المربع الذهبي المظلم

المربع الذهبي المظلم
الأربعاء 15 ماي 2013 - 17:25

رغم أنني لست من هؤلاء المهووسين بعقدة المؤامرة، الذين يرون الدسائس تحاك ضدهم في كل شيء يحيط بهم، و لست، في المقابل، من هؤلاء الذين ينكرون وجودها بالنفي القاطع… رغم كل هذا، فإن المتتبع الممعن في تسلسل الأحداث الأخيرة ينتبه أن أياد خفية تحاول تسليط الأضواء الكاشفة على ركن معين من خشبة مسرح الساحة السياسية. فتجذب بذلك تركيز الفرد نحو نقاشات هامشية لا تفيده في شيء، و تلفت انتباهه عن قضاياه المصيرية التي من شأنها أن تغير من معطيات معادلة الصراع الفكري.

و لو واصل هذا الفرد “المتفرج” الإمعان في خشبة هذا المسرح، و أتيحت له بعض وسائل الإدراك الصحيح لمجرى الأحداث، و رزق موهبة النقد السليم، فإنه سيبصر أن مربعاً آخر من خشبة المسرح يبقى على الدوام مغموراً في الظلام الحالك، وسيلاحظ أن الأضواء الكاشفة تتفادى هذا الركن عن قصد، وكأن إرادة خفية تحرص على أن يبقى في العتمة، و هو ما يصطلح عليه ب “التعتيم الإعلامي”.

فهذه الأيادي الخفية تعلم أن “المشكلة و الحل” يكمنان داخل هذا المربع الذهبي المظلم الخطير.

و للتحكم في هذه الخدعة المعقدة و ضبطها عند الحاجة، يتم اللجوء إلى مختبرات متخصصة في الكيمياء السياسية لتطبق على الفرد “المتفرج” ما يصطلح عليه بتجربة بافلوف في الاستجابة الشرطية، كمبدأ أولي في علم النفس المادي الذي يهتم بدراسة رد الفعل المنعكس La Réflexologie.

وبافلوف هذا كان عالماً روسياً شهيراً في بدايات القرن الماضي، وكان مشغولاً بنظرية الاشتراط أو الارتباط الكلاسيكي بين المثيرات والاستجابات، فأجرى تجاربه على مخلوق مسكين هو الكلب، بحيث يقيس مدى عمق الارتباط بين تقديم طبق اللحم وسيلان اللعاب، ثم أدخل عناصر أخرى فى المعادلة، فربط وضع طبق اللحم برنين الجرس وأضواء معينة، ليتوصل فيما بعد أن اللعاب صار يسيل كلما رن الجرس وجاء الضوء.

وللأسف الشديد هناك من يريد توجيه الرأي العام و تدجين الوعي السائد ليتحكم فيه على طريقة بافلوف في السلوكيات المكتسبة، فكلما أحس الممسك بخيوط هذه اللعبة القذرة بقرب انكشاف مربعه المظلم، ضغط بأصبعه على زر هذه الماكينة العجيبة، في مناسبة معينة، فيلهي هذا الفرد المتفرج المرهق و المهان حد الركوع بشيء يستفزه و يثير غضبه، فيغرقه في حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، فيفقد شعوره و يصبح عاجزاً عن إدراك موقفه و الحكم عليها حكماً صحيحاً. بل يسهل توقع ردة فعله مسبقاً، لذلك ترى هذا الفرد المغلوب على أمره يوجه ضربات في الفراغ، و ينهك من قواه دون أن يصيب هدفه، فينهار.

و تستمر هذه اللعبة دون انقطاع حتى لا تكون للفرد فرصة لتدارك أنفاسه ثم التفكير في مشكلاته الأساسية بمنطق الفعالية ثم الأخذ بزمام الأمور لتغيير واقعه نحو نموذج ينسجم مع إرادته الحقيقية. و هكذا يضل حبيس هذه الدائرة الضيقة و بداخلها يجمد تفكيره بين الإثارة و ردة الفعل.

المشكلة أن هؤلاء الذين يصطنعون الأزمات بالطريقة ذاتها، وينتظرون ردود أفعال واستجابات لا تتغير، لا يدركون أن الجيل الصاعد أنتج وعياً جديداً واستجابات مغايرة، لكنهم للأسف ما زالوا مأخوذين ومبهورين بنظرية بافلوف، التي تجاوزها علم النفس منذ عقود طويلة…

من أجل ذلك، ستلاحظ معي أنه في كل مرة يصرخ فيها أحد “المتفرجين” مشيراً بأصبعه إلى مكان المربع المظلم، سيجد نفسه معزولاً بدوره داخل مربع مظلم جديد، إما باحتوائه من الداخل و إغرائه بالمناصب، أو بمنعه من الكتابة و التضييق عليه، أو جره إلى المحاكم و تدوير القوانين ضده، و إن اقتضى الحال يلقون به في زنزانة السجن. فيصبح في خانة معتقلي الرأي. هكذا يجد “المتفرج المنتبه” نفسه في نقطة تقاطع النيران التي تصوب عليه من كل جهة لأنه أوشك أن يوقظ الوحش النائم في أحضان شعب مرهق الأعصاب.
سيتبادر الآن إلى ذهن القارئ سؤالاً جوهرياً يطرح عليه بإلحاح: أين مكان هذا المربع الذهبي؟

الجواب على هذا السؤال ليس بسيطاً، و لا يكفي أن أشير بأصبعي إلى مكان المربع المظلم، و في مثل هكذا موقف، يتعرض الضمير لنقاش حرج في التوفيق بين واجب الصمت و واجب الكلام لاعتبارات عديدة، أهمها أن الكلام محدود في موضوع كهذا، قد أحيط بسياج من الاعتبارات التي لا تترك مجالاً كبيراً للحديث فيه. و لعل القارئ سيجد هنا المنبه الذي يلفت نظره إلى واقع الصراع الفكري. و” الحر يفهم بالغمزة”

[email protected]
www.facebook.com/omar.benomar.771

‫تعليقات الزوار

2
  • مغربي
    الخميس 16 ماي 2013 - 01:42

    مع احترامي التام للسيد الكاتب ، مقالك عبارة عن كلام عام إنشائي لايقدم أي حل ولا أي موقف اللهم أنه يخبرنا بأن السيوف مشحودة لقطع رقاب العاملين في مجال الإصلاح . هذا مافهمت نظرا لعلمي المتواضع.

  • مغربي
    الخميس 16 ماي 2013 - 03:53

    أظن أننا لسنا بحاجة إلى كثير حبر أو لف ودوران كالذي يدور حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، إن قراءة الوضع السياسي المغربي لا تحتاج كثير فلسفة لدرجة أن نتعب القارئ في متاهات فلسفية وعلمية كي نحلل وضعا مريضا كالمغرب ، عفوا أخي الكريم إن المغاربة سئموا هذا النوع من التحليل ليس لانهم لا يفهمونه بل لانهم تعبوا ويريدون الخلاص ، وخير دليل تجاوب المغاربة مع مقالات الصحفي رشيد نيني لماذا ؟ لانه كشف المستور أو ما أسميته أنت الذي يحاك في العتمة بلغة واضحة وصريحة كشفت عن هؤلاء المفسدين الذي يقبعون في المربع الذهبي كما اسميته فحبذا لو أفصحت . وشكرا

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 8

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال