هل يصلح التصوف ما أفسدته السياسة؟

هل يصلح التصوف ما  أفسدته السياسة؟
الثلاثاء 28 فبراير 2017 - 18:24

أمام كثرة المدارس والتوجهات الفكرية، التي اتخذت من الإسلام مرجعا للاشتغال ومنهجا في التفكير، لا يسع المرء إلا ان يقرر حقيقة هو أن هذا الفكر بلغ من التنوع والغنى، ما جعله يلبي كل النزعات والميولات، من أكثرها سماحة، إلى أشدها عنفا وتعصبا. وهو الأمر الذي يمكن أن ينطبق على كل الديانات حينما تخضع للتأويل البشري، ومشراط المصلحة الضيقة الخاصة.

وهكذا تعددت الملل والنحل التي تدعي الوصال به، يصعب على الدارس تعدادها وإحصاءها. حيث نجد الكل يتغذى على نصوصه، ليا لعنقها أحيانا، وإنكارا لأخرى حينما تتعارض مع ما يصبو إليه أحيانا اخرى. فنجد في فترة تاريخية تبرز التوجهات ذات المنزع الاخلاقي الروحاني العازف عن الدنيا ومتاعها، وفي فترة اخرى يغطي صراخ ولعلعة سلاح ( الجهادية) والدموية كل الارجاء. وتصبح هي الممثلة للإسلام شرقا وغربا. وبين هذا وذاك درجات ومساحات تملأ فراغاتها حسب الحاجة ودواعي المصلحة.

وطبيعي أن تعرف منظومة فكرية، وفلسفة تربوية ونظام تشريعي. مثل هذا التعدد في أنماط التفكير، والاختلاف في التأويل، وعدم الإجماع حين التنزيل، ما دامت تعمل على السمو بروح أتباعها دون إهمال لمطالب الجسد المتعلقة به. ففي هذا المستوى يسعد من يستحضر نبل وظيفته في الدنيا التي أرادها الله له حين استعمره فيها، ويضل من يتخذ تعبده ويحصر كل جهده وقتاله في كسب غنائم الدنيا بعد تخريب عمرانها.

مفهوم السياسة عند مفكري الإسلام:

نقف عند المفهوم الذي قدمه أحد أعلام هذا الفكر، ونقصد به بالضبط ابن خلدون قائلا:« حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية و الدنيوية والراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا» هنا يجعل مؤسس العمران البشري غاية الفعل السياسي هو التقرب إلى الله ومطية وطلب لما أعده للمؤمنين في الآخرة، تساوقا مع الفهم السائد «أن الدنيا مطية للآخرة » وإن اقتضى الامر استعمال سلطة الإكراه ل«حمل الكافة» الذين قصر فهمهم عن إدراك هذه الغاية لأن مصلحتهم تقتضي ذلك، وهذا ما يفتح الباب أمام استعمال العنف وقضاء الشارع لتحقيق هذا المسعى الذي لا يمكن أن يقبله عقل آمن بأن« لا إكراه في الدين». ولا يستقيم أيضا مع الإجراءات السياسية التي عرفها الرعيل الأول من المسلمين، والاجتهادات التي عرفها الحقل السياسي على امتداد كل هذه القرون, التي حصرت السياسة في دائرة النسبي وجعلتها تهتم بالواقع المعيش للناس الذي يمكن قياسه إخضاعه للتقييم ببعده أو قربه من تحقيق المصلحة. حين الاختلاف حولها وكيفية تدبيرها بشكل خلاق يحفظ للناس أمنهم واستقرارهم. ومن ثمة فهي قبل أن تكون نظريات في الحكم، فهي «فن إدارة المجتمعات الإنسانية» (معجم روبير) وإدارة الإنسان بما هو كائن مسكون بحب التملك والتسلط، لا ينصاع إلى القواعد المنطقية والمساطر القانونية التي لا تلبي هذه الرغبة، والتي هي مصدر كل صراع وزناد كل الحروب. وتحضر السياسة هنا اقترانا ب«أفعال البشر التي تتصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام» (معجم العلوم الاجتماعية) بعيدا عن استعمال العنف المادي أو الرمزي، واستخدام القوة المتاحة في استكمال العمران وليس تدميره والعودة بالمنجزات الحضارية إلى ما قبل القرون الوسطى. بل الامر يتطلب البحث عن قواعد العيش النبيل وإبداع طرق التقرب من الآخر والبحث عن المشترك الإنساني الذي يوحد، ولا يفرق، ويبني ولا يهدم. من هنا كانت الحاجة ماسة إلى سبر أغوار الإنسان بحثا عن هذا الجوهر الذي يشترك فيه الكل لإعادة التوازن للمجتمعات الإنسانية وتلبية حاجتها إلى الامن والاستقرار، فهل يحقق التصوف هذا المبتغى؟

التصوف السياسي:

لقد نحى التصوف في بداية نشأته إلى الانقطاع عن الدنيا، والاقبال كلية على الآخرة وطلب نعيمها. لكن هذا المفهوم سيتعرض إلى كثير من التغيير والتحريف أيضا، حينما لم يعد التصوف كلا واحدا، بل صار مدارس وسلوكيات تبتعد قليلا أو كثيرا عن ما أراده منه رواده ومؤسسيه. فنجد ضمن دائرته: السني والفلسفي والطرقي ….إلى حين بدأ الحديث عن التصوف السياسي الذي جعله بعض الدارسين ثاويا خلف جميع أشكال التصوف، باعتباره كان رهان السلطة للتمكين لأطروحاتها وتمرير مشاريعها وتبريرها. وقد جاءت الدعوة إلى إحيائه وتجديده عقب توسع خريطة الدولة الإسلامية، وما صاحب ذلك من الصراع على السلطة والخلافة، حيث انكفأ أصحابه على الذات بغية تزكيتها والارتقاء بالجانب الإنساني الروحي فيها، قبل أن يتحول إلى تيار له إسهاماته على مستوى الوعي السياسي وصناعة الرأي العام. ومنه إلى مؤسسة ضاغطة لها مطالبها اتجاه المؤسسة السياسية جنبا إلى جنب الأحزاب السياسية ونسيج المجتمع المدني.

التصوف بين الامتداد والانحسار:

كانت الزاوية مكون من مكونات الدولة، وكانت تقوم بأدوار متعددة بدءا من التعليم والتأطير، إلى الدفاع عن العقيدة وحراسة ثغورها، والقيام بشؤون القضاء والفصل في المنازعات. كما كانت ملجأ لكل هارب من الظلم، أي كانت تمنح نوعا من اللجوء(السياسي). وشيخ الزاوية« تابعا للسلطة السياسية، وفي أبسط الأحوال جابيا للضرائب، متقاضيا لأجرته، وفي مستوى أدنى ضمن بنياتها السياسية». ومن هنا نفهم لماذا بدأ الاستعمار بمحاربة الزوايا والحد من دورها التنظيمي كرمز من رموز الدولة وأحد «أجهزتها الإيديولوجية » والعمل على خلق تنظيمات منافسة متمثلة في الأحزاب والمجتمع المدني.

ومع تصاعد الإسلام السياسي، بدأنا نسمع مؤسسات بحثية دولية توصي «بتشجيع الإسلام الذي يكون أكثر تماشيا مع السلم العالمي والمجتمع الدولي والمحبة للديمقراطية والحداثة» والحديث هنا عن الإسلام الذي ينعت أحيانا ب«الشعبي» وأحيانا ب «الأرثودوكسي» الذي لا ينبغي أن يبقى حبيس الجدران داخل الزوايا والتكايا، تمارس طقوسه في مناسبات معلومة من السنة، ولا نكاد نعثر له على أثر في المجتمع. وعليه ينبغي جره إلى حلبة الصراع السياسي بغية تخليته من النزعات المتطرفة و المتعصبة، وتحليته ثانيا بصدق التوجه إلى الخالق وصفاء قلب نحو المخلوق، وليس من نواقض الزهد في شيء طلب الرياسة والسلطة بدون أن تأسرك في شباكها وتحصر همك في الاستمتاع بغنائمها كما قال أبي الحسن الشاذلي: « ليس الزهد أن تملك شيئا، ولكن الزهد هو أن لا يملكك شيء». مع الالتزام بقواعد سلوك القوم التي حددها الحارث المحاسبي في:

– لا يلعنون أحدا ولو كان ظالما.

– لا يدعون على أحد بالقول ولا بالعمل.

_ لا يطلبون الانتقام.

– لا يشهدون على احد بالكفر ولا بالشرك ولا بالنفاق لأن ذلك أقرب إلى الخلق وأكثر بعدا عن مقت الله تعالى.

وقد تجلت العودة الصوفية إلى التعبير السياسي من خلال ميدان التحرير بالقاهرة، وإبداء رأيها في دستور 2011 بالمغرب، فهل فهل ستكون هذه العودة هي «المنقذ من الضلال» حين تهافت السياسة وأهلها؟

‫تعليقات الزوار

2
  • Lamya
    الثلاثاء 28 فبراير 2017 - 23:25

    ليس التصوف هو البقاء في الزاوية او في البيت منقطعا عن العالم الخارجي و متصلا بالله تعالى, رغم ان هذا خيار العارفين بالله, لانهم يجدون راحتهم مع الله اكثر مع ممن سواه, لان لله جنود السماوات و الارض لا يعلمها الا هو, و لكن التصوف هو مقام الاحسان, وهو استحضار في كل مكان و زمان و حركة وسكون لانه اقرب الينا من حبل الوريد. فيمكن للانسان التحدث معه في كل كبيرة و صغيرة. و الاحسان ايضا هو ان تكرم و حتى من اساء اليك في السابق و تصبر على من يسيئ اليك في الحاضر و تجاهله و تشهد عليه الله و ملائكته, فينصرك الله عليه. هناك من يظن ان الله او يستحضر الله فقط في الزاوية او المسجد و ينساه في اماكن اخرى. و هذا خطا طبعا, لان الله معك في كل حال و مكان.
    انا شخصيا كثيرا ما ينصحني الناس و يقولون لي ان هذا الطريق يؤدي الى الهلاك او انني لست في كامل قوايا العقلية ههههه ولكن يتفاجؤون ببحدوث اشياء لم تكن لهم في الحسبان.

  • المهدي
    الأربعاء 1 مارس 2017 - 06:58

    تقول الأخت : " ان تكرم من اساء اليك في السابق وتصبر على من يسيء اليك في الحاضر " ، اي من صفعك على خَدَّك الأيمن أدر له خَدَّك الأيسر ، هذا كلام غاية في المثالية وينبغي للمرء ان يبلغ زهد وورع الأنبياء حتى يتقيد به ، لكن يا اخت في مجتمعنا الحالي لو أدرت خَدَّك الأيسر لمن صفعك على خدك الأيمن لما توقف الصفع ، الالتزام بمكارم الأخلاق لا يعني الانحناء للظالم وإكرامه والصفح عن الصفع ، الناس اليوم ستأخذ هذا مذلة منك واسترخاصا لنفسك ولكرامتك ، لا لتحريم الظلم على النفس وقبوله من الاخر ، والأفضل لتحقيق التوازن تشديد قوانين الزجر ضد كل من يخل بسنن التعاقد الاجتماعي فكلنا سواسية ولا يجوز للغير ما لا يجوز لنا، من اساء الي او صفعني أسيء اليه وأصفعه بالقانون متى كانت هناك دولة حق وقانون تقتص للأفراد ويتنازلون لها بحكم المدنية والتحضر عن حقهم في الاقتصاص ومتى غاب ذلك فسأصفع مرات ومرات من صفعني ، اما اكرام من اساء الي فسيكون من جنس فعله ، جميل ان تكوني مسالمة وعلى خلق لكن هذا لا يعطي الحق لمن لمس فيك ذلك ان يتمادى في الاساءة اليك ،الناس حكارة وتنزيل المثل العليا صعب ان لم يكن مستحيلا مع هؤلاء القوم

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال