السوق الدينية

السوق الدينية
الجمعة 30 غشت 2013 - 15:23

تزايدت في الفترة الأخيرة ظاهرة الحديث باسم الدين وعنه وفيه، إذ عاد الدين بقوة إلى واجهة التداول السياسي والإعلامي والثقافي، وذلك على خلفية “الربيع العربي” وصعود الفاعل السياسي الإسلامي الذي تصدر موقع الحكم في كذا بلد عربي. وهي ظاهرة غير مسبوقة منذ العشرات من السنين، وبوجه خاص منذ بداية الموجة الاستعمارية الأوروبية التي اجتاحت العالم الإسلامي من الخليج إلى المحيط، حيث تسللت إلى العقل العربي ثقافات جديدة أربكت عملية الفرز لديه، وأدخلته مرحلة من التوتر لم يخرج منها إلى الآن.

هناك اليوم اتجاهات مختلفة ومتباينة تتعامل مع النص الديني كل من زاويته، تعامل تمليه الاختيارات السياسية أو القناعات الفكرية غير المتأثرة بالحراك السياسي، وهناك أصوات ومواقف متصارعة باسم الدين نفسه، وهناك اتهامات بالكفر والضلال صادرة من هذا الاتجاه نحو ذاك الاتجاه والعكس، وهناك رواج للتكفير بشكل غير مسبوق على الإطلاق في التاريخ الإسلامي، إذ حتى وإن وجد التكفير في الماضي فهو لم يوجد بمثل هذه الغزارة، ما يعني أن هناك تيارات باتت تتجرأ على الدين وترغمه على أن يكون أداة حرب لا أداة تواصل. وما تزايدت هذه الظاهرة إلا لأن هناك جرأة مقابلة لم تعد تمنح للدين ـ بمعنى الإيمان لا بمعنى التشريع ـ حرمة. ووسط كل هذه الاختلافات والنزاعات أصبح كل اتجاه أو تيار يرسم مربعا محددا يعتبره صميم الدين، إلى الحد الذي يمكن القول معه إن الأمر بات يستدعي إعادة تعريف الدين من جديد، أو التذكير بهذا التعريف على الأقل.

يرجع تعبير “السوق الدينية” إلى أربعة من علماء الاجتماع الأمريكيين ألفوا كتابا عنونوه”السوق الدينية في الغرب”، تحدثوا فيه عن تعددية الخطابات حول الدين وعلاقة الدين بالديمقراطية في البلدان الغربية وموقع الدين من الدولة وما إن كانت الدولة منفصلة بالفعل عن الدين، كما هو شائع لدى الكثيرين. غير أن ما يهمنا هنا هو الشق المتعلق بتعددية الخطابات، أي بتعدد المنتجين للخطاب الديني في العالم العربي.

لقد وجد تعدد المنتجين للخطاب الديني دائما، فقد وجد منتج الخطاب الصوفي حول الدين ومنتج الخطاب السلفي ومنتج الخطاب الفقهي، وبين هؤلاء المنتجين كان هناك صراع خفي أو علني، ومنذ العشرينات من القرن الماضي أضيف الخطاب الإخواني، وهو خليط من كل هذه الثلاثة بدرجات متفاوتة لكن محور عملية الإنتاج لديه هو السلطة. وبينما كان جوهر الصراع ـ في الغالب ـ بين أولئك الاتجاهات الثلاثة هو”السلطة العلمية” أصبح بعد ظهور التيار الإخواني هو”السلطة السياسية”. صحيح أن السلطة السياسية كانت دائما محور صراع، ولكن أصحاب السلطة العلمية كانوا دائما في تمايز عنها ما لم تستدع الضرورة التدخل ثم العودة من جديد إلى موقعهم السابق في السلطة العلمية، قبل أن يخلط التيار الإخواني السياسي بين الإثنين في قالب واحد ويجعل السلطة السياسية والسلطة العلمية مترادفين، إذ أصبح يرى أن مجرد الاحتجاج على الحكم والدعوة إلى الإصلاح يعطيه السلطة العلمية التي تضعه فوق الآخرين. وهذا أكبر انقلاب حصل في تاريخ التعامل مع النص الديني في الإسلام، لكن هذه الفرضية تحتاج إلى مزيد تعميق واختبار لتأكيد علميتها.

وبعكس ما يتصور الكثيرون، فإن رواج السوق الدينية اليوم في العالم العربي من شأنه أن يسهم في إنضاج الممارسة الدينية، وأن يعيد تجديد الفكر الديني الذي تيبس طيلة أكثر من قرن بسبب غياب استعماله في المجتمع، صراعا واختلافا. وما يحصل اليوم ـ وهو مرشح للتزايد باستمرار في السنوات المقبلة ـ شبيه تقريبا بما حصل في القرون الماضية عندما كان الدين في قلب المجتمع ويتم التعامل به بشكل يومي، مما أدى إلى نشأة الفرق والجماعات وتعدد وجهات النظر حول الدين والنصوص الدينية، قاد بدوره إلى تطوير الفكر الديني.

ومهما كان اختلاف البعض مع التصور السياسي للدين لدى الحركات الإسلامية، فإن هذه الأخيرة هي صاحبة الدور الرئيسي الذي أشعل الشرارة الأولى على طريق عودة الدين إلى الممارسة الفعلية في المجتمع بعيدا عن جموده في الأوراق، بيد أن تطور الفكر الديني والممارسة الدينية غير مرتبط بنجاح أو فشل هذه الجماعات، لأن البعض يعتقد خطأ أن فشل هذا النموذج يعني نهاية الفكر الديني أو انحصاره، وما سوف يحدث هو العكس. لقد كانت أول فرقة تكونت في تاريخ الإسلام هي الخوارج، ولكن هذه الفرقة انتهت بعد أن فتحت الباب أمام نشأة فرق أخرى أكثر نضجا طورت الفكر الديني الذي نعرفه اليوم.

‫تعليقات الزوار

6
  • said
    الجمعة 30 غشت 2013 - 16:39

    مقال مهم جدا وسط التحليلات البئيسة التي يطالعنا الكثير من الاقلام السريعة، ذكرني الكاتب بالمفكرين الذي كنا نقرأهم ونحن في الجامعة في السبهعينات والثمانات، الفكر العميق والتحليلات النوعية الثقيلة. رحم الله الجابري واركون والمفكرين الكبار.

  • fatima
    الجمعة 30 غشت 2013 - 18:12

    إنها فعلا حكومة لا عدالة لا تنمية commerce de la religion

  • الدكتور عبد الغاني بوشوار
    الجمعة 30 غشت 2013 - 20:55

    طلب السلطة بالدين هو الهدف
    الحركات الإسلامية هي مجموعات بشرية تصبو إلى الحكم ويريد أن تصل إلى السلطة ليتمتع أعضائها بالامتيازات المادية والمعنوية. أما كون أنها تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية حسب مفهومها لتلك الشريعة الإسلامية فإن كل ذلك يعتمد على رؤى زعيم واحد من زعمائها الذي يستعد لإغداق الخيرات على بقية الأعضاء الذين يبايعونه على الولاء والطاعة. الإسلام لهذه الحركات هو كل ما يمكن أن يقنع ويجلب المريدين إلى الخطاب العاطفي والديماغوجي الذي يتعرف فيع المستمع على رنين الدين الذي لا يفقه فيه أصلا أي شيء سوى الطقوس المصاحبة. المشكل مع هذه الجماعات والنخب السياسية بشكل عام هو سذاجتهم وعدم إيمانهم بالحوار العقلاني مما يدل على مرحلة الطفولة في نموهم. إما أن تعطيه ما يريد أو أن يأخذه بالقوة أو يفسد قوانين اللعب. العبر متوفرة في المجتمعات التي نبذت العنف وأصبح فيها شراكة حقيقية بين كل الفاعلين السياسيين والذين التزموا بتداول السلطة في اطمئنان وسلام.فأن هزمت طائفة في الانتخابات النزيهة فإنها تبارك الطائفة الفائزة ولا تحمل السلاح في وجهها. كم يا ترى من الوقت سيمضي قبل بلوغ ذلك ألمرمى؟ د.

  • جرادة
    السبت 31 غشت 2013 - 17:50

    نتمنى ان تحدثنا ولو لمرة واحدة عن انهيارات و انكسارات السوق العلمانية في العالم العربي خاصة بعد احداث مصر.فعملتها اصبحت رخيصة وسوقها عرف سقوطا مدويا حدثنا عن الا سباب رجاء.

  • agoulide
    الأحد 1 شتنبر 2013 - 13:31

    لم تكن هناك ابدا علمانية في العالم العربي ،كلما كان هو دكتاتورية الحزب الواحد او الفرد الواحد ،لان القول بالعلمانية يستوجب قيام الديمقراطية فلا تبخسوا تدخلاتكم من فضلكم وتضنوا انكم تقولون كلمة حق

  • sifao
    الإثنين 2 شتنبر 2013 - 00:37

    ربط السياسة بالدين مع ظهور الاخوان فيه اجحاف ليس في حق الاخوان فقط وانما في حق الاسلام ايضا ، لم يكن جثمان نبي المسلمين قد وُري الثرى بعد عندما اندلع الخلاف حول الامامة بين المقربين منه ، وتولي ابو بكر لها لم يكن قط لرتبته العلمية وانما لقربه من النبي من خلال ابنته عائشة ، ويروى انه لم يكن على دراية كبيرة بأمور الدين ، وقد عرفت ولايته تمردا كبيرا على الاسلام ، ويقال انه كان على وشك الاندثار في عهده و لم يبق من اتباعه الا القليل جدا ، كما ان تاريخ الاسلام هو تاريخ الصراع حول السطة السياسية ، الفترة التي عرفت انتعاشا ثقافيا للحضارة الاسلامية كان سببها استعانة السلاطين والامراء" بالعلماء" لتدبير شؤون الدولة قبل ان ينقلب الاشاعرة على هذه القاعدة بعد انشقاق ابو الحسن الحسن الاشعري على شيخ الاعتزال بحجة الاختلاف حول حكم مرتكب الكبائر واتهام شيوخهم بالابتعاد عن جوهر العقيدة بالتركيز على المسائل العقائدية في مجادلاتهم الكلامية بدل الاهتمام بأمور العبادات وآداب السلوك التي تهم المسلمين في تهذيب اخلاقهم وحماية الشريعة الاسلامية من اختراق العقل لها ، وكان ذلك بداي النكبة التي نعيش فصولها اليوم

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج