مدينة للآخرين

مدينة للآخرين
السبت 8 يونيو 2013 - 23:35

زرت اسطمبول. أو بالأحرى.. زرنا اسطمبول (كانت الزيارة جماعية) رغم أنها لم تكن أبدا حلما من أحلامي، فقد زرتها. “تيسرت” الأمور بشقيها المادي و المعنوي بما يعني في عرف أمي أن “رجال البلاد عيطوا علينا”.. فكان لا بد أن نستجيب للنداء (رجال البلاد هنا طبعا، بمعنى الأولياء الصالحين و لا صلة للموضوع بالمدعو مهند كما قد يجنح إليه خيال بعض مدمني المسلسلات التركية)..

لنعد إذن لتركيا التي لم تكن حلما من أحلامي.

في خيالي، كان هذا البلد مجرد سحنات سمراء تكاد تكون عربية لرجال و نساء رأيتهم في البلاد الأوربية التي زرتها، يرزحون تحت ضغط واقعهم كمهاجرين: يعملون في مهن صغيرة تبدو وكأنها خلقت لأجلهم و خلقوا لأجلها، رأيت نساءهم الجميلات يدفعن عربات التسوّق أو عربات الأطفال مرتديات الحجاب الذي يحرصن فيه على إظهار “انتفاخ” من الخلف بما يوحي بوجود شعر .. شعر كثير معقوص تحت الخرق الحريرية الملونة (الحجب يفسح المجال أمام الإيحاء).

منذ اللحظة الأولى، تقدّم اسطمبول نفسها باعتبارها مركزا تجاريا كبيرا: البائعون يعرضون الألبسة في واجهات المحلات، فوق الأرصفة، يعلقونها فوق حاملات ويعرضونها مباشرة في الشارع العام.. سلع.. الكثير من السلع. منذ اللحظة الأولى إذن، سوف أدرك أنّ هذه المدينة التي تنظر إلى المستقبل وتتنفس الماضي، هي أيضا حركة تجارية دؤوبة. تكاد تحسّ بأنّ الجميع و بكلّ الجنسيات و الإثنيات الممكنة، يمارسون التجارة، يخيّل لك أنك ستصادف بضائع و خلفها ينتصب بائع داخل دورات المياه المنتشرة هنا وهناك. ليس فقط التجارة بل أيضا الوجبات الخفيفة: خبز دائري محمّر، بلوط مشوي، سردين و سلطات، أرز بحمص، دلاع أحمر مقطع داخل آنية بلاستيكة، حلويات بعسل: هنا يمكننا بالتأكيد أن نأكل و نحن نتجول دون أن نتوقف عن ممارسة هوايتنا الأساسية.. التسوّق.

الجمال في كلّ مكان (في رأسي يدندن عبد الوهاب الدكالي: شفت الجمال فكل مكان.. فكل مكان) أزهار الزنبق tulipe بكلّ ألوان الطّيف، بهيّة تحت شمس أبريل، تمدّ أعناقها برشاقة في الحدائق، على الأرصفة و في مفترقات الطرق فخورة بكونها رمزا لإسطمبول. عبق التاريخ يفوح من المساجد والقصور، من المنازل والشرفات المطلّة على البوسفور العظيم.. الماء يحتضن اليابسة. كلّ ركن في هذه المدينة يحكي حكاية رجال عظماء مرّوا ذات يوم من هنا.

كتاب أورهان باموق(الكاتب التركي الحائز على نوبل) عن اسطمبول، يستقرّ داخل حقيبتي لم أجد الوقت الكافي لأتمّ قراءته.

“تحمل هذه المدينة حزنها بجلال”

يقول كاتب تركيا الكبير.. أطلّ على الكتاب وأعتذر إليه ثمّ أعود “لأرتشف” المدينة..

هل كانت “اسطامبول الحزينةْ” تفتعل الفرح من أجلنا؟؟ أفكر أنها في واقع الأمر تعيش حالة استقبال دائم لزائر محتمل: تفقد المدن الكثير من حقيقتها عندما تختار أن تكون مدنا للآخرين. لكنني و رغم “الدهشة” السياحية التي أصابتني منذ الوهلة الأولى، كنت أعي تماما أنّ روح المدينة توجد في مكان آخر لن تحملني إليه حافلة بمكبر صوت ومرشد يجترّ بضع معلومات سخيفة.. كنت أعي تماما أنّ المدن السياحية تقع من البلدان موقع غرفة الضيوف: مرتبة و مؤنقة و في استعداد مزمن لاستقبال الغرباء. فكرت و أنا “أنسلخ” عن وكالة الأسفار(السيّئة الذكر) أنني و لكي أشبه نفسي عليّ رؤية باقي الغرف، عليّ اكتشاف حميمية حجرات المعيشة واقتفاء روائح المطابخ، عليّ الصعود للأسطح والتسلل إلى الحدائق الخلفية.. عليّ أن أرى الأتراك الذين لا يقطنون في البنايات المطلّة على الشوارع الكبرى، كيف يتدبرون حياتهم التركية فوق هذه الأرض الطيّبة وكيف يصرفون أمورهم اليومية. عليّ أن أبحث عن ملامح ذلك الاختلاف الذي يمكن العثور عليه في التفاصيل الصغيرة التي تصنع حياة الناس، كيف يتحدثون ويضحكون، كيف يحتفلون ويفرحون وكيف يتعبدون (لاحظت في هذا الإطار كيف يقبل الناس مباشرة بعد صلاة الجمعة على اقتناء أصص النباتات وبذور الأزهار دون أن ينسوا شراء الكعك التركي المعجون بالمكسّرات و الأجبان المتنوعة).

باموق الكاتب التركي يحثّني على اكتشاف “سوداوية الخراب” التي تلخّص تاريخ مدينة عظيمة فقدت مجدها. ألتفت حولي أبحث عن “الحزن الذي يشلّ سكان اسطامبول ويمنحهم رخصة شعرية لشللهم” تسحرني فكرة الحزن.. هذا الحزن الذي يرى ابنها البار أنه ينبع من معالم المدينة و شوارعها ومشاهدها الشهيرة. اسطمبول في تحليل باموق هي نموذج حي للتوتّر القائم بين الماضي و الحاضر أو بين الشرق و الغرب.

أطلّ مرّة أخرى على الكتاب الذي لم يتوقف عن ملاحقتي وأهمس له بتواطؤ أنّ اللقاء الأوّل مجرّد انبهار مؤقت، محدود في الزمن.. في اللقاءات الموالية فقط نستطيع نفضّ الغبار عن الأماكن.

المدن العظيمة تتريث كثيرا قبل أن تفتح أبوابها في وجه.. العابرين.

‫تعليقات الزوار

7
  • محمد
    الأحد 9 يونيو 2013 - 00:09

    المدن العظيمة تتريث كثيرا قبل أن تفتح أبوابها في وجه.. العابرين.
    هذه الجملة المركبة والمكثفة على طريق كتاب القصة القصيرة جدا قالت كل شيئ عن زيارة عابرة لمدينة تركية مثقلة بالتاريخ .شكرا ايتها المتألقة المبدعة

  • from germany
    الأحد 9 يونيو 2013 - 01:01

    الأتراك هم أكثر الشعوب عنصرية من غيرهم من الجاليات بالمانيا… يوحدون الله علنا لكنهم يتحولون إلى سباع تتدافع للدفاع عن أبناء القطيع حتى ولو واجهتهم دجاجة…المهم نصرة ابن البلد ظالما أومظلوما..
    الحمد لله ان المانيا يسيرها الالمان، فلو وصل الاتراك إلى مصادر القرار كما هو حال عرب فرنسا، لطردوا باقي الجاليات على الفور…لا يمكننا التعميم ولكن الواقع يقول ان هذا الشعب يؤمن بفلسفة ابن البلد اولا ولو كان شيطانا…

  • Amdiaz
    الأحد 9 يونيو 2013 - 03:18

    على ذكر Orhan Pamuk ، نجيب محفوظ الاتراك، أوصي بقرأة روايته "الثلج" التي تدور حول رفاقه اللذين كانوا يساريين متحمسين في شبابهم و صارو اخوانيين باردين فما بعد….رواية العصر….إسطنبول من أجمل مدن العالم.

  • أحمد الطود
    الأحد 9 يونيو 2013 - 07:35

    مدينة / دولة كإسطمبول لا يمكن أن تبوح في صدق شفاف عن دخائلها لمن يزورها زيارة عابرة استغرقت ( كام يوم)
    أتمنى أن ييسر لك الله زيارات أخرى لهذه المدينة ولغيرها من مدن العالم لنستمتع ( أنا وقراؤك ) بهذا الفيض الغامر من قلمك الباهر الساحر .
    هنيئا لك بهذه الزيارة لإسطمبول .. لا بل هنيئا لإسطمبول بعطرك أيتها الباقة اللطيفة
    دام بهاؤك

  • جمال الفزازي
    الأحد 9 يونيو 2013 - 11:25

    اشيد بالمقال الجامع بين السيرة واليوميات والمذكرات والسرد القصصي والتحليل الاجتماعي التاريخي ..بما يجعله مادة اعلامية غنية ..واعتقد انه يطرح تساؤلا :لماذا تركيا؟ ..
    -لانها تمثلا الوجه المتقدم للدول النامية الذي يريد اللحاق بالكوكبة الصناعية
    -لانها مزيج لثقافات متعددة مثل المغرب (والدول العربية) وبالتالي فهي تعيش سؤال الهوية المتعددة واشكالية الاصالة والمعاصرة
    -لانها تشهد اختيارات "الديموقراطية"في طور التجريب من الناحية التاريخية: الاسلام السياسي والعلمانية
    -لان كليهما ارض عبور وجسر بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب
    والمقال يحاول اضاءة الواقع الاجتماعي المدني التركي للاجابة ضمنيا بالا حل الا بقبول الاخر ونبذ العنصرية والحق في الاختلاف والديموقراطية والانتقال السلس الى الدولة المدنية ليس فقط بالتفريق بين الديني والسياسي لكن بالاعتناء بالطبيعة -الزهور-والتعايش السلمي ..الخ..ويبقى السؤال :هل فقدت تركيا مجدها ام هي في طريق اعادة بنائه بشكل جديد

  • جبالة وإسطنبول
    الأحد 9 يونيو 2013 - 15:03

    بدون حزازات تاريخية مع الأتراك يبقى السؤال هو بعد ذهابك إلى تركيا مادا ستقولين لأهل جبالة المطردون من الأندلس او الموريسكيون في باب الأحد بالرباط او في سلا ،لان تركيا العثمانيون رفضت ان تدعمهم في الأندلس حبا في غزو إسطنبول فهنيأ لك رحلتك إلى جبالة المشرق

  • فتاش من إيطاليا
    الأحد 9 يونيو 2013 - 17:01

    أختي لطيفة، أشكرك كثيرا على واقعيتك أثناء نقلك لصور عن عروس البوسفور اسطنبول المدينة الخلابة التي تسحر بجمالها الباهر كلا من زارها، و تفتن بعبق جماليها الشرقي و الغربي كل من أتيحت الفرصة لرؤية مفاتنها و لو من بعيد…لقد صدقت حقا أختي في مقالك القيم، و أنا كإنسان قبل كل شيئ و كمسلم أعتز و أفتخر بتلك المدينة لأني أدرك جيدا قيمها السياحية و الثقافية و الفنية و العمرانية و الاقتصادية و الحضارية و.. و.. و..أنا لست متنكرا و لا في قلبي غل كالشخص المجهول الإسم، صاحب التعليق رقم 2 الذي ليست له الشجاحة حتى في تقديم نفسه للقراء و بالأحرى فهمه للمقال. "إن بعض الظن إثم" فكيف يحق لك يا سيدي أن تصف شعبا مسلما كريما متسامحا أطيافه و اثنياته المتعددة مندمجة، شعب يندمج بسرعة مع الغير، يتضامن و يدافع عن القضايا العادلة للغير، شعب الامبراطورية العثمانية التي قهرت الصليبيين و غيرهم لما كانت في أوج قوتها، حضارة حسب و يحسب لها الغرب ألف حساب.

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء