"ما كان حلما يُفترى"

"ما كان حلما يُفترى"
الأربعاء 25 نونبر 2020 - 13:05

لا يتورع قلم الشعر من التغريد خارج منطق قوانين المادية الجدلية، وهو بذلك يرفع التحدي الكبير لفهم الوجود، دون اعتماد على علاقة السببية التي تحكم المتغيرات وتنفض الأسئلة عن إيقاع القلق والتوتر.

إنه قانون آخر، لا يحتمل تعقيدات الديالكتيك، أو “الديامات”، ينفرد بمواضعات عاطفية خاصة ولون روحي مفتون بالولع وسيرورة الحياة.

هكذا أجدني مرتبطا بهذه النظرية المائية المصقولة بجنالوجيا لغة مسرجة على فاكهة منذورة للعمق والإحالة على المعنى المتعدد، بعد أن استسلمت لقراءة منشطرة، مقرورة بالماوراء، لباكورة الشاعرة فوزية رفيق “ما كان حلما يفترى”*.

الديوان يتعرش من ثلاث تحويمات جمالية، بعضها يرقب بعضه، كأنها كوة نور تحفر في جسد الكائن الطفولي، يريد استعادة أسراره المنفلتة من بين أصابع البوح.

أولى التحويمات، تشظيات الذات الشاعرة، كمونها الراجف، تعدو في ارتياب وإغماءة صيف، كأنها عاصفة في صحراء متناهية محشورة في غلالة عين تبصر من حيث لا يرى ضميرها متحجبا، بقلق الوجود واللاجدوى..

لا يخال هذا الوازع المحرك لكل ما هو وعي وإدراك وتسامٍ أن يبحث عن كل ما هو هارب ومبرهن له، يتعرى من حقائق تغدو يدا لملهاة متكورة.

ثم تنشد الحكمة يقينيتها، على محتد هوية متعالية، تبلغ قيمتها الوجودية من كينونة تشكل قدرة هادرة على إنتاج معنى مفتون بالهاجس القيمي، ضمن منطق وهوية الأنا الشاعرة. قدرة واعية، على التميز بين المآلات والاحتمالات والتعامل معهما.

الذات الشاعرة الإيجابية في الديوان ذات مثالية تعكس طفرة معرفية، لها مفاتيح لبوابات الفهم والإدراك العميق لمفاهيم الكون والقيم والقضايا المصيرية للإنسان:

تُبصر

تكون / لا تكون

أنا الجنون

أنا العقل

أنا القابع /

في أحضان الكون” (من قصيدة “نور”).

بيد أن هذه الذات تفور على مغرمة بوح انسيابي، يجاهد من أجل الإذعان لجغرافيا متخيلة، تفرض على القارئ تنظيم رؤيته إزاء شكلانية القصيدة، وهي تترنح في اقترانها الجمالي بتوزيع الكلمات والعبارات على مساحة الورق.

تنطبع الذات الملهمة، في أفق الاستغراق الذي تحاول الشاعرة ترصيعه بانتقالات متفردة، تروم التحفيز على تمثل القصيدة وانقيادها البدهي، في اتجاه الموضوعة التي تطال التنظيم الدقيق لبؤر التصوير وسردياته الأليفة:

ألا فاسقني حبا…………..

وقل لي هو الحب……….

أجن شوقا/

إليكَ وأنت معي….

…………..

هي الروح وحدها

خبيرة بالعشق

وحدها الروح

تقود للعشق/

نحن روحان /

والروح واحدة/ (من قصيدة: لقاء).

ثانيتها شكية مستبطنة، لا تتحرر الذات الشاعرة من أسئلتها القلقة، بقدر ما تثير في الآن ذاته تقصي المعرفة، بما هي وسيلة مجردة للانوجاد والخلاص. أو بالمعنى الفلسفي مجاسرة الفعل الذي يتجرد من البحث عن النفع واللذة الطائشة. وهي نظرية قيمية تأخذ بعين الاعتبار التفكير الفردي الذي يأخذ قاعدته من خبرة طويلة ومعرفة واعية بخفايا الحياة ومناطق الضعف مثل الكذب والأنانية والشر.

تحول الشاعر فوزية رفيق هذا الصراع إلى أمثولة شعرية، تفرز حضورها داخل أقنوم متشابك، يعبر بنا نحو ثلاث التماعات إبهارية : البساطة والصدق والهيولى “الوجود”.

ومع انزياح هذا الطوق وارتقائه، بإرادة ووعي حذرين، نحو الإصغاء لمنطق العواطف والوجدان، تندفع الذات لعالم (الحس) أو الانطباعات والمحاكاة لعالم المثل الأنموذجي، كبديل عن التبدد والتغريب الروحي وفداحة الوجود:

يتمرد

…………….يلتطم…..

يناغي السحاب…………..

….. …………. يتكسر !

في غفلة من الزمن،

ها الطوفان،

ها هو الصخر……

في صمته يختال……

لغةَ الموجِ ، يفهَمُ……….

صخرة ً ! (؟)

تناثر حصاها /حِجارتُها

(من قصيدة “طوفان”)

وإذا كانت الغاية من الشك تحقيق القناعة والإلهام الروحي بقصد راحة العقل وتحقيق التوازن الفكري، فإن انفراط قيمة الشك في ديوان “ما كان حلما يفترى” يضعنا توا أمام مأزق رؤية الشاعرة للشك، ليس ما يؤول طبعا إلى منهجية التذكير به كإطار فلسفي أو ثقافي؛ ولكن كبرهنة على القراءة الأخرى لمفاهيم التغيير والمشاركة والهوية والأخلاق والمعرفة والآخر .. إلخ.

فالشك لا يتقاطع البتة مع اليقينيات، بل يعضدها ويحتذي بمسلتهماتها، بل يراوغ المعتقدات الثابتة، والمتحلقة حول منظورات العدم والسكون والطبقية، في اتجاه تجسيد الحقائق ومقروناتها، مهما كانت صادمة وأليمة:

سينبث أنين الأرض

تقتلع الذاريات…….

جذور النجماتْ

يستفيق الغضبُ

الممتلئ بالغضبْ

يبتلع أسى السنينْ

مفجوعا من هذيان الصمت/

من قتامة الليل…………….

تغازله أحلام/

مُطَرَّزَةٌ بأحلام،

تهمس فيها تفاصيله،

لمحو تضاريس الخيبات…

(من قصيدة “صمت … تمرد”)

ثالثة الأثافي: أنثى القصيدة

ذكرتني هذه العبارة بقراءة مستبطنة عاشقة قدمها الكاتب والشاعر اللبناني أحمد فرحات عن ديوان “ذاكرة نجمة” للشاعرة هند أحمد، حيث “تشغلك بطفولتها العاقلة، وعقلها الطفل، فهي حائرة بين الطفولة والعقلانية، وتبث قلقها هذا إلى المتلقي في جمل قصيرة جدا”.

تماما، مثلما أرى شرارات الطفولة وتشاكلاتها بادية في كل التواريخ العالقة، في ديوان “ما كان حلما يفترى”. تتحسس نزق الحلم بالماضي، متماسكا ومتقدا، يدعوك بنبل وعفة إلى اقتناص لحظات للسعادة بالكمون المستيقظ والفورة الحلمية المنبثقة عن وعي وإدراك بالوجود. سرعان ما تتعالى صيحات الطفلة الكامنة خلف كل عبارة وقصيدة، في وحدة بلاغية عميقة ودالة:

عندها أتطَهر

بالحرف

عبر اختراق المدى اللازوردي

تقلع قصيدة مسكونة

بالأمل/ بالألم/ بالحب/ بالحزن

نزال مع لغة

تفك قيود الأسر

تعير أجنحة للأفكار

قصيدة تستمسك

بالجنون في رحلة أبدية

لا انفصال عنه

تستنطقني/ تورطني

فإذا تدفق جارفْ

يتلو، ترانيم أشجاني”، (من قصيدة غواية النظم).

هناك فعلا ما يربط الشعر بالأنثى. لا شك في أنها انتقائية هوسية ملتمعة، يصعب تفسيرها في عبارات عابرة؛ لكن الشعر فعلا هو خلق امتناعي، أو شهوة منتشية مزهوة بسحر العالم الجواني. أو هو كما قال بيير جان جوف: “لا يتطابق إلا مع الأفكار اليقظة، الشغوفة بالمجهول، والمنفتحة أساسا على الصيرورة، فليس هناك من شعر إلا حيث يكون ثمة خلق وإبداع مطلق”.

وهذه الخلطة السحرية الجسورة والمنفلتة لا يمكن أن يتملكها سوى رحم امرأة شاعرة، مثلما هي الحياة وجود أنثوي واقتدار على بلوغ جمال الكلمة وبيانها.

أعتقد أن هذا التصور الفانتازي كامن خلف تسور عالم الشعر لدى المرأة، لماهية الشعري، بلورته للبعد التراجيدي والديونوزيسي، المتماهي وأسطورة المتخيل وتطوره الرمزي لدى البشرية كلها.

*(ما كان حلما يفترى) مجموعة شعرية للشاعرة فوزية رفيق/ منشورات مركز عناية ـ ط1 2020 ـ المطبعة الوطنية مراكش.

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش