الجيش الإسباني؛ وذهبتُ أيضاً إلى الدشيرة التي كان بها سجنٌ صارمٌ جدّاً يُرسل إليه المُدانون في قضايا عسكرية. كما ذهبتُ كذلك إلى موقع الفوسفاط في بوكراع وإلى المحطّة الكبرى التي كان يُنقل إليها هذا المعدن عبر الحزام المخصّص لذلك قبل أن يتمّ شحنه من فوق رصيفٍ كبير شيّدته شركةُ (Krupp) لأنّ الساحل كان رمليّاً جدّاً، فكان لا بدّ من الرُّسُوِّ بعيداً عن الشاطئ.

وبما أنّ عام 1970 اتّسم بإرهاصاتِ نشوء ما سُميّ لاحقاً بجبهة البوليساريو، فكان يتوجّب على الجيش الإسباني حراسةُ ذلك الحزام الناقل للفوسفاط، وقد تمّ إرسالي إلى هناك لليلةٍ واحدة قضيتُها رفقة خمسة جنودٍ آخرين في إحدى نقاط المراقبة تحت أحد أعمدة ذلك الحزام؛ لأنّ هؤلاء النُّشطاء كانوا يضعون المتفجِّرات في الطرقات. لقد شعرنا بالقليل من الخوف؛ لكن من حسن حظِّنا لم يقع أيُّ شيء.

يتحدّثُ أهلُ الصحراء بلغتهم الحسّانية؛ لكنّهم أيضاً يتكلّمون الدارجة المغربية وقليلاً من الفرنسية. وبطبيعة الحال، كانوا يفهمون اللغة العربية الفُصحى التي نزل بها القرآن، وقد لاحظتُ أنّهم مُتساهلون في تطبيق الشريعة ومراعاة معتقدات الإسلام الصارمة، ومع ذلك كنتُ أراهم يُقيمون صلواتهم بانتظام فوق الرمال أو داخل خيامهم. ويُمكنني أن أحكي ما يُعدّ ولا يُحصى من الطرائف الإيجابية والسلبية عن تلك المرحلة؛ لكنّني سأدّخرُها لمذكِّراتي.

أخبرْتَني، ذات مرّة، بأنك قرأت القرآن منذ كنتَ شابّاً ودرستَ اللغة العربية لمدّة عامين اثنين بجامعة لالاغونا (جزيرة تينيريفي)… ما هي الأسباب التي جعلتك تختار دراسة اللغة العربية؟ وفي أيِّ سياقٍ قرأت القرآن الكريم؟ وماذا كانت انطباعاتك بعد قراءته؟

قرأتُ كتاب الإسلام المقدّس أوّل مرّة في شبابي، وأحدثتْ قراءتُه لديّ انطباعاً عظيماً، إذ وجدتُ فيه ليس فقط العقيدة المقدّسة وقواعد المعاملات بل أيضاً لغةً ساميةً وشاعريّة وزُهديّة. وما دفعني إلى اختيار العربية بدل اليونانية في العامين الأوّلين من مشواري الدراسي بجامعة لالاغونا هو أنّني كنتُ قبل ذلك قد تعلّمتُ ما يكفي من اليونانية، بالإضافة إلى أنّ حبّ الاستطلاع تملّكني للتعرّف على لغةٍ منتشرةٍ جدّاً بالقارّة الجارة وللتمكّن يوماً ما من التحدّث بالعربية، وليس بالفرنسية، حين أسافر إلى المنطقة المغاربية؛ وهو ما كنتُ أُفكِّرُ في القيام به عندما كنتُ أدرُسُ بشبه الجزيرة الإيبيرية.

كنتُ قد قرأتُ قبل ذلك بعض كتب ألبير كامو، وهو واحدٌ من الذين تأثّرتُ بأفكارهم، وقرأتُ أيضاً لأندريه جيد. وكان ينتابني الفضول للتعرّف على الأماكن التي يصفانها في كتاباتهما. لقد درستُ اللغة العربية في أحد كُتب النصوص العربية المختارة، التي وضعها المستعربُ ميغيل أسين بلاثيوس (Crestomatía del árabe literal)، على يد عسكريٍّ متقاعدٍ كان قد عاش في المستعمرات الإسبانية؛ لكنّني لم أُحقِّق فيها تقدّماً كبيراً، إذ لم تتجاوز مدّة الدرس ساعتين اثنتين كلّ أسبوع. مع الأسف الشديد، تركتُها بسبب انكبابي على دراستي الجامعية؛ وهو ما أتحسّر عليه كثيراً، إذ كنتُ أتمنّى أن أتكلّم العربية بطلاقة وأقرأ الأدب العربي بلغته الأصلية.

لقد كنتَ قارئاً نهِماً منذ طفولتك، وبدأتَ في اقتناء الكُتب منذ سنٍّ مُبكِّرة… أودُّ أن أعرف ما هي اتصالاتك بآداب العالمين العربي والمغاربي؛ لأيِّ أُدبائهما قرأتَ وبأيّة لغة؟ وهل ما زلتَ تُتابع جديد عالم الأدب المرتبط بدول هذه المنطقة؟

أوّلُ كتابٍ قرأتُه كان هو “ألف ليلة وليلة”، باللغة الإسبانية طبعاً. وقد أعجبتني فيه حكاياتُ علاء الدين وسندباد البحري وعلي بابا واللصوص الأربعين التي كان أبي يقرأها علينا أيضاً في البيت، كما كنّا نشاهد الأفلام التي أُنتجت عن هذه الحكايات. ما زال هذا الكتابُ هو المفضّل لدى كلِّ أطفال العالم إلى اليوم، بفضل هذه القصص وقصصٍ أُخرى من تلك التي تحكيها شهرزاد للملك شهريار.

رجوعاً إلى الذاكرة، أظنّ أنّني قرأتُ ترجمةً إسبانيّةً لأدب المقامات ونصوصاً لابن الرومي والمعتمد بن عبّاد وزينب فوّاز ونجيب محفوظ وإلياس خوري وجبران خليل جبران. وفيما يخصُّ الكُتّاب المغاربة، قرأتُ لعبد الله ڭنون والطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي ومحمد شكري وعبد اللطيف اللعبي وليلى أبو زيد، قرأتُ للبعض منهم بالفرنسية وقرأتُ للبعض الآخر بالإسبانية.

وأنا طبعاً مهتمٌّ بجديد الأدب العربي؛ لكنّ عملي الأدبي الحالي يستغرق وقتي إلى حدِّ أنّني لا أدري هل سيكون بمقدوري أن أُتابع كلّ ما يتمُّ إصداره من عناوين، على الرغم من أنّني أبذل قصارى جهدي للحصول على تلك الكتب التي ينصح بها النقّاد.

باعتبارك مُترجِما ومتحدِّثاً باللغة الفرنسية ومتعلّماً سابقاً للغة العربية، أعتقدُ أنّك ستكون قد أقمتَ صداقات كثيرة سواء في المغرب أو في بلدان أخرى بالمنطقة… ما هي المدنُ المغربيّة والمغاربيّة التي قُمتَ بزيارتها وفي إطار أيّة مناسبات؟ وكيف يُمكن أن تصف لنا تجربتك خلال تلك الرحلات انطلاقاً من وجهة نظرِ كاتبٍ كناريٍّ يعيش قريباً من منطقتنا لكن أيضاً بعيداً عنها؟

بالفعل، لقد قمتُ بربط علاقاتِ صداقةٍ داخل أسوار جامعة باريس مع طلبةٍ ينحدرون من المغرب والجزائر وتونس ولبنان ومصر وسوريا والسنغال بالإضافة إلى آخرين جاؤوا من المستعمرات الفرنسية في آسيا وأوقيانوسيا والكاريبي؛ ودعاني البعضُ منهم إلى التعرّف على بلدانهم ومُدنهم وعائلاتهم. هكذا، ذهبتُ في السنوات اللاحقة إلى طنجة والرباط وفاس ومكناس وأكادير وتونس العاصمة وقسنطينة والجزائر العاصمة كما زرتُ مراكش مرّات عديدة.

وكانت انطباعاتي حسِّيّةً من جهة كما كانت سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة من جهةٍ أُخرى؛ من الناحية الحسِّيّة أدهشتني غرائبيّةُ المناظر الطبيعية والمعمار والتقاليد والطبخ، لكن من الناحية السوسيولوجية كانت ثمّة مظاهر من الواقع لم أكن راضياً عنها: الفقر، التسوُّل، الوضع السياسي والسياحة المكثّفة إلخ… يجبُ عليّ أن أكون صادقاً جدّاً في كلِّ هذا الذي أُعبِّر عنه بشكلٍ صريح.

بصفتي كاتباً كنارياً أُكنُّ تقديراً كبيراً للمنطقة المغاربيّة ولأهلها الذين أنظر إليهم كإخوة وأخوات لي، وأتأسّف لأنّنا قد عشنا ونحن نُدير ظهورنا ثقافياً لأولئك الذين لا يزال الإسبان يُسمّونهم بالموريِّين. ويعود ذلك طبعاً إلى التاريخ البعيد لإسبانيا الأندلسيّة وإلى ما آلت إليه من العنصريّة المشؤومة وعدم فهم ما هو مختلفٌ عنّا، أحكامٌ مُسبقةٌ قد تراكمت ولا يُمكن إسقاطها إلا بالسفر والتعرُّف على هذه البلدان.

وأكثر ما أتمنّاه هو هذا التطبيعُ المرغوبُ المبنيُّ على التعاطف والتآزر، وهو عملٌ يجبُ أن يضطلع به القائمون على مجال التربية بأن يغرسوا في فكر الطلبة أنّ الناس جميعاً سواسية وبأنّه يجب تحطيمُ جدارِ الأحكامِ المُسبقة وادِّعاءاتِ التفوّق الثقافي، وكلُّ ذلك في إطار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

كيف ترى مستقبل الأرخبيل الكناري في علاقةٍ مع محيطه الإفريقي ومع هذه البلاد التي يتقاسم وإيّاها نفس الأصول الأمازيغية؟ وما هي مُتمنّياتُك من أجل العلاقات الثقافية والأدبية بين جزر الكناري وبين المغرب والعالم العربي؟

للأسف، لا أملك كرةً سحريّةً أرى منها المستقبل؛ لكنّي أتنبّأ بأنّ السفر الحرّ وحده، خارج المدارات السياحيّة، سيجعلُ الكناريِّين يتعرّفون بشكلٍ أفضل على واقعِ شمال إفريقيا ويفهمونه تماماً كما تفاهم الصيّادون الكناريون، في مرحلة سابقة، مع سُكّان السواحل؛ وهو ما سيُتيح لهم أيضاً ربط صداقاتٍ دائمة.

إنّ أكبر أُمنيّاتي هي أن تتحسّن العلاقاتُ الثقافيّةُ والأدبيّةُ لجزر الكناري مع المغرب ومع البلدان العربيّة بصفةٍ عامّة؛ وأن يكون ثمّة طلابٌ يدرُسون اللغة العربيّة في جزر الكناري وآخرون يدرُسون الإسبانيّة في شمال إفريقيا وتُعقَد لقاءاتٌ ومؤتمراتٌ وندواتٌ وتُنشر إصداراتٌ تُقرِّب بيننا من أجل كسر لعنةِ الخلاف وننظرَ إلى بعضنا البعض كأصدقاء وإخوة باعتبار رابطة الدم التي تجمعنا. أرجو أن يتحقّق ذلك إن شاء الله؛ وعلى الرغم من تقدُّمي في السنّ فإنني مستعدٌّ للتعاون في أيّة مُبادرةٍ قد تُقترح عليّ في هذا الإطار.

ختاماً، إذا سمحتَ لي السيِّد آنخيل سانتشيث، يدفعني الفضولُ إلى أن أوجه إليك هذا السؤال… ألم يخطر على بالك من قبلُ أن تؤلِّف عملاً أدبيّاً، روايةً تجمع بين التاريخ والخيال على سبيل المثال، تستعيدُ من خلالها ماضي الشعب الغوانشي وتُعرِّف بأصوله الأمازيغية؟ ما رأيُكَ في هذا المشروعِ الأدبيّ؟

لا، لم تخطر على بالي أيّة فكرةٍ بهذا الخصوص، مع الأسف؛ لكنّني كتبتُ رواية عنوانها “غاديفي” التي تستعيد استعمار جزيرتي فويرتي بينتورا ولانثروطي من لدن الفرنسيّيْن جون دو بيتانكور وغاديفي دو لاصال بين عامي 1402 و1408؛ ومنحتُ فيها صوتاً وحضوراً لسُكّان الجزيرتين الأمازيغ.

ولديّ أيضاً مشاهداتٌ مدوّنةٌ في دفاتر رحلاتي. لعلّ أكثر ما درستُه هو عِلمُ الأيقوناتِ الأمازيغيّة وصمودُها في الثقافة الكناريّة خلال فترةِ ما قبل الغزو الإسباني والفترة الحالية، وهو ما سيعكسه كتابي المقبل والذي سيكون عنوانه “الرّمزُ الجزيريُّ. موادُّ عِلمِ الأيقوناتِ الكناريّة” وسيُصدره مجلسُ جزيرة كناريا الكبرى ويتضمّنُ باباً خصّصتُه لرمز الأبجدية الأمازيغية “ياز” (ⵣ) الذي اكتسب أهميّةً كبيرةً في المجال السياسي والثقافي بجزر الكناري، علاوةً على بعض الألفاظ المغاربية التي انتقلت إلى لهجتنا.

ربّما أقومُ، في يومٍ من الأيّام، بجمع الملاحظات التي دوّنتُها خلال رحلاتي أو أكتبُ قصّةً مُتخيّلةً عن سُكّان جُزُرنا الأوائل، لا سيما أنّني مُفعمٌ بالتعاطف تُجاههم بسبب الروابط الثقافية المشتركة بيننا. هذا ما سوف يُفصِحُ عنه الزمان، عدوُّنا الكبير، إن شاء الله.

‫تعليقات الزوار

3
  • ابوهاجوج الجاهلي
    الجمعة 25 دجنبر 2020 - 05:38

    حينما قرات قصة هذا الكاتب الكناري الذي عاش في عدة دول يبحث عن اصله الامازيغي الذي لم يجده في الجزر التي استولى عليها اخيرا الاسبان التي لم يدخلها ولَم (يفتحها) عقبة ابن نافع الفهري، ونظرا لسيرورة حياته الاجتماعية بقي يبحث عن جدوره الامازيغية التي لم يجدها في الجزر التي ازداد فيها نظرا للاستعمار وتشرذم الهوية الامازيغية والبحث عن رموز الهوية الكنارية التي تلاشت عبر المستعمر الغاشم الذي لم يرحم الارض واسماءها والتلال وعلوها واللغة وموطنها
    والكوانش ومن هم واصلهم. زد على ذلك الصحراء المقابلة لهذه الجزر وثقافتهم ومن هم ومتى وصلوا لهذه الارض وكيف اصبحوا رافدا لهذا البلد الامين الذي يريدون تاسيس جمهوريتهم الوهمية على ارضه. انها ربما مواضيع سوف تشغل هذا الكاتب للبحث في هذا الجزء من وطننا الكبير الذي لم يتطرق له العثماني في استجوابه ليثير صحافة الاسبان ليتيقنوا ان حتى جزر الكناري مغربية ولو كره القشتاليون. وشكرا

  • خالد
    الجمعة 25 دجنبر 2020 - 10:09

    إنتهى زمن العروبة والتعريب ,وبدا الجميع يدرك الحقيقة بفضل الله وفضل أهل العلم والمتقفين .وكل واحد منا يريد ان يرجع إلى أصله الأمازيغي الإفريقي وقطع مع الأصول الوهمية التي يريدون أن يرسخه لنا في عقولنا لكي ننكر أصلنا.

  • Adam b
    الجمعة 25 دجنبر 2020 - 11:01

    يجب على إسبانيا أن تعتدر للمغرب لأن جزر الكناري مغربية عبر التاريخ ومدنها لازالت تحتفظ بأسماء أصحابها الأمازيغ المغاربة وأن لاتنسى أن التاريخ كالواد لا ينسى مجراه الطبيعي .

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 2

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز