الريسوني بين الثقافة الشرعية والثقافة الشعبية

الريسوني بين الثقافة الشرعية والثقافة الشعبية
السبت 28 شتنبر 2013 - 23:20

ما أعذب اللحظات التي أقضيها وأنا أطالع كتب الشيخ أحمد الريسوني، أو أشاهده على القنوات وهو يتحدث عن عظمة التشريعات الإسلامية، وينافح، بكل ما أوتي من علم وجرأة، عن خصائصها ومقاصدها ومبادئها، حتى يُخَيّل إلي أنني أسمع عن الدين لأول مرة، إلا أنه حينما يلج مجالا غير مجالات اختصاصه، فيتحدثَ فيما لم يُخلق من أجل الحديث فيه، فإن هذه اللحظات تنقلب هما وغما وحزنا على ما قد يصيب الإسلام جراء هذه الخرجات، التي لا تنضبط لشرع، ولا تتلاءم مع روحه ومقاصده وغاياته، بل لم يأمر بها الشارع أصلا.

ما الذي دفع الشيخ الريسوني ليُقحم نفسه في سِجال سياسي معقد؟ وما هي المقاصد الشرعية التي رمى إلى تحقيقها من خلال صب جم غضبه على المظاهرة المناوئة للحكومة، بدعوى أن مجموعة من الحمير تتقدمها وقد كُسيت بملابس ورباطات عنق “حداثية”؟ وما هي الضوابط الشرعية التي اعتمدها للقول بأن هذه الطريقة في التعبير، هي تدني أخلاقي وسياسي غير مسبوق، سيستحيي المؤرخون من ذكرها وتدوينها؟

لقد بات الحمار بؤرة سوداء في ثقافتنا الشعبية، وعادت طلعتُه نذير شؤم، والحديث عنه مذمة ومنقصة، حتى لم يعد من الممكن ذكره في مجالسنا إلا بإرداف كلمة “حاشاك”، وكأنك تذكر طابورا لا يجوز ذكره إلا باستئذان الحاضرين، وطلب المسامحة منهم، ربما هذا ما جعل الأمر يختلط على شيخنا الفاضل، فلم يعد يفرق بين الثقافة الشعبية والثقافة الشرعية.

حينما أراد الله تعالى أن يعالج الانحطاط الاجتماعي، لجأ إلى ذكر الحمير في كتاب، لا يؤتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حيث قال عز وجل:” إن أنكر الأصوات لصوت الحمير”، وحينما عالج الانحطاط الفكري والثقافي ضرب المثال بالحمار، فقال: “كمثل الحمار يحمل أسفارا”، بل حينما أراد أن يقيم الحجة على سعة عظمته، وبالغ قدرته قال: “أنظر إلى حمارك”.

فما الذي جعل عالما مقاصديا يستنكر اللجوء إلى ما لجأ إليه الذكر الحكيم، في معالجة الانحطاط السياسي الذي بلغته هذه الحكومة الغراء؟ أم هي حمية جاهلية، وعصبية مذمومة، لا علاقة لها بالشرع أو مقاصده؟

في حوار صحافي لجريدة “الشروق الجزائرية” بتاريخ 19/10/2010 مع السيد بنكيران، قال: “من استُغْضِب ولم يغضب فهو حمار”، فبالإضافة إلى أن كلامه هذا يناقض الكتاب والسنة اللذان مافتئا يدعوان إلى الحِلْم والتُّؤدة ولجم النفس عند الغضب، فقد استعان بالحمار ليوضح آراءه السياسية، ويفسر توجهاته الفكرية.

لقد لجأ السيد بنكيران إلى تمييع الفعل السياسي في هذا البلد الحبيب، بأن أضاف إليه فاعلا جديدا يُدعى التماسيح، فلماذا لم يتحدث الشيخ الريسوني عن هذا الانحطاط السياسي، وهذه المهزلة الفكرية؟ أم أن هناك نصوص شرعية من الكتاب والسنة تفرق بين التمساح والحمار؟

الإشكالية ليست في الشكل الذي تمت به المظاهرة المعلومة، أو الطريقة التي تم بها إلباس الحمير، فهذه أمور فنية أو تقنية تختلف من ذوق لآخر، لأن الله تعالى لم يخلق الناس نسخة طبق الأصل، وإذا لم تعجب طريقة التظاهر الريسوني ولم ترقه، فقد تعجب آخرين، بل الإشكالية في جوهر المظاهرة الذي هو نهي عن المنكر، واحتجاج على الانحراف والاستبداد والطغيان، وتصدٍّ للقرارات الجائرة التي تهلك الحرث والنسل، الشيء الذي يمثل جوهر الدين وصلبَه، وركيزته وأسمى مراميه وغاياته، ما تركه قوم إلا أذلهم الله وأخزاهم، وذهب بهم وجاء بآخرين يحبهم ويحبونه، فما الذي جعل عالمنا المقاصدي لا ينحاز لجوهر الفعل ولا يسانده ولا يدعمه، بل يكتفي فقط باستنكار شكله واستهجان ظاهره؟

إن خطورة الموضوع تكمن في كون كثير من الناس سيعتقدون أن ما صاغه الريسوني حول الحادثة هو رأي الدين العظيم، أو هو قصد الشارع الحكيم، ولن يخطر ببالهم أنه مجرد رأي واحدٍ من الناس، مادامه غير مرتبط بأدلة شرعية من الكتاب والسنة، أو نصوص تفصيلية تحقق مصالح مُرسلة، أو تدرأ مفاسد معلنة، بل بالعكس تماما، فحتى لو افترضنا جدلا، أن وجود الحمير في مظاهرة يسيء للذوق الإنساني بلا جدال، وهو ما لا يثبت بدليل أن الله تعالى ذكرها في سورة النحل على أنها للركوب وللزينة، فتحقيق هذه المصلحة التحسينية يعارض تحقيق مصلحة ضرورية، قائمة البنيان، وثابتة الأركان، متمثلة في نشر العدل وإقامته، ومناهضة الظلم ومقارعته.

أتساءل بيني وبين نفسي، أي المشهدين أقرب للتصديق على أنه انحطاط سياسي: مظاهرة تتقدمها مجموعة حمير مرتدية ألبسة، فاخرة تناهض الظلم والفقر والغلاء، أم مغنية حليقة الشعر، بملابس داخلية، تعتلي منصة عاتية، لتغني وترقص مقابل ملايين الدراهم، في ظل حكومة يترأسها حزب إسلامي؟

أليس من الانحطاط السياسي أن تُغلق دُور القرآن، وقد تربع الإسلاميون على عرش الحكومة ببركة هذا القرآن؟ أليس من تدني المستوى الأخلاقي أن تزيد الحكومة في الأسعار مرات متتالية في فترة وجيزة، وتتعامل مع الشعب وكأنه قطيع من الحمير، حينما تصف فعلتها هذه بالشجاعة؟ أليس من الهزل السياسي أن يرفع بنكيران شعار المحاسبة في حملاته الانتخابية، وحين يتقلد مفاتيح الحكم يرفع شعار “عفا الله عما سلف”؟

أليس من الاحتيال الفكري، والطغيان السياسي، أن تقترح إعلامية على السيد بنكيران في قناة مغربية، تخفيض أجور البرلمانيين والوزراء لسد عجز الميزانية، عوض الزيادة في ثمن المحروقات، فيقترح عليها بدل ذلك، التراجع عن 600 درهم التي أضيفت لأجور الموظفين الكادحين؟ أليس من المكر والطغيان والتنكر لمبادئ الإسلام، أن يُحَول السيد بنكيران السجال السياسي، إلى معركة طاحنة بين البسطاء والوزراء، ثم يميل إلى كفة السادة والأكابر، بدون أن يرف له جفن، أو يتمعَّر له خد؟

سألني أحدهم: لماذا خلق الله تعالى الفقراء؟ أجبت: ليسد بهم السيد بنكيران عجز ميزانيته.. هذا هو أوج الانحطاط السياسي الذي سوف يستحيي المؤرخون من ذكره وتدوينه، وصدق من قال: حبك الشيء يُعْمي ويُصِم.

وأما إذا كانت المعارضة السياسية ضعيفة في بلدنا الحبيب، مغلوبة على أمرها، لا تملك حيلة، ولا تستطيع سبيلا، فالأولى بعلماء المقاصد، والعارفين بروح الشريعة وجوهرها، أن يتجندوا للأخذ بيدها، نصرة للمظلوم، وضربا على يد الظالم، لا أن يُسَخِّروا سمعتهم، وشهرتهم، وعلمهم، ودينهم، ورصيدهم الدعوي، من أجل تسفيهها، وتحقيرها، والنيل منها.

حينما يتحول عالم من علماء الأمة، إلى فقيه حزب من الأحزاب، يسفه الحكومة متى كان “حزبه” يقود المعارضة، ويسفه المعارضة متى ترأس “حزبه” الحكومة، وحينما يتحول هذا المقاصدي الكبير، إلى مجرد كاتب يكتب في جزئيات سياسية لا علم له بجل أسرارها، من الطبيعي أن يتحول النقاش المجتمعي إلى قضايا هامشية، ومواضيع ثانوية، ونكت مدوية، وطرائف مبكية، يحتل فيها حديث الحمار نصيب الأسد..

[email protected]

‫تعليقات الزوار

8
  • مالك
    الأحد 29 شتنبر 2013 - 00:19

    الشيخ الريسوني لا أحد يشك في علمه وورعه، لكننا نرأب به أن يتكلم في مواضيع هامشية، فهو أعلى من ذلك وأجل، خصوصا وأنه تحدث في موضوع الحمير
    قال الإمام مالك رحمه الله: كل يُؤخذ من كلامه ويُرد، إلا صاحب هذا القبر، سيطلع علينا عباد الأشخاص وليسوا عباد الله تعالى ليسفهوا الكاتب المشكور على إبداعاته.
    شكرا هسبرس

  • citoyen MAROCAIN
    الأحد 29 شتنبر 2013 - 01:00

    j.ai cru que tu es un homme intelectuel tu peux distinguer entre ceux qui veulent le bien pour leur pays qui est le MAROC et ceux qui ont profiter des richesses du MAROC pour leurs interets depuis plus de 60 ans.C bien dommage que nous reflichissons de cette manière et tu peux en etre tres sur que tu as tort quand tu saura la veritè et j ai bien peur que ca sera trop tard.

  • ميغيس شريف
    الأحد 29 شتنبر 2013 - 02:44

    يكتب الاستاذ نور الدين زاوش عن هذه الجملة "من استُغْضِب ولم يغضب فهو حمار"، أنها تناقض الكتاب والسنة اللذان مافتئا يدعوان إلى الحِلْم والتُّؤدة ولجم النفس عند الغضب.. وهو يخطئ على طول الخط فقائلها هو الامام الشافعي رخمه الله، الذي يرى أن من يتجاوز الحدود يجب لجمُهُ… وهو الذي يرى أن الإمام يجب أن يكون مرفوقا بسفيه يُسافه عنه، أي يدافع عنه….

  • احمد من اسا زاك
    الأحد 29 شتنبر 2013 - 14:27

    لا شك ان الريسوني الفيزاوي الزمومي و غيرهم هم مجرد كراكيز في يد المخزن الذي يسيطر كما اراد على عقول العلماء و الجهلاء و ما الرسوني الا جاهلا بحقيقة الحق في هذا البلد واش حتى دبا تحلوا الفم فين كان نهار القضية ديال اغتصاب 11 طفل يمكن كان في رحة استجمام نهار ضربوا المعطلين نهار جيسي طالعة تغني عريانة اخوتي واش هذ المغاربة جارب بوهم بونسيان الرسوني تابع لبنكيران ولن يخالفه ولا تنتضروا منه الا الاسوء

  • essence
    الأحد 29 شتنبر 2013 - 16:39

    تحليلك موضوعي ودقيق، فالعالم المقاصدي الريسوني على راسنا وعينينا، لكن حينما يصبح فقيها للسياسي يبرر زللاته و اخطائه، و يبتعد عن حياديته فهنا الطامة الكبرى، لا يجب ان يحيد عنها حتى لا تتأثر صورته العلمية، و إلا فليعلنها صراحة و ليذب في العدالة التنمية ولما لا يترشح باسمها انذاك يحق له التبرير و انتقاد المخالف

  • احمد السوسي
    الإثنين 30 شتنبر 2013 - 02:25

    عجبا لهم .. هدموا أصولا وقواعد شرعية محكمة تنازلوا عنها باسم مصلحة الدعوة والفقه المقاصدي … لإرضاء الدولة العميقة والإلتقاء معها في المنتصف في أخس صفقة سياسية عرفها تاريخ المغرب الحديث .. وبالمقابل تجدهم تنتفخ أوداجهم وتحمر أنوفهم غضبا وانتصارا للنفس الأمارة بالسوء من أجل مسائل شخصية – فرعية تافهة – لا ولن تبلغ في مخالفتها عشر معشار ما فعله الميكيافيليون – تجار السياسة بالدين – من جرائم في حق الشريعة ومقاصدها الحقيقية – لامقاصد الحزب الجاهلية – … حالهم كحال هذا الرجل الذي ذكر قصته الإمام ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار : أن رجلا جاء الى الإمام ابن الجوزي فقال : يا إمام لقد زنيت بإمرأة وحملت مني بالحرام ! فقال: ويحك لماذا لم تعزل عنها حتى ﻻ‌تبوء بإثم الولد فوق إثم الزنا ؟ فقال يا امام : بلغني أن العزل مكروه !!!! فقال: بلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك ان الزنا حرام !!!!

  • mohammed
    الثلاثاء 1 أكتوبر 2013 - 09:51

    الشيخ الريسوني عالم كبير وعلمه يخول له الحق في الغوص في السياسية
    واش بغيتو تردون دولة علمانية

  • م. سقراط
    الخميس 3 أكتوبر 2013 - 14:40

    كلام معقول جدا:
    ضرب الله مثلا بالحمار في عدة مناسبات، وهذا دليل على أنه يصلح لأداء وظيفة حجاجية، سواء ذكرت لفظا أو حضرت لحما ودما. هذا ما تقوله نظرية الحجاج.
    والحمار في البيئة المغربية مواطن صالح، ينقصه بنو البشر لأنه يحاول أحيانا أن يدافع عن نفسه فيقولون عنيد، ويرفض الايتجابة لنزواتهم فيتظاهر بعدم الفهم فيتهمونه بالغباء.
    الحمار لا يكذب والإنسان كذاب كبير…
    المقال منصف، بل أعطى الريسوني أكثر مما يستحق، وصريح لأنه كشف عن تهافته سياسيا.

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية