هندسة الماء

هندسة الماء
الإثنين 9 مارس 2020 - 08:46

في ديوان (كأني أغزل موجا) للشاعر المغربي مصطفى لفطيمي

..

كأنه تمهيد:

ونحن نروم فهم الشاعر (مصطفى لفطيمي) خارج شرط الشِّعرية المرتبط أساسا بمفهوم البويطيقا، نروم وأد المعنى في أتربة التحكم المعجمي ومعتقل العبارات القاموسية. ومن ثمّة لابد من عقد ميثاق قراءة مع هذا الشاعر الزئبق، لمقاربته لا موضوعيا ولا عشقا ولا علماً، وإنما لمقاربته مقاربة شعرية بآليات أكثر شاعرية … هكذا ينبثق المنهج من خلال التّماس الفعلي المنفعل والفاعل في علاقة جدلية عائمة تتيح أكبر مساحة لإنتاج وإعادة إنتاج المعنى والدلالة، من طرف المتلقي عبر ممكنات التأويل، مع هذا المبدع النازح من حقول الماء.

في اشتهاء الدلالة:

يتكون الديوان من ثلاث لوحات:

اللوحة الأولى – كأني أفتل قلادة من فصوص الماء. وتتكون من إحدى عشرة قصيدة

اللوحة الثانية – الأزهار تموت حين لا يراها أحد. وتتألف من أربع قصائد بعنوان واحد هو (كأني من دون شريان)

اللوحة الثالثة – لا يتغير لونه فيبقى قاتما في العيون. وتتألف من سبعة عشرة قصيدة

المجموع اثنتان وثلاثون قصيدة

في هندسة الشكل ومورفولوجيا الكلام ترقد هندسة المعنى. وفي استشكال العلاقة بين المبنى والمعنى يرقد مفتاح التأويل. وهو ملفوظ صغير مُصغّر ماكر، ويتعلق الأمر بهذه ” الكأن ” البانية لنسق الشعر والشعرية في ديوان الفاضل مصطفى لفطيمي (كأني أغزل موجا)

هذه ” الكأن ” لا تقبل أن تكون مجرد أداة بلاغية، ينحصر دورها في رسم المسافة بين الكائن والممكن. وإنما وأساسا، تتحول هذه الأداة إلى عالم من التصور الفني الواعي بقدر الشعرية في قبضة شاعر في حجم م لفطيمي. وهو التصور الرافض لمشروع القول داخل البداهة وداخل الشبه والتكرار والنسخ على المنوال.

2 – في اشتهاء العتبات:

يتناسل التبئير الدلالي من مكون كبير هو العنوان الحامل لدلالة المسافة، عبر مكونات صغرى تمضي بالقول الشعري مضيّ الإدهاش:

– الديوان … كأني أغزل موجا

– اللوحة الأولى … كأني أفتل قلادة من فصوص الماء

– القصيدة الأولى من اللوحة الأولى … كأني بدون أصابعي

– سطر شعري من القصيدة الأولى … كأني أحترق وحدي

– سطر شعري آخر من نفس القصيدة … كأني أصرخ في وجهي

– القصيدة الأولى من اللوحة الثالثة … كأني من دون شريان. وتتكرر نفس اللازمة أربع مرات.

تختفي هذه “الكأن” لفظا في اللوحتين الثانية والثالثة لتحضر دلاليا راسمة المسافة سياقيا عبر استيعاب المعنى الأول بالنفي (نفي الغزل ونفي الفتل) إلى تمثل المعنى الثاني بالإثبات عبر النفي (موت الأزهار حين لا يراها أحد) و(استمرار القتامة حين لا يتغير اللون) … هكذا يمارس الشاعر باقتدار لعبة الهندسة وتشكيل الدلالة خارج المعنى لاستشراف أفق أبعاديّ دلالي عامر بالأسئلة. وأول هذه الأسئلة: لِمَ صاغ الشاعر هذا الديوان في عشق الأصابع؟ ولِمَ كان البدء (كأني بدون أصابعي) وكان الختم (أصابع طويلة). وبين البدء والختم، أي بين النفي والإثبات، انبثق عالم شعري يقوم على عملية الهدم والبناء لمجموعة من المقولات والموجودات نستكنه أغوارها في هذا المسار التأويلي السيميائي المتواضع.

3 – في اشتهاء العلامة:

نبدأ من البداية ونقول إن الشاعر يعلن عن طبيعة الكتابة داخل رؤيته الفنية والوجودية، وهي كتابة لا تنفصل عن الذات وليس بينهما برزخ تبغي فيه الواحدة على الأخرى. الكتابة الشعرية في هذا الديوان هي انبثاق لمجموعة من اللحظات الشعرية الداخلة في نسغ وجود الشاعر نفسه. وحيث أن المسألة تنزع إلى هذا التوجه الحلولي، فإن الكتابة الشعرية هنا، هي الذات نفسها، في تجلياتها المتعاقبة علي بياض الورق الذي تفتك بعذريته في عنفوان جميل، يقول بمقولة التمرد، في مفهومه الشعري الواسع، ويدين بدين الخروج.

لنعقد أولاً هذه المقارنة، ولننظر ما سننتجه من دلالات ممكنة. والمقارنة نعقدها بين عتبتين: عتبة العنوان الكل (كأني أغزل موجا) وعتبة الوحَدة الشعرية الأولى الجزء (كأني أفتل قلادة من فصوص الماء). تستدعينا هذه اللحظات الشعرية، في مكر لذيذ إلى معاينة المشترك الدلالي بين العتبتين على مستوى حضور الماء في كليهما، وحضور أداة (كأن) على مستوى الربط، وحضورها كميسم سيميائي يرسم المسافة بين المشبه والمشبه به، أي بين الكائن والممكن.

وفي هذا السياق يتم إسناد فعل الغزل لمسند إليه يتسم بالغرابة والانحراف (اللغوي طبعاً) عن مألوف القول العربي الفارض منطق العلاقة المباشرة بين المسند والمسند إليه، كأن نقول (غزلتِ المرأة الصوف). الذات هنا تغزل موجا ولا تغزل مادة قابلة للغزل، تنسج عالمها الانزياحي القابل لتفجير الدلالات الممكنة الرافضة للبداهة والرافضة لكل شيء إلا الإدهاش الباعث على التأمل المفعم القريب من التفلسف، لا التأمل الرومانسي الحالم والهارب بالحمولة الدلالية بعيدا عن تأويلات المتلقي، في تذوقه وفي اندماجه مع عوالم نصوص هذا الديوان. من هنا إمكان بسط التأويل التالي: لا يستقيم المعنى داخل مألوف التركيب النحوي بين المسند والمسند إليه لاجتناء الدلالة البعيدة، من ثمّة قابلية التأويل التالي: المغزول أو المنسوج مادة متمردة على فعل الغزل والنسج.

أما الفتل فهو اللّيّ في لسان العرب، ويرتبط بالقلادة (كأني أفتل قلادة من فصوص الماء) والقلادة مكون لفظي يستدعي بالضرورة حضور الأنثى، كما فِعلُ الغزل تماما. والقلادة مادّة من فصوص الحجر الكريم وما جاور ذلك. لكن عملية الفتل هنا لا تستقيم معها باعتبار التركيب النحوي الصارم، لأن الفتل يستقيم فيه المعنى مع خيط أو حبل أو سلك أو ما شابه… خارج هذا الإطار يصبح التركيب انزياحا قابلا للتمرد هو أيضا عن ممكنات الإسناد. ومادام الفتل مرتبطا في الديوان بفصوص الماء تصبح العلاقة غريبة ومنحرفة في انزياح واضح يربط بين مادة صلبة (فصوص) وأخرى سائلة (الماء)… وهنا أيضا يتفجر الرفض بائنا في لغة الخروج حيث المفتول يتمرد على عملية الفتل أو نية الفتل.

4 – في اشتهاء الماء:

الدلالة الواضحة من هذا التخريج الأولي هي:

الكتابة الشعرية في هذا الديوان تروم نسج اللاممكن وفتل اللاممكن في توجه شعري يتمرد ويمتطي صهوة الاختلاف والمغامرة والاختراق لمألوف القول في فنون القول.

الكتابة في هذا الديوان هي محاورة شعرية تروم ردم المسافات بين المغزول والغازل، بين المفتول والفاتل، بين المنسوج والناسج، بين العالم والذات … في ثنائية شعرية تفتك بمقولة الجوهر (الماء) والعرض (الموج) لتؤسس عالما شعريا حلوليا بامتياز، تسكنه الإشارة إبدالاً سيميائيا عن العبارة المباشرة، من:

+ سائل + قوة طبيعية + تدفق + جريان + لا رائحة + لا لون + طاقة + غور + عمق …

إلى:

+ ذات + وجود + حضور + انفعال + تفاعل + قابلية الغزل + قابلية الفتل + الإمكان الشعري …

داخل هذا الممكن الشعري يندمج الجرم الأصغر (الذات) في الكوسموس

وتحسب أنك جـِرمٌ صغير — وفيك انطوى العالم الأكبر

في الكوسموس، عن طريق الماء كشرط دلالي واصل بين هذا وذاك… من هنا هيمنة مفردات وألفاظ الماء على مساحات الديوان الشعرية في انبثاقات ممكنة قريبة وأخرى لاممكنة بعيدة وهي مطلب كل تأويل:

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( الماء ) — 38 مرّة

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( البحر ) — 32 مرّة

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( الغيم ) — 30 مرّة

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( النهر ) — 19 مرّة

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( المطر ) — 16 مرّة

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( السحاب ) — 6 مرّات

– الوحدة اللسنية المتعلقة ب ( الطوفان ) — 3 مرّات

في متعلقات لفظة الماء، احتسبنا في عمليات الإحصاء كلّا من مفردة الماء والمياه. وفي متعلقات البحر (البحر والبحيرة والبحَّار والبِحار) وفي متعلقات الغيم (الغيم والغيمة والغمام) وهكذا، حتى تكون الرؤية العلمية واضحة لا تجرّ إلى نتائج اندفاعية يؤسسها شيء آخر غير الرغبة في الكشف حقيقة عن عوالم هذا الديوان.

معناه أن الاشتقاق مدخل لغوي راعيناه مراعاة دقيقة كمناسبة لسانية أفادت تحليلنا وأغنته وأثرته لاستجلاء أبعاد حقل الماء، وتكثيف أدواره الدلالية سواء تعلق الأمر بصوغ الديوان، أو باستجلاء الرؤيتين: الفنية والوجودية معاً.

هذا فضلا عن مجموعة كبيرة من التداعيات المائية المرتبطة بالحقل الدلالي بطريقة غير مباشرة لكنها تعوم في عومه وتسير في مجراه … من أمثلة ذلك حضور مفردات من هذا القبيل: (الضفاف – الضفة – يفيض – الندى – يتدفق – الأزرق – البئر – الأسماك – نغتسل – الموج – الظمأ – السفن – الرذاذ – يغمر – يترشش – الدلو – تقطر – ينهمر – الساحل – مبللة – الغاسل – تهرق – العائمة – أغطس – الحوض – الرغوة – أغمس – تسيح – تغرق – الساقية – يصبّ – يرش – المحيطات – لم ينشف – لم يجف – الغرقى…) وبعضها يتكرر أكثر من مرّتين.

سنعمل على تأويل مكوّن الماء في الديوان عبر استكشاف دلالته وأبعاده انطلاقا من خطّة تعتمد الآليات التالية:

+ آلية انسجام الهوية: تتشعب في حقل الماء الدلالي كثيرٌ من الحقول الدلالية الأخرى، لا نقول هي صغرى تابعة، بل نقول هي مجاورة تكمّل صورة الماء في رؤية الشاعر الفنية والوجودية وتدعمها في اتجاه تحويل تشعّب الهويات (هوية البحر – هوية النهر – هوية الماء – هوية السحاب – هوية المطر…) وغير ذلك من هويات تبدو متشعبة مختلفة مستقلة فيما هي تنزع إلى الانسجام في هوية الماء، المقولة الأم.

إن تصورنا لاستعارة الماء ينطلق من كونها مقولة كبرى، غير مغلقة، وإنما هي مفتوحة، كما يذهب إلى ذلك كلٌّ من (لايكوف وجونسون روش) بمعنى أن مقولة الماء تتماسّ مع المقولات الأخرى في علاقة مُشيَّدة، غير خاضعة لجوهر ثابت، في انفتاحٍ دلالي يستعين بمدركنا الحسي كإجراء يقدّم لنا أدوات تصور الماء في ديوان الشاعر م. لفطيمي، ويستعين بالبعد الوظيفي الذي يشكل أساس تنظيرنا لحقل الماء في بعد شاعري وظيفي، ويستعين أخيراً بتصورنا لعنصر الماء في تعدده، أي في اشتغالاته المختلفة في أوضاع مختلفة. على سبيل المثال فقط، فتوظيف الماء في سياق المطر ليس هو توظيف الماء في سياق الطوفان، وهكذا… كما شاءت مشيئة الشاعر في بناء ديوانه وصوغ رؤيته للموجودات.

+ آلية التشتيت والتجميع:

ونقصد بها وجهين:

الأول يتعلق بتشتيت ذهن القارئ، وهو يباشر قراءة الديوان، يجد ذاته موزّعة بين حقول المقولة الواحدة في تشعباتها الممكنة… ومثال ذلك، تشعب مكون الماء بين الماء والبحر والنهر … وتشعب مكون الريح بين الريح والعاصفة… وتشعب مكون الأعلام بين المتنبي وسيزيف وأوديب … في تصور فني يمارس على القارئ ضغطا حريريا يقول له بضرورة تمكن المتلقي بالأقل الممكن من المعارف كي يتلاقح إيجابيا مع الديوان، إلا فإن القراءة ستكون محدودة التأثير والتأثر والتفاعلية المطلوبة… من هنا نتيجة، هي أن الشاعر م. لفطيمي يذود عن مقولة القارئ النخبوي دون أن يقصي القارئ العادي الذي ترك الشاعر له حظّا في استجلاء ممكنات الجمال. ومادام الأمر على هذه السيرة فإن القارئ لديوان (كأني أغزل موجا) قارئان: قارئ عابر يستمتع ولا يصر على الحصاد الكلي… وقارئ يتوغل في الديوان ويحرص على اجتناء أكبر قدر ممكن من ثمرات هذا الديوان. والنتيجة، هي مكرُ الشاعر م. لفطيمي الذي يقدّم باقتدار فسحتين قرائيتين، وهذا يحسب له في طريقة الصوغ وذكائه.

الثاني يتعلق بمساحة الديوان المورفولوجية، حيث يدرك المتخصص في مجال النقد، تشتيتاً بصريا على مستوى اللعبة الجدلية بين البياض والسواد. فالشاعر يقدم لنا أشكالاً مختلفة ومتعددة من هندسة التحبير، بين قصائد يملأ أسطرها الشعرية بكثير من السواد، يصعب معها تتبع حركية مكون الماء، مثلاً، أو أي مكون آخر… وقصائد أخرى يخفف أسطرها الشعرية من السواد، وفيها يسهل تتبع مكون الماء، مثلاً، أو أيّ مكون آخر، على مستوى إحصاء المفردات المتعالقة بغية استثمارها في سياق تتبع الدلالات والأبعاد… ولا يهمنا في هذه اللعبة البحث في جمالية البياض في القصيدة المعاصرة، فهذا له منابر شارحة في مضانّها خارج اهتمامنا. ما يهمنا هنا هو قدرة الشاعر م. لفطيمي على استثمار أي ممكن شعري كي يمارس شعريته القديرة والبارعة في طرح المفردة مع ظلالها الممكنة.

أما عملية التجميع، فهي هنا على وجهين أيضا، تجميعٌ إرادي مسندٌ إلى ذائقة الشاعر، يمارسها حتى لا يتسيب ذهن المتلقي خارج المقروء المعقول، والممكن في دوائر أوسع لا تسيج نظرا ولا تفرض رؤية… وتجميعٌ لاإرادي متروك على عواهنه تتحكم فيه ذائقة القارئ وهو يجمّع الأبعاد انطلاقا من تأويلاته وانطلاقا من قدرته على تشريح جسد الديوان… والنتيجة أننا نربح إمكاناتٍ هائلة من عمليات التأويل التي تغني الديوان وتثريه تمد في عمره ولا تجعله ديوانا صامتا.

+ آلية التأويل المشروط:

حظي عنصر الماء في الشعرية العربية بمكانة متميزة جعلت شعراء القديم والحديث يتغنون به كل من زاوية نظره الشعرية والوجودية:

فما ماؤها إلاّ بُكـــــاءٌ عليهم ** يفيض على الأكباد منه يحورُ

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** أمامي وخلفي روضة وغديرُ

المعتمد بن عباد

أشدُّ من الماء حزناً

تغربت في دهشة الموت عن هذه اليابسه

أشدُّ من الماء حزناً

وأعتى من الريح توقاً إلى لحظة ناعسه

وحيداً. ومزدحما بالملايين،

خلف شبابيكها الدامسه.

سميح القاسم

أما في سياق الديوان (كأني أغزل موجا) فينبري لنا الماء عنصرا ماسكا بتلابيب الإدهاش الشعري على مستويات عديدة:

1 . منها مستوى التطهير: قال الشاعر م. لفطيمي

(إلى أن يعود وجهي ثانية من البحر، ليس أمامي سوى خيارات ضعيفة:

أن أغسل بالرذاذ شوارع المدينة

أن أفتل للسماء قلادة من فصوص الماء

أن أحمل محاراً بين يدي من الشطوط المهجورة…)

يمثل الماء أصلاً يمتد في الشاعر ومن الشاعر، وأول النبع هنا: بحرٌ حيث يقيم وجه الشاعر “إلى أن يعود وجهي ثانية من البحر” والدليل السيميائي على هذا التوحد القويّ، إسناد الشاعر فصوص الماء للسماء – فرعاً – بعد أن كانت في الأصل فصوصا للموج – أصلاً -… وعملية التطهير هنا تبدأ من هذا المنتهى إلى حدود عملية الغسل، والغسل في ثقافتنا العامة (شعبية وعالم ) ارتبط بعملية التطهير، الغسل في الوضوء، غسل الأيدي قبل تناول الطعام، غسل الميت… من هنا ينزع التطهير نزوعا سيميائياً قابلا للتأويل، مشروطا بتراكم مفردة (الغسل) الواردة في الديوان بشكل لافت، عبر جذرها اللغوي وعبر اشتقاقاتها…

إن حضور مكون الغسل لا يرتبط بالغسل المباشر والواضح والقريب، وإنما يرتبط بالفضاء، حيث فضاء المدينة التي يفيدنا السياق تعفّنها تعفّنا لا يقضي عليه الوابل بقدر ما يفيد فيه الرذاذ، وهنا تدخل اللغة الشعرية باب الإدهاش الجميل وهي تستفيد من رشّ الرذاذ الضعيف لتطهير فضاء واسع ومركب مثل المدينة. هذا الاختيار اللغوي السيميائي يفيدنا دلالة اختيار الشاعر لنظرية الهمس في المعالجة الشعرية، والهمس موصوفٌ في الرذاذ وهو يربت على المدينة كلها أرضا وبنايات ومكونات بشرية في حدبٍ رقيق وحنون، مع العلم أن عنف المدينة يلزمه عنف مضاد ومناسب في نفس الآن، لكن الشاعر اختار نظرية الهمس المفتتة للجبروت عبر وسيلة الزمان وتراخي الزمان مختزلاً في مفردة التفتيت ببطء.

2 . ومنها مستوى التحبير: قال الشاعر م. لفطيمي:

ما عدتُ أرسم قلبينا في الطرة

ما عدت أقطع مع حبل السرة

حروفاً أكتبها متقطعة

في كفّة الثوب الرخيص

ما عادت تأتيني في الغرّة

قبل الريح

بعد المطر

إن قرار الذات بالتوقف عن الرسم أو الكتابة أو التحبير بصورة عامّة، لا يستقيم معناه ولا دلالاته إلا في حضور عنصر الماء… (قبل الريح، بعد المطر) وحيث أن الكتابة هنا مشروطة بغياب الأصابع، (كأني بدون أصابعي) والأصابع فرضٌ واجب لممارسة فعل هذه الكتابة، وحيث أن هذا يتناسب مع صيغة النفي (ما عدتُ، ما عدتُ، ما عادتْ) فإن المسألة تتبدّى إمعاناً في حضور الماء (المط) دليلَ حياةٍ ودليل وجود … (قبل الريحِ، بعد المطر) وحيث أن الريح فعل تشتيت لمنظور الذات الكاتبة فإن المطر فعل تجميع لها وتثبيت.

يفيدنا سياق آخر في نفس القصيدة أن الماء هو الكتابة، عبر تأويل السحاب في قول الشاعر:

أين ظلّي لأحمله فوق السحاب

والظل مكون غير قابل للقبض، هيولاني ولو أنه مرئي، ولامصداقية له – في نظر الشاعر – إلا إذا عمّدهُ الشاعر في منطقة غير آهلة بالوجود البشري، أي فوق السحاب، حيث السديم النقي الواهب لمفهوم الظل الكتابة الناقصة، شرعية الاكتمال.

تكتمل صورة الكتابة في الديوان عبر تأويل القصيدة الأخيرة منه (أصابع طويلة). فإذا كان المبدأ كتابة ناقصة على مستوى ارتباطها بالظل، فإنها في القصيدة الأخيرة تحاول تحقيق اكتمالها أو على الأقل الخروج من حالة النقصان. قال الشاعر:

على ظهري المقوّس

أحمل الريشة

البحر

ويبدو البحر هنا لا فضاء سائلا متموجا بقدر ما هو معادل موضوعي تستمد منه الريشة شرعية وجودها ومصداقية فعلها. وفي هذا المقام يجرّنا الشاعر وباقتدار جليلٍ إلى المحاورة الممكنة مع النص الديني الذي يستحضر البحر والقلم مقابل استحضار الشاعر لمكوني البحر والريشة ( ُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا – سورة الكهف – 109 ) في إطار تناص خفيف الملمس لا يقهر التشاكل بين النص الحاضر والنص الغائب ولا يلوي للآية عنقاً كي تستجيب لمنظور الشاعر في ممارسة حضوره الشعري . وإذا كان النص القرآني يستدعي البحر والقلم في إطار الإعجاز، فإن الشاعر يستدعي البحر والريشة في إطار الاكتمال ومصداقية الشعرية والشاعرية، في جدل مع البداية حيث النقصان كان سيد الموقف.

3. ومنها مستوى التخييل:

عبر مكوّن المخيال يمكننا أن نستوعب اللاممكن ممكناً، والمُحال حالاً، والمستبعد قريباً… وهو ديدن الشاعر في سياق هذا الديوان الذي اختار أن يمارس داخله لعبة التخييل في متاهات شديدة الاستشكال.

نشتغل، مثلاً، على قصيدة (لا أغلق الثقوب بالقطن ص 32) وفيها يحضر مكوّن الماء عشر مرّات، ناهيك عن توظيف هذا المكوّن بطريقة غير مباشرة. إن ما يسترعي انتباهنا في هذا المقام هو قدرة الشاعر على ممارسة التخييل داخل منظور ثلاثي الأبعاد يشدّ الواقعي إلى الرمزي إلى المتخيّل، منظورا إلى هذه الأبعاد داخل مرجعية التواصل، بخلاف ما سطّره (ك . ل . ستراوس) بتأكيده على أنّ هذه الأبعاد منفصلة ومستقلّة بعضها عن بعض.

إننا لا ننتظر من أيّ شاعر أن يعكس لنا الموجودات بواقعيتها المسطحة، أو أن يعيد إنتاجها ثانيا على غرار وجودها المتعيّن، ولكننا ننتظر منه بحكم موقعه الفنّي المتعالي البعيد عن معنى التراتبية، أن يقفز بنا إلى عوالم مدهشة تلتقي فيها الابعاد الثلاثة التقاء مُفارقا (paradoxal) يردم الحدود بين ممكنات النظر وصوغ هذا النظر. من هنا فرمزية الماء، تتجاوز الفكر، بمعنى أن البيان الشعري في هذا الديوان لا يعقل الماء وتداعياته، وإنما يغزوهما ويقتحمهما في تشكيل فنّي يلحّ على استضمار الذات داخل الماء: (لا أذكر ظلي… أذكر كيف هرب منّي قبل عام، يركض في عيون الماء… كيف أضعتُ كل شيء … البحر… أذكر أن أمي… كانت غمامة… وأن المياه لا تفيض… لأن الشمس تشع في النهر، والنهر يغسل خصلات الشعر… ولا أترك أصابعي تحمل المحيط… ولا أصل إلى الماء… لا أحتاج إلى قامتي التي أنساها أيام الشتاء، لا أحتاج إلى ظلي الذي يسبقني إلى الحقول والبحيرات ص 32 إلى 34) كيف يمكن تمثّل هذا الزخم الدلالي الذي يتقاطر من عنصر الماء في أبعاد زئبقية تكاد تتأبّى على القبض لولا رحمة التأويل؟

يترجم الظلّ هوية الذات، فيما يترجم الماء هوية المعادل الموضوعي القابع في رغبة الشاعر في تجاوز هذا الوجود المادّي الفيزيائي إلى وجود سديمي. إن افتراض هروب الظل من الجسد هو إعلان تخييلي عن إرادة مقبورة في الكُمون الشعري، حيث يتدرج وجود الظل داخل أربع لحظات، يؤطرها حضور الماء دائما:

لحظة النسيان (لا أذكر ظلي) – لحظة الهروب (أذكر كيف هرب منّي) – لحظة الركض (يركض في عيون الماء) – لحظة الاستغناء (لا أحتاج إلى ظلي).

في هذه المسيرة التخييلية تتبدّى لنا قدرة الشاعر على تطويع عنصر الماء، لا كوسيط إشاري بل كموضوع للإبداع والخلق تمتزج فيه الكتابة الشعرية بالواقع عبر آلية شعرية زئبقية تزوج الحبر للماء، أو العكس، وتفضح باحتشام قصدي تشظي هوية الذات موزّعةً بين الظل و الجسد، وعلامة هذا التشظي السيميائة تكمن في ذكاء آخر، يربط فيه الشاعر تماسك الهوية في بؤر الانتماء ( لا أذكر ظلي، كيف كان بين النخيل، في المفازات) حيث النخيل ترميز قويّ رغم حضور المفازة، باعتبارها فضاء مساعدا لا معيقا… كما يربط فعل التشظي بالثابت السكوني الجامد (ولكن أذكر كيف صار الآن، مثبتا بمسامير على الحائط). وبين الطبيعة في تجليها النقي – النخيل) والطبيعة في تجليها الصناعي (الحائط والمسامير) ترقد ذاتٌ مترقبة لفعل انبنائها وتشظيها في نفس الآن. وفي هذا السياق نذكر علامات الانبناء عبر موجب الماء وسالبه، ومثال موجب الماء حضور الأم مقترنة بالغيمة بحمولتها المخصبة والمعطاء (أذكر أن أمي في ورقة الميلاد، كانت غيمة ص 33)… مثال سالب الماء عطش الذات وانقهارها في غياب الماء (ولأني كنت ألوبُ مثل الحائم، ولا أصل إلى الماء، كنتُ أستدير بوجهي نحو المدى، وأخفيه في الرماد ص 34)… وحسبنا في هذا علامة الرماد وقسوة وظيفتها في احتواء الوجه احتواء قاهرا.

في سياقٍ آخر وعبر اجتياز قصيدة (كأني من دون شريان عميق ص53) تستدعينا هذه الكثافة المائية في سطرين شعريين، وهي كثافة تشي بقدرة فنية على البناء الشعري في قصيدة النثر عبر اخترام وحدة البيت التقليدية إلى بديل الوحدة العضوية (بيننا البحر والنهر والشجر، والغيمة المائلة ص 53)… نستثمر هذه البينية بين المتكلم و المرأة السديم، حيث يفصل بينهما الماء تخييلاً لا واقعاً وفي نفس الآن يمدّ بينهما. إن جدلية الفصل والوصل نفهمها من خلال علامات البحر والنهر والغيمة كدوال على الماء مباشرة، وعلامة الشجر، الدالة على الماء أيضا عن طريق التداعي. تفيدنا هذه المفردات مركبَةً في جسد قصيدة النثر أن الذات والآخر (المرأة) ينسجان بينهما علاقة مادية أساسها الماء الدال على الإخصاب، وتأتي علامة الشجر لتؤكد هذا الإخصاب انطلاقا من علاقة السببية. فلا معنى لحضور الشجر واستنباته خارج شرط الماء. وكذلك لا معنى لحضور المرأة خارج نفس الشرط… إلّا أن حضور مكون البحر بشرطه المالح لا يستقيم مع عملية الإخصاب، ليتحول في لاوعي الشاعر إلى معيق لهذا الانسجام البيني بين الرجل والمرأة على اعتبار أن مادة البحر غير مخصبة خارج شرط الفضاء البحري. وهذا مؤشّر لجدل الفصل. ومما يؤكّد هذا الانزياح في قراءة العلاقة تأويلاً اختياريا لا فرضا، هو حضور الوصف المسند إلى الغيمة (المائلة).. والميل هنا منظورا إليه قدحا يفيد أن هذا الإخصاب غير مكتمل مادامت الغيمة مائلة لا تسّاقط هتناً عادلاً وإنما تسّاقطُ جزافا تسقي ولا تسقي، وعلى الأقلّ تروي بطريقةٍ ماكرة.

تأتي الأسطر الشعرية الأخرى تباعاً متناسلة، تستجيب لهذا التخريج، قال الشاعر:

وأبدأ مرّة أخرى، من هنا، من يدي الحانية

إن خلف الشجيرات امرأة تحكي عن سيرة الماء

وعن الجميزات التي نبتت في عتبات البيت – ص 54

لماذا اختار الشاعر شجر الجميز، ولم يختر شجر فاكهة أخرى؟ في هذا التسطير مكر لذيذ، ذاك أن الجميزة هي شجرة من الفصيلة التوتية، وسياق التوت يشي بالعراء استلهاما للتراث في مكوّن ثقافي مشترك هو عورة آدم. وهنا، قوة التخييل لدى الشاعر م. لفطيمي، ذاك أنه استطاع أن يجر القارئ لفكرة الوصل عبر ملفوظ (اليد الحانية) فيما هو يروم فصلاً في جدل مثخن بالشاعرية. إن حضور الشجر في عتبات البيت يفيد ستراً وغطاء وظلا، فيما اختياره للجميزات التوتية هو كشف وعراء وفضح.

كشف ماذا؟ وتعرية ماذا؟ لا نقول بجوابٍ واحد احتكاراً لحقّ التأويل، ولكن نساهم في التأويل ونقول: إن القراءة الجزئية للمتن تفيد ابتسارا وليّاً لأعناق الخطاب، فيما القراءة العابرة لقارّات الديوان تفيد نظراً سليماً على الأقلّ حتى لا نقول: نظراً كاملاً… نقرأ السياق في تناسله، قال الشاعر:

ثم أختم من هنا، من عيني الباكية

إن خلف السراب طفلة ترضع حليب الأغصان

وتمص رائحة المطر – ص 5′

فإذا كان البدء في هذه العلاقة يداً حانية فإن المنتهى عين باكية… هكذا يحضر عنصر الماء، لا في البحر ولا في النهر ولكن في عنصر الدمع، كاختراق جديد، استئناساً بحقول الماء المتعددة. يفيد الدمع خروجا عن مصادر الماء حيث ربطنا الشاعر لمددٍ طويلة بمصادر النبع والبحر والغيم، ليأتي في هذا السياق ويغير مجرى قراءاتنا المغرورة بالفتح الوهمي، ويصدمنا في حقل الماء حيث المصدر هو الإنسان عبر مكون (الدمع). هكذا يمارس الشاعر على القارئ لعباً فنيّاً يحترم فيه ذكاءه ويجرّه إلى لذائذ النص لاجتناء ما لذّ وطاب منها.

وما يلذّ لقارئ يحوّله الشاعر بمكره المعهود إلى سؤال. نستحضر سياق الأسطر الشعرية حيث نجد ملفوظاً رابضا هناك، يمنعنا من قراءة العلاقة بين المتكلم والمرأة قراءة واصلة، ذاك أن هذه المرأة التي تحجّبت عنا في أول المطاف بشجر من فصيلة التوت، إمعانا في التنكيل بالآخر، ها هي تلوذ بالسراب تختفي وراءه (إن خلف السراب طفلة – ص 54) لتترك الذات قابضة على الوهم والهيولى والفراغ.

إن رمزية الماء كما تظهر في الديوان تتعدد تمظهراتها بين البحر والنهر والبئر والبحيرة والمحيط والغيم والمطر وحتى الدمع وتتجلى لنا شبيهة بالحلم، وهي رمزية متحركة ومتغيرة، ولا يمكن التنبؤ بها أو محاصرتها في إدراكنا كقرّاء عابرين. وحسبنا من هذا أن الشاعر م. لفطيمي أبحر بنا في مستوى التخييل هذا عبر صور تخرج من الذات والفن لتقول لنا بإمكان التخييل أن يغيّر من وجودنا شيئا… ولو شيئاً… وهنا بالذات أستحضر قولة لبول ريكور (إننا بتغيير خيالنا تستطيع أن نغيّر وجودنا)…

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش