من أجل تسريح التاريخ

من أجل تسريح التاريخ
الجمعة 31 يوليوز 2009 - 20:15

تنظيم القاعدة، السلفية الجهادية، الجمرة الخبيثة، الالتهاب الرئوي الحاد، انفلوانزا الخنازير أسلحة الدمار الشامل…انه القرن الواحد وعشرين.قرن عالم ما بعد الحرب الباردة.أحد الظرفاء علق على هذه الحرب قائلا:« لقد انتقلنا من الحرب الباردة إلى السلم المشتعلة فينا».أينما وليت وجهك أمام الشاشات التلفزية تجد نفس الوجبة الإعلامية، نفس الصور للجثث والجرحى والمفقودين.هل هذا قدر أزمنة ما بعد الحرب الباردة؟هل هذا القدر هو قدر فعلا؟ أم انه فعل من أفعال الإنسان ذلك الإنسان الذي صرح في حقه هو بز في منتصف القرن الثامن عشر« الإنسان ذئب لأخيه الإنسان».ان أنظمة المعالجة الذهنية المتوفرة للعقل المجرد إلى حدود الآن تؤكد أن زمن مبدأ الواقع الخام انتهى وحل محله مبدأ الواقع المصنع وهذا ما اصطلح عليه فرنسيس فوكوياما نهاية التاريخ، بمعنى نهاية التاريخ العفوي وبداية التاريخ المهيأ بالأدوات العقلية المجردة…


يتحدث جان بودريارJean Baudrillard ‏ ‏ على هذا العقل المجرد ويؤكد بأن الخريطة بشكل عام، بما فيها الخريطة السياسية والتي هي إنتاج ذهني، تسبق الواقع وتصنعه ولا وجود لهذا الواقع خارج خريطته، لأنه يتحول وفق معالمها التي تحدده سلفا. كما يتحدث بودريار كذلك عن توالد النسخ خارج مولداتها، لأن هذه النسخ هي أصلا بدون أصل.بخصوص النسخة والأصل، أو بخصوص الأصل وشبيهه يقول بأن الأصل لا وجود له، كل ما هنالك هي أن النسخة توهم بوجود الأصل، بل إن النسخة تعوض عن الأصل وتغني عنه.


الشعراء، بحثا عن معنى للقيم النضالية في زمن الثورات والثورات المضادة، هم الآخرون دخلوا حلبة تحديد النسخة المشوهة والأصل الطاهر.فيكتور هوجو شاعر الثورة الفرنسية في إحدى قصائده يتحدث عن الشهداء البررة للقرن الثامن عشر ويقول:


Victor Hugo : Ceux qui pieusement sont morts pour la patrie


عكس ذلك، جاك بريفر Jacques Prévertشاعر القرن العشرين وصاحب سيناريو فيلم أطفال الجنة، يعتقد بان هذا القرن لا تتواجد به إلا النسخ المشوهة ويستهزئ من أشباه المناضلين الشهداء للقرن العشرين ويقول مستعملا نفس البيت الشعري مضيفا فقط حرفين ليقلب المعنى رأسا على عقب ليؤكد بذلك نظرية الاستنساخ الذهني قبل أوانها قائلا:


Jacques Prévert: Ceux qui copieusement sont morts pour la patrie


بصدد الاستنساخ الذهني جان بودريار يقول بأننا نتحدث عن الاستنساخ فقط في المجال البيولوجي في حين هذا الاستنساخ سبقه استنساخ من نوع آخر انه الاستنساخ الذهني. النظام المدرسي، النظام الإعلامي والثقافي الجماهيري يسمح بصنع أشخاص هم في حقيقة الأمر صورة طبق الأصل لبعضهم البعض.الاستنساخ الجيني لا يقوم إلا بإعادة تحقيق الاستنساخ الآخر الذي هو الاستنساخ الذهني، لقد ظهر خلال العشريات الأخيرة للقرن الماضي تخصص “علمي” يصطلح عليه« البرمجة الذهنية»، يسعى هدا التخصص، وبشكل غير مصرح به، إلى صنع أشخاص متجانسين يتطابقون مع قاعدة عامة وهذا ما تسعى بعض النظم التربوية حاليا إلى تحقيقه؛ بدلا من أن تصبح المدرسة مجالا يحقق فيه الأفراد وعيهم بقدراتهم فان هذه المدرسة أصبحت منظمة بطريقة تدفع الأفراد إلى قص أجنحتهم.


يقول أحد فقهاء فلسفة التاريخ وهو الإيطالي كانيتي:” خلال بعض الفترات تظهر حالات يصعب معها التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف وما دامت هاته الحالة لم تجد نقطة مغايرة تستند عليها فان الإنسانية سوف تتمادى في عملية الهدم” عملية الهدم هاته يقول كانيتي تستهدف هدم كل ماهو جميل ويتضح هذا جليا في المجال الجمالي لنهاية القرن العشرين، “حيث لم يعد باستطاعتنا التمييز بين ما هو جميل وما هو بشع، عبر جميع أشكال المتاجرة والمناورة وعبر كل أشكال التحويل الجيني للأجناس وصلنا إلى نقطة اللاعودة حيث لم نعد نميز بين ما هو إنساني ولا إنساني”.


لماذا الإرهاب إذن وكثرة الموتى والمعطوبين؟


جورج باتاي George Batailleبعد عودته من زيارة لمغارة لاسكو لاحظ أن سكان هذه المغارة قاموا برسم صور الحيوانات فقط ولم يقوموا برسم صور الإنسان فتساءل ما السر وراء ذلك؟ ثم أجاب: إن أولائك كانوا يتهيئون للانفصال عن حيوانيتهم من جهة ومن جهة ثانية لم يكن باستطاعتهم القيام بتعبيرات من مستوى عال عن مستواهم لأن انسيتهم لم تتحقق بعد… ربما لهاته الأسباب الوجبات الإعلامية اليومية مليئة بالضحايا والإرهاب لأن العالم الآن يتهيأ للتخلي عن حيوانيته.


[email protected]

‫تعليقات الزوار

1
  • محمد الاغظف بوية
    الجمعة 31 يوليوز 2009 - 20:17

    ان السيد الكاتب عودنا دائماعلى الجديد ولعل به مجددا في التاريخ كمافي الفكر كما في الفلسفة وكاننا امام باحث وضع نصب اعينه الخروج من حواجز مدينة العيون والحصار المضروبعلىدروب الفكر .
    انهاحيوية ناشاط دائم في ربوع قلما تترك للثقافة الهادفة موطنا،انامتعة القراءة والكتابة عندما ياخدصاحبنا القلم ليعبربصوته عنطلبالفكوصناعته

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 9

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير