ما بعد الموت

ما بعد الموت
الأحد 9 ماي 2021 - 18:36

أتأمل مصير الراحلين، الذين عبَرُوا سلفا نحو ضفة أخرى من هذا الوجود غير معلومة قط. حقا، لا أعرف، تحديدا ويقينا، هم ضحايا الموت أو الحياة؟ بما أن الأخيرة قبل كل شيء ورطة؛ ومجرد سعي عبثي للحيلولة دون تدحرج صخرة سيزيف من أعلى قمة الجبل، مع أنها متدحرجة لا محالة؟

هناك، من تستمر ذكرى رحيله؛ على الأقل لغويا، لفترة ليست بالقصيرة. آخرون، يتم تأبينهم خلال اللحظة نفسها، بين طيات الإعلان، ثم في اليوم التالي، لا ذاكرة لمن أراد مجرد التذكر. وفئات ثالثة، ترحل في صمت مطبق، كأنها لم تولد أصلا؛ بحيث تقتل الموت نفسها تماما.

رغم أنه لا شيء لدي كي أخسره جراء الموت من عدمه، فالأمر سيان بالنسبة إلي، ولا مقياس لتفاضل قيمي بهذا الخصوص، ما دمتُ لست كائنا مشبعا بسذاجة الحياة أو مدمنا لرهاناتها أو حتى محترما لها. مع ذلك، أقف دائما صامتا خلال لحظات طويلة متجمدا في مكاني، متسمرا عند موضعي حينما أقرأ خبرا يعلن رحيل طيف عن مشهد الوجود، ويزداد الوقع استفحالا إذا كان ضحية الموت هذا أو تلك، موصولا بحواس ذاكرتي على نحو ما.

أذكر، بأني خبرت قسوة شيء اسمه الموت لأول مرة، وأنا طفل صغير، حينما رجعت ذات صبيحة من المدرسة مسرعا وجهة أدراج منزلنا، ثم اكتشفت فجأة أبي جثة هامدة يصارع بالكاد أنفاسه الأخيرة، دون سابق إنذار.

والمرة الثانية، بعد فترة قصيرة عن مضي أثر الحدث الأول، حينما قادتني الصدفة وحدها في الشارع العمومي فولجت مقبرة موحشة جدا، لا زلت أستحضر تفاصيلها المفزعة، منجذبا بلا تفكير خلف ترانيم مؤثرة تصدح بها حناجر حشد يسرع بنعش ميت، ثم قررت بوازع فضولي البقاء غاية اكتشاف مختلف مجريات الطقوس، من وضع الشخص في الحفرة ثم ردم فجوتها كليا، غاية إخفاء الأثر عن الأبصار، ومغادرة الجماعة المحتفية دون التفات يذكر لمن أودع وحيدا إلى عزلته الدائمة، مستكينا، متروكا كأنه لم يكن معنا، تحت رحمة قسوة منطق التخلي الغادر.

منذئذ، بدأت باستمرار أقلِّب داخلي هواجس الموت، وفق مناحيها الميتافيزيقية، باعتباره، ربما: وجودا ثانيا؟ اختفاء مباغتا بلا موعد؟ انتقالا من وضع حياتي إلى وضع آخر؟ ارتيابا لانهائيا بخصوص معاني الرحيل؟ إلخ.

طبعا، أسئلة يتباين مستوى زخمها، تقدما وارتدادا إيجابا ثم سلبا، حسب مستويات أبعاد المساحة التي أرسمها مع ذاتي من خلال حيز العزلة؛ حسب زخمها أو ترهلها.

أبعاد، لا تنزاح عموما عن إطار ثابت لأسئلة موجعة من قبيل

ما معنى أن أموت؟ كيف سأعيش التجربة؟ هل يقتضي موتي نفس المرجعيات المفهومية للحياة، التي تبنيتها مع العالم الأول؟ ما هي الثوابت والمتغيرات؟ ما الأثر المترسخ بعد موتي؟
بالتأكيد وحتما، لا جواب عن هذه الأسئلة سوى بين طيات الموت نفسه. وحدها، تجربة الموت بمختلف ممكناتها اللانهائية قادرة فقط على تقديم جواب خالص، لا تشوبه شائبة.

ربما، أضاعت الموت نسبيا رمزية سطوتها بخصوص معاني التخلي والاغتراب، مع التغيرات الفكرية القيمية، الناتجة عن الانتقال إلى محددات المنظومة الرقمية- السيبرنطيقية، أخذت معه الموت سمات أخرى تناقض جوهريا المضامين الماثلة كلاسيكيا

* اختُزلت الموت راهنا، كما ألاحظ إلى رثاء فولكلوري بارد لاستدرار العواطف المجانية، حينما تشغل حيزا متسيدا عبر التنافس الانتخابي ضمن قنوات فضاءات الافتراضي، سرعان ما تفقد كنهها خلال اللحظة ذاتها، وقد أزاحت محلها تناوبيا ضمن سلسلة حشد الأخبار المتواترة بلا انقطاع.

* قوَّض الموت، تبعا للكيفية المتداول بها حاليا، على مستوى سياقات الفضاء العمومي، مثلما كشف ذلك الفضاء الافتراضي، مختلف المعاني الكامنة في غرفة لاوعينا، بحيث لم يعد مرتبطا أساسا بتعليلات الشيخوخة، والمرض وحيثيات الشر كالحروب والجرائم والكوارث.بل، الموت لعبة طارئة بامتياز.هكذا، اكتشفنا أن الطفل يموت قبل شبابه، والجميلة قبل أن تشغل مساحة وجهها الآسر التجاعيد المقززة، ثم الرياضي القوي في أوج بأسه وشدته.

هكذا أنهى الموت حسب تجلياته الراهنة، الأبعاد الميتافيزيقية الأحادية للزمان والمكان والهوية، فاكتسى أخيرا معنى محضا واقعيا يدرجه ضمن ممكنات اليومي القابلة للحدوث. إنه كائن بيولوجي في نهاية المطاف.

‫تعليقات الزوار

13
  • ـــــــ
    الأحد 9 ماي 2021 - 20:08

    تبــٰرك الذي بيده الملك و هو على كل شيء قدير الذي خلق الموت و الحيوٰة ليبلوكم ايكم احسن عملا و هو العزيز الغفور

  • منير
    الأحد 9 ماي 2021 - 20:26

    عندما لا ينجح الناجح

    وقلت هنا في نقد مبطن لباشلار أنه فعل كما فعل الفارابي وهوأنه أغضب الفلسفة ولم يرض العلم.

    أقلام

  • و فوق بَابِل البشر
    الأحد 9 ماي 2021 - 20:42

    تعجبني كثيراً فكرة التناسخ في عدد من الحضارات القديمة و مفادها هو أن جسد الإنسان يَفْنَى و يَنْحَل في الطبيعة بينما تنبعث “روحه” في جسد جديد ( حيوان أو إنسان) فإن كانت أفعاله سيئة انبعثت في ظروف سيئة…هذه فكرة أكثر جاذبية بكثير من الفكرة الإسلامية عن الموت أو ما يشبهها في الديانات الإبراهيمية و بالمناسبة فكرة الموت تحظى بأهمية كبرى في الدين الإسلامي على الأقل على أن ظاهرة الموت كظاهرة “طبيعية ” أخذت بُعْداً دينيا حتى قبل نشوء الحضارة الإنسانية

  • والله احكم
    الأحد 9 ماي 2021 - 23:04

    يوم يستطيع الانسان فهم المغزى الحقيقي من الحياة يمكن حينها فهم لغز الموت وتقبل الانصهار معه في بدء جديد .

  • محمد
    الإثنين 10 ماي 2021 - 00:07

    ولدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. صدق الله العظيم.
    لو علم العبد المؤمن ما أخفي له يوم القيامة لتمنى لو حل به الموت مسرعا وترك هذه الدنيا إلى غير رجعة.

  • حسسسسان
    الإثنين 10 ماي 2021 - 01:04

    لم يمت أحد تماما، تلك ارواح تغير شكلها ومقامها
    محمود درويش- الجدارية

  • sifao
    الإثنين 10 ماي 2021 - 01:50

    الموت هي الحقيقة الوحيدة التي لا يحتاج الانسان الى دليل على حتميتها وكذلك هي التجربة الوحيدة التي لا يعيشها الانسان …لانها نهاية تجربة طويلة اسمها الحياة…وكل تمثلاتنا عنها وكذا هواجسنا وتخوفاتنا
    لها علاقة بمرجعية ثقافتنا…تقديس الموت هو تحد اسباب جبننا وتخلفنا..الموت هي الموضوع الذي يبدع فيه الفقيه ويمنع الفيلسوف من الخوض فيه…هي التجارة الاكثر ربحا ونجاحا في المجتمعات اللاهوتية

  • brahil
    الإثنين 10 ماي 2021 - 13:06

    Notes de lecture sur la mort, année 1982. Epicure : La mort n’est rien pour les morts. Les vivants savent qu’ils vont mourir, ce savoir ne laisse pas indifférent ? Spinoza : Méditer et réfléchir sur la vie, non sur la mort, est la sagesse même. Mais alors quid sur la fin de la vie, donc la mort ? Epictète : Le fondement de tous maux de l’homme, ce n’est pas la mort, mais la crainte de la mort. La peur de la mort fait l’homme lâche, bas, médiocre .L’Lucrèce : le néant qu’engendre la mort, n’est pas à craindre ; celui qui précède la naissance est plus redoutable. Montaigne : Ne pas s’occuper de la mort, elle saura vous trouver. C’est un concours que nous réussirons tous alors pourquoi le prépare. Et si vous ne savez pas mourir, ce n’est pas grave, la nature le sait pour vous ! Moi : je redoute la mort de mes proches, et depuis que je suis grand-père, celle de mes petits-enfants. La mienne je m’en moque ; sans colère ni angoisse.

  • Amaghrabi
    الإثنين 10 ماي 2021 - 14:55

    انا مع المعلق رقم 8 ,لانني أجد الفكر الذي يدعو الناس الى التفكير في الموت ليل نهار لان الدنيا زائلة والاخرة باقية وكأن الله خلقنا من اجل ان نفكر في الموت ليل نهار وبالتالي فالمؤمن القوي والحقيقي هو من يبني بيته في المقبرة ويتخلى عن هذه النعم المتعددة والمتنوعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى من اجل هذا الانسان الذي يريد المتشددين حرمانه من هذه النعم حتى ادعوا ان علي بن ابي طالب كان يتغذى بادام واحد ويذكرون ان مرة قدمت له بنته ام كلثوم ادامين ملحا ولبنا حامضا فقال لها يا بنيتي متى كان ابوك يتغذى بادامين فأخذ قطعة من الخبز مع الملح وقال لها ارفعي اللبن وذلك من اجل الحصول على المكان الرفيع يوم الاخرة,واتساءل اذا كنا جميعا نفكر مثل الامام علي فلماذا خلق الله البطيخ والمشمش واللحم والشحم والاسماك وباقي النعم التي لا تعد ولا تحصى بلسان القران.ويقولون كذلك ان رسول الله ص لم يشعل النار في منزله ثلاثة ايام وفي نفس الوقت يقولن انه كان يحب من اللحم الكتف,الس هذا تناقض,وما اريد ان اقول ان الله خلق النعم للاستمتاع ومساعدة الفقراء ليستمتعوا كذلك والامم الراقية الواقعية اصبحت توفر لشعوبها امكانيات لتأك

  • نظرة واقعية .
    الإثنين 10 ماي 2021 - 18:13

    منطقيا يعتبر الموت نهاية الحياة شخص ترك بعده الخلف إلى هنا تبدو الأمور واضحة لا لبس فيها إلا أن الغيبيين يقولون أن الموت في الحقيقة بداية وليس نهاية وأن الحياة كلها ما هي إلا جانب من الصورة فيقول بعضهم أن الطيبين يذهبون للجنة والاشرار يذهبون للنار ويقول ٱخرون أن الطيبين يدخلون الملكوت والاشرار يلقون في نار الكبريت هناك من يرى أن الأرواح الطبيبة تتحول لحيوانات أليمة بينما تتحول الأرواح الشريرة لحيوانات مفترسة رغم أنني لو كنت من هؤلاء لفضلت أن اتحول لحيوان مفترس يمشي واثقا ، على أن اتحول لحيوان أليف يلتفت من الخوف ذات اليمين وذات الشمال أو يعيش طيلة حياته في الغابة هاربا إلى أن يموت .

  • Momo
    الإثنين 10 ماي 2021 - 22:42

    ولو اختلفت الاديان في توقعتها و تصوراتها لن تختلف النهاية النهاية عدم، ليس هناك اي لغز ككل الكائنات المتواجده على سطح الأرض ، طفرة العقل اغرتنا وتفلسفنا لنعطي لوجودنا معنى اخر ولنختلف على الباقي او لنطمءن بأمل ان هناك حياة سوف نعود ….

  • الحسين
    الثلاثاء 11 ماي 2021 - 20:53

    للاسف الشديد أن يكون من بيننا ومن ينتسب الينا وربما ينتمي إلى ديننا الإسلامي الحنيف
    ويفكر بهذه الطريقة.
    وكان هذه الأسئلة التي تتعلق بالحياة والموت وما بعد الموت لا جواب لها في ديننا !!!
    والله المستعان.

  • ابومهدي
    الأربعاء 12 ماي 2021 - 23:02

    الموت…موضوع لا أحد يمكن ان يجيب عنه…بالفعل .لأنه فوق الفعل والتفكير ….الم يقل القرآن يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا..
    ما يثيرني حقا في الاسلام ..ان تعترف وتؤمن بالغيب ..اي أن هناك عوالم اخرى لا نراها …ولكن نحدس وجودها ..الله يقول ما خلقت هذا عبثا …
    قد يجيبنا تفكرنا في معجزات الخلق ..في انفسنا وفي الطبيعة والكون …ايييييه …لا نهاية من المعجزات المعجزة …كل ذلك يوقن أن هناك عالم آخر ندخله بعد الموت…لايمكن حتما ان تكون الموت نهاية …والا لماذا خلقنا اساسا بكل مانملك من خصائص وذكاء ومع كل التنوع في الطبيعة…موضوع بنكهة الغموض الحتمي كالموت في حتميتها…
    مرة سألت سيدة عن الموت قالت لم يرجع أحد بعد موته ليحدثنا ..قلت لها لكن اكيد بعد الموت بداية أخرى..أكيد ..والله اعلم ..طبعا

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة