تحولات الحجر والبشر في المدينة

تحولات الحجر والبشر في المدينة
الجمعة 31 يناير 2014 - 16:33

تتجول الكاميرا فوق نهر التايمز ترصد معالم لندن إلى أن تكتشف جثة وربطة عنق طافية. هكذا قدم ألفريد هتشكوك فضاء أحداث فيلم “فرينزي” دفعة واحدة. ويبدو أن هذا التقديم للمكان في الأفلام هو الذي دفع عباس كياروستامي ليشتكي من كون الناس يتصورون “المخرج كمهدنس معماري”.

بفضل هذا الوعي الهندسي الذي اكتسبتُه من السينما أرصد تنقّلي بين فضاء معماري تقليدي وفضاء حديث مع محاولة لاستخراج المعاني من أشكال الجدران. وذلك بناء على فرضية مفادها أن هندسة الفضاء العمراني تضمر هندسة الفضاء السوسيولوجي. فالطبقات الاجتماعية تشكل فضاءات عيشها تبعا لمواردها ومنظومتها القيمية. فكيف يعكس تحول العمارة تحولات المنظومة القيمية للسكان الذين ينتقلون من مساكن تقليدية إلى مساكن عصرية؟

يجري الانتقال من القرى للمدن أو داخل المدن التي يتغير شكلها لتصير بناياتها عمودية بعد أن كانت أفقية. عادة فإن المغربي لا يرتاح لوجود جار فوقه وتحته وقبالته.

لكن الضرورة الاقتصادية تخنق البشر. في المنازل الأفقية فائض مكان. يوجد دهليز يشبه نفقا يفصل قلب المنزل عن العالم الخارجي. الدهليز فاصل يحمي وفي نفس الوقت يقود للبهو. البهو مكان مشترك واسع تحيط به غرف ولكل غرفة مفتاحها. ومن يخرج من الغرفة للبهو يجب أن يرتدي ملابسه كاملة كأنه سيخرج للشارع. الغرفة فضاء خاص بينما البهو فضاء عمومي يحمل الشر الذي يمثله الجنس الآخر أو الزوار الغرباء

لربط جزئي بين الغرف والعالم الخارجي هناك نوافذ صغيرة قريبة من السقف تُصعّب التجسّس على خلوة السكان. من يدخل المنزل ويقف في بهوه يرى السماء، يتواصل مع الله مباشرة، ومن تلك الفتحة يدخل الضوء… لرصد هذا المشهد جعل التشكيليون المغاربة من هذا الفضاء التقليدي موضوعا للوحاتهم. لكن حين نتأمل هذه اللوحات نجد محاكاة حرفية للفضاء، تُصوّر الجدران والملابس التقليدية بشكل سطحي يفتقد الحركية. لا يظهر في اللوحة أي بحث في صلة هندسة الفضاء بهندسة الوعي. وهذا ما يجعل اللوحات مجرد انعكاس ميكانيكي لهندسة البيوت.

في المباني التقليدية جدران كثيرة سميكة، وهي وسيلة للتقسيم. لا تخترقها الأصوات بسهولة ومحصنة مثل القيم التقليدية. هكذا يعكس المعمار المنظومة القيمية لمنشئيه. منظومة واضحة، حادة، تفصل بين ما لا يجوز وهو كثير وما يجوز وهو قليل وله شروط… لذا للمباني زوايا حادة مثل سيارات الستينات. في هذه الفضاءات فصل راسخ بين الجنسين. راسخ في الجدران وفي وعي الفرد. فالصالون فضاء رجالي، وحين يأتي ضيوف يدخلونه حفاة ويخدمهم رب البيت أو ولي عهده حافيا احتراما للفراش. بينما تبقى النساء بعيدات. هكذا تساعد الحواجز على الستر وتقوية قيم الحشمة. فحتى تواصل العيون لا يجوز.

يحصل أن ينتقل الفرد من هذا الفضاء التقليدي إلى فضاء جديد بالهجرة أو بتغيير السكن. فهنا حول الدار البيضاء تنشأ عمارات ضخمة في الضواحي الريفية. حاليا تنمو المدن المغربية عموديا أكثر مما تنمو أفقيا. تبنى العمارات الشعبية في ستة أشهر وينتقل الناس من السكن في منزل ريفي إلى شقق جديدة. لا يوجد فيها دهليز. بل المدخل والصالون فضاء واحد مفتوح…

يجعل تواصل فضاء الشقة أشبه بالنادي يمكن اكتشافه بنظرة واحدة. ذلك أن فلسفة الهندسة المعاصرة تحرص على البانوراما. بعد المدخل هناك صالون مقسوم نصفين بجدار علوه متر تقريبا. حين يكون هناك ضيوف يجلس الرجال في جهة والنساء في جهة ويمكن لهؤلاء رؤية النصف العلوي لأولئك. وهذا ليس فصلا بين الجنسين وليس اختلاطا أيضا.

في الشقق الصغيرة يكون الصالون ضيقا ويزول البهو الذي أضيفت مساحته للغرف. قلّ الفضاء المشترك. غالبا لا توجد غرفة جلوس. يجري الأكل في المطبخ ولا يتوفر وقت كبير لجلوس وتواصل أفراد الأسرة. فلدى كل واحد تلفزة أو شاشة في غرفته. الرائع في الأمر أن للشقق نوافذ كبيرة، لذا فتصوير فيلم في هذه الغرف أسهل خاصة في غرف النوم حيث يعطي الرجال قيمة كبيرة للإضاءة الملونة…

لا يوجد شعور بالضيق، فالفضاء مبهج ويسمح بدخوله دون نزع الحذاء… لكن هناك حواجز وجدران غير مرئية تستمر في العقلية حتى لو أزيحت في المباني. لا توجد فتحة للتواصل مع السماء. لكن يوجد فصل زمني بدل مكاني بين الجنسين. في المناسبات الاجتماعية (زواج أو عقيقة) يُستدعى الرجال للعشاء وفي اليوم الموالي تستدعى النساء للغذاء. الظلام للرجال والنور للنساء.

حاجز آخر بشري: في باب العمارة بواب يحرس مصالح المتزوجين وهو يمنع العزاب من اصطحاب عشيقاتهم داخل العمارة. حاجز آخر خشبي: يملك ساكن الشقة ثقبا في الباب ليعرف من يطرق بابه دون أن يعلن عن وجوده في الداخل… حاجز نفسي: يفضل الجيران عدم التلاقي لذا تباع العمارات التي فيها أقل عدد من الشقق بشكل أسرع وأغلى من غيرها، وذلك ليسكن كل فرد بعيدا عن الآخرين… فلا أحد يهتم بالجار الأول فكيف “بسابع جار”؟

هكذا يحاول من يملك المال النجاة من التحولات، وهي تتقدم رغم أشكال المقاومة. ذلك أن التحول العمراني السريع لا يتبعه تحول اجتماعي مماثل. فقوانين الفضاء القديم أي الريفي تستمر في الذهن كما تستمر في المدينة التي تحمل بصمة ريفية. السبب؟

تتغير هندسة الفضاء بشكل أسرع من تغير هندسة الفرد والمجتمع. فالعمارات تبنى في عدة أشهر، بينما تبنى الذهنيات في فترات أطول، لذا تحتفظ بتقاليدها ودساتيرها وحتى أحقادها مآت السنين.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • AnteYankees
    الجمعة 31 يناير 2014 - 17:29

    يمكن هدم كل ما بناه المهندس بشكل أسرع فالعمارات تبنى في عدة أشهر أو عدة أعوام يمكن تحطمها بفعل إرهابي أو حروب بأفعال مرضى العصاب القبلي. و تتغير هندسة الفضاء و يترك ذهنيات مريضة لفترات أطول. فيأتي من تشم منه رائحة الكره و الأحقاد الدفينة في جوفه ليس لها نهاية و يهدم ما بناه المهندس بأسرع حال.

  • غيور
    الجمعة 31 يناير 2014 - 19:12

    تبنى الذهنيات في فترات اطول. لكن لا بناء قبل كسر وهدم هده البنيات الذهنية التقليدية, التي تحمل بين طياتها منذ عصر الانحطاط ,كل عناصرالتخلف عن الركب الحضاري والحضري الحديث. لا بد من معاول الهدم يحملها مفكرون وفلاسفة و ادباء و نقاد يتحلون بالشجاعة و الجراءة ,كامثال سبينوزا و نيتشه و ديدرو و فلتير وفرويد وماركس … لا بد من زعزعة المفاهيم التي تقوم عليها هده الذهنيات عندئذ يمكن ان نبني فردا ومجتمعا قادرا على مواصلة اللحاق.

  • zorro
    الجمعة 31 يناير 2014 - 20:11

    اسقاطات واقعية وملكة أدبية قل نظيرها في الكتاب وموهبة الملاحظة متميزة تتحرك مع تحرك اسرار العيون تصول وتجول على المجتمع ترصد تحركاته وتطوره تسافر الافكار من الماضي الى حاضرنا لترصد التغير والتطور الطبيعي للإنسان وبيئته المتغيرة التي لا تتوقف عن التجديد الكيفية والكمية الطبقة العليا تزداد اغراق في اسرارها وشفرة حياتها تزداد تعقيد والطبقة السفلى تتمسك بشعوبيتها وأصالتها و قد تنتقل الحياة من الاسفل الى الاعلى لكن ستبقى تحتفظ الطبقة الشعبية بثقافتها رغم تغير بيئتها فعوامل النحت والتغير صدأة وتوقف التاريخ على حدودها واعلن تطور استسلامه و انهزامه على يد العادات والتقاليد المتوارثة فتحول الحجر أهون من تحول الانسان.

  • mohamed bm
    السبت 1 فبراير 2014 - 01:29

    في نضري المتواضع أحسن نمودج مجتمع عرفته الإنسانية على الإطلاق هو النمودج بربر بو سوس،المرابطين و الموحدين و المرينيين و الوطاسي، نمودج من صعب تطبيقه بل يستحيل تطبيقه لكن بربر بو سوس إستطاعو تطبيقه لقرون بنجاح تام، فهو الإقتراب من الخط المستقيم بحيت جر لفوق نحو الوسط و جر لتحت نحو الوسط و تركير على آخر حرف أي الياء كصمام أمان
    لنمودج، فهو يشبه نمودج الهرم الفرعوني في كونه يعتمد على رأي و ليس سيف ،و يستعمل الياء صمام أمان، ليست له رأية رأس الهرم البعدية لكن عنده قابلية لتحرك بسرعة في مواجهة أي خطر و عنده شيء لا يتوفر عليه أي شكل نضام آخر حب الجميع لنضام عكس الهرمي ليميل إلى كره طبقات لتحت إليه، و هو نضام اللدي يضمن تعايش للجميع في إيطار سلمي لأنه يدمج أكبر عدد ممكن من أسماء المجتمع،

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية