في ذكرى 20 فبراير ومآلات الربيع العربي: قراءة تفكيكية نقدية

في ذكرى 20 فبراير ومآلات الربيع العربي: قراءة تفكيكية نقدية
الخميس 20 فبراير 2014 - 17:26

ونحن تحل علينا ذكرى 20 فبراير كنسخة مغربية لما أطلق عليه “الربيع العربي” أو ما شئت من مسميات، وما نلاحظه ونحلله من مآلات هذا الربيع في مواطنه الأصلية، نجد تناسلا في القراءات لهذه التجربة، تمجيدا أو ذما أو استحضارا أو تشخيصا … لكن كلها تنطلق من توقعات وإسقاطات مسبقة حول هذه التجربة، كما يقول الفيلسوف الألماني جادامر: “بأننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة.

أي بإسقاط مسبق، غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا”. ولكوني كنت أحد الشباب الذين خاضوا غمار هذه التجربة وتفاعلوا مع مطالبها وأحلامها وآمالها، أجد نفسي في ضوء ما تمثل أمامي من معطيات ومعارف جديدة، أقوم بقراءة “تفكيكية نقدية” ليس لهذه التجربة بحد ذاتها، بل لمعرفتي المؤسسة لتصور هذه التجربة وغيرها من التجارب التي خضتها، لأن القناعة التي توصلت إليها كما يقول ميشيل فوكو: “ما من معرفة إلا وتقوم على الظلم والخطأ”، فمعرفتنا بالأشياء دائما نسبية، وفي كل لحظة نصوغ فيها معرفة ما أي فهما ما لموضوع معين لا بد أن يكون فيها تحيز ما، وأستحضر هنا مقولة غادامر: “كل فهم لا بد له من أن يشتمل على بعض التحيز أي المعنى المسبق”، وبغية تلافي أي تحيز أو تموقع – ولا يمكن على الإطلاق القيام بذلك – يجب إعادة تجديد الرؤية وبناء القراءة في كل مرة، من خلال تغيير طريقة فهمنا وإدراكنا للأشياء، كما يقول أرسطو: “ليس الباطل والحق في الأشياء نفسها … وإنما في الفهم”، لذلك يجب وجوبا على كل إنسان إعادة بناء فهمه في لحظة، ولا يقف عند فهم معين ليقول بأنه توصل إلى الحقيقة، ف”ليست هناك حقائق. هناك فقط .. تأويلات” حسب نيشته، وهذا لا يعني تجاوز المعرفة السابقة مطلقا فكل معرفة لاحقة تبنى على سابقتها وتستخدم مواردها لكن في ضوء الحاجات الراهنة وأسئلتها المقلقة كما وصفها المفكر اليوناني كورنيليوس كاستور ياديس (1922-1997)، وقد رأيت من اللازم طرح هذه المقدمة النظرية تأسيسا لقراءة جديدة ونوعية لحركة 20 فبراير ومآلات (الربيع العربي).

حلم الإنسان منذ القدم بعالم يسوده العدل والمساواة وتتأصل فيه قيم الخير والحرية والكرامة وتعطى فيه الحقوق لأصحابها وتنقشع عنه سحب الظلم وتزول منه بعض من أشكال الظلم والاستغلال، هو حلم مشروع وتجربة يتوق إليها كل كائن بشري ومثال تطمح إليه كل المجتمعات، ولكنه قد يتحول إلى نوع من الخيال العلمي و يصطدم بواقع مرير وبوضع تاريخي صعب يكشف أن كل مشروع تغييري هو يوتوبيا وكل جهد ثوري ينتهي إلى التعثر والتراجع أمام ضربات القدر ومكر التاريخ وصلابة التقاليد التي تتحكم في المجتمع. ولعل خير مثال هو انهيار إيديولوجيات الجنات الموعودة ومشاريع الحقبة السعيدة والنصر المبين وفشل تجارب التحرر من ربقة الهيمنة والاستبداد والاستغلال العولمي.

عبر مسيرة وعيي ووجودي كان هناك سؤال واحد يؤرقني ويشغلني، ألا يمكن لجميع الناس على وجه هذه الأرض أن يعيشوا بسلام وطمأنينة بدون أن يظلم أحدهم غيره أو يستغله، بدون أن يكون هناك أسياد وعبيد، مستغِلين ومستغَلين، ظالمين ومظلومين، جلادين وضحايا …؟ أومن بقدر الله فينا بأن نكون مختلفين في كل شيء، لكن ألا يمكننا تدبير هذا الاختلاف بحكمة وتبصر؟ كما أومن أن الإنسان فيه نوازع العدوان والعنف والوحشية، لكن ألا يمكن أن يحرر نفسه من هذه النوازع والشهوات ويترفع عن حيوانيته ويصير إنسانا يستحق معنى الإنسان فعلا؟ كل ما يعزيني أن الله أعلم منا بأنفسنا، إذ أن الملائكة التي تنبأت بسلوكنا إذ قالت: {أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء} فأجابها العليم الحكيم: {إني أعلم ما لا تعلمون}، فما يمنحنا معنى لهذه الحياة هو قدرتنا وإمكانيتنا أن نترفع عن شهوات النفس الأمارة بالسوء الظالمة لنفسها وغيرها، ونترقى في مدارج الإحسان والأخلاق والفضائل حتى نصير فعلا من {أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة}، ودائما كان سؤال خيار الناس عبر التاريخ لبعضهم {أليس منكم رجل رشيد}.

في هذه البقعة من العالم الطافحة بالآلام والآمال، تحركت أمواج من البشر على حين غفلة وبدون سابق إنذار لتؤكد حقها في الوجود ولتطلب معنى لحياتها، مع هذا التحرك نمت في مشاعرنا وفي أفكارنا أحلام وطموحات، لكن بعد برهة من الزمن أدركنا أننا لا نستحق شيئا من ذلك نحن بأيدينا – شعوبا ونخبا – ندمر ذاتنا بذاتنا ونحطم أحلامنا بأنفسنا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}. لهذا أدركت – ربما كما أدرك غيري – أن مجرد الصراخ والاحتجاج والمطالبة وإسقاط الحكومات والأنظمة، لا يصنع التغيير المأمول ولا الإصلاح المنشود، بل قد يدخلنا في هوة سحيقة لا قرار لها إذا أسيئ التعامل مع الواقع الجديد، لأن منطلقاتنا السابقة بنيت على أوهام وأخطاء، ولم نتداركها في حينها.

قد يقول قائل منا: ذلك هو قانون الثورات والتغييرات وتلك هي ضريبته، لم يصل شعب من الشعوب المتقدمة إلى ما حققه إلا بعد تكبد الجراح والمآسي، فهي تجربة تتعلم منها الشعوب ثم تمضي لبناء ذاتها وصناعة مصيرها، ونحن كنا ندرك كل تلك العواقب والمخاطر والصعوبات، إنما نعول على الزمن للمداواة والوصول إلى الغايات، فالبعض واثق في حكمة الشعوب، والبعض راهن إرادته لوعي النخب، والبعض واثق في قدرة الله ومتيقن من أنه سينصره لأنه على حق والآخرون على باطل.

لكنني أجيب مثل هؤلاء بالقول؛ لم تمر كل الشعوب بنفس لحظات المأساة حتى صنعت التقدم، بل هناك شعوب في الفترة المعاصرة حققت انتقالا سلسا (مثال اسبانيا والبرتغال وتركيا وبعض دول جنوب شرق آسيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية)، ثم من جهة ألا يكفي ما تكبدنا من مآسي وآلام عبر تاريخنا – منذ نهاية الخلافة الراشدة ونحن نتداول بين تجارب الإصلاح والتغيير والثورة – وقد أهدرنا الكثير من الدماء والطاقات والجهود وما زلنا، ألا نتعلم من كل ذلك التاريخ. ثم إن هذا مصير أناس فيهم الأبرياء، كيف ندخل بهم التجارب التي قد تنجح وقد تفشل، ألا نخاف من سؤال الله إيانا لماذا ضيعنا هؤلاء الأبرياء؟ ثم إذا بدأنا أي تجربة هل نحن أوثقنا نظمها وقادرون على التحكم في متغيراتها ومآلاتها ألا تأخذنا الأحداث والتدخلات والتفاعلات إلى ما لم نكن نحسب له حسابا؟

لكن البعض قد يجيب أن الأمر امتحان واختبار من الله، علينا العمل والنتيجة بيد الله، فأقول ذلك قول حق فعلا، لكن لا نقف فقط على الجزء وننسى الكل، لقد نبهنا الله إلى كل خطأ ومصيبة بما كسبت أيدينا وحملنا مسؤولية أفعالنا، وأرشدنا إلى ضرورة التبصر والحكمة وفهم الواقع جيدا، والأخذ بالأسباب والتخطيط، وألا تلهينا التفاصيل ولا الحماس العابر المتأجج عن الاستبصار والفهم الرشيد بتوظيف أدوات الحكمة العقلية على نور من الوحي الإلهي المنزل.

ولهذا قد تفكرت ونظرت فيما مضى من أمور وفيما حولنا، خصوصا تجربة حركة 20 فبراير ومآلات (الربيع العربي)، وخلصت إلى جملة آراء وتأويلات أبثها لعموم الناس وخاصة لمن يؤرقهم هم التغيير والإصلاح، ولا أدعي أنها الصواب والحق، فكل إنسان يملك الحق في رؤية الأشياء بما تناهى إليه من علم وقدرات، فالمرء لا يسعه أن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته، ولذلك فهي مجرد قراءة من قراءات أخرى، لكنها قراءة مسترشدة بآليات وضوابط المنهج العلمي كما تواضعت عليه علوم الإنسان بمختلف تخصصاتها، ونابعة من هم داخلي يسعى ما أمكن إلى خير الناس وصلاحهم. ورغم ذلك أومن بأنه من حق أي إنسان تغيير وتجديد رؤيته وفق ما يستجد له من معارف وأدوات التحليل، التي تمكنه من إعادة التأويل، وما أطرحه مجرد قواعد منهجية للتعامل مع الذات والواقع.

أولا: نسبية الحقيقة والصواب

إن من أخطر وأعقد المشكلات التي تواجه العقل في مجتمعاتنا، ادعاء كل فرد ومجموعة وتيار أن خطابه الحق ونظريته البرهان الصادق وتحليله الناجع ووصفته الحل والدواء، سواء استند في ذلك إلى نسبة دينية أو مرجعية حداثية. فادعاء امتلاك الحقيقة – وقد لا يكون ذلك بشكل صريح أو مقصود، بل من خلال آليات لا شعورية، يتكرس لدى البعض وهم امتلاك الحقيقة، و لا يفصح هذا الوهم عن نفسه بل يتبدى من خلال أشكال الفعل ورود الفعل، وقليل من ينتبه إلى السيطرة اللاواعية لهذا الوهم على تفكيره وسلوكه – يشل التفكير والإبداع، بل أخطر من ذلك يدفع إلى التشدد والتطرف والتقوقع حول الذات، ويهدد التعايش الجماعي. إن هذه “الانحصارية الفكرية” التي ترى أن الحق والسعادة والهداية تكمن في اتباع منهجها المرسوم، وأن مخالفته بل مجرد نقده وتحليله خروج على الصراط المستقيم، لهي من أعوض الأمراض التي ابتلي بها عقلنا الجمعي.

إنني لا أدخل في عبثية مطلقة كما حصل لبعض الفلاسفة، حيث لا ناظم ولا اتجاه ولا مقصد، إنني أومن بأن الله تعالى هو الحق المطلق وكلامه حق والمرجع إليه حق، لكن هل نمتلك نحن كذوات إنسانية قاصرة هذا الحق؟ إننا إذا ادعينا امتلاك الحقيقة بوعي أو لاوعي منا نكون قد تجرأنا على مقام الألوهية. فالحقيقة كما يقول هايدجر: “هذه الكلمة النبيلة، لكن المنهكة من كثرة الاستعمال لدرجة أنها أصبحت فارغة من المعنى”، لا يمتلك أحد ادعاء امتلاكها، فكل الأفكار دينية أم فلسفية أم علمية تصبو إليها، لكن لا تمتلكها، لذلك تعدد طرق الفهم وآليات التأويل وتناقضت.

وحتى نصوص الوحي المقدس – أقصد كل رسالات الوحي وإن حرفت بعد ذلك – فهي الحقيقة في ذاتها، لكنها حمالة أوجه تقبل شتى التفاسير، ففيها الواضح الجلي لكل فهم، وأكثر ما فيها خاضع لتفسيرات الألسن وتأويلات الأفهام، لذلك لا بد من قبول تعدد مناهج الفهم والتأويل، والاستعداد لقبول الآراء المخالفة وسماعها ومناقشتها وتفحصها بهدوء ودون تعصب لمذهب أو منهج، وقبول تنوع مناهج الفهم وأنماط الحياة، ولا يجب الحجر على الناس ليتموضعوا في القوالب التي صنعناها ويسلكوا المسارات التي رسمناها، وهذا لا ينطبق فقط على الدين بل على مختلف أنشطة الفكر الإنساني.

ثانيا: أولوية صناعة الإنسان

تختلف التحليلات في تشخيص طبيعة الأزمة ووضع الحلول لها بحسب الحقول المعرفية والآراء المذهبية والسياسية والهياكل التنظيمية. فمن قائل إنها بسبب استبداد الحكام ومن قائل إنها بسبب التعصب الديني والانغلاق على الذات الحضارية، ومن قال أنها بسبب التغرب الحضاري والبعد عن الدين الصحيح. لكن كل هذه التوصيفات لا ترى في الأزمة إلا قشورها، ولا تنفذ إلى عمقها وكيانها، فحتى لو غيرنا الحكام وأقصينا الدين عن حياتنا أو ضيقنا عليه أو استعدنا الدين بفهمنا الحالي له، لن تنحل الأزمة، لأنها في نهاية المطاف أزمة إنسان، فمسلم اليوم حائر وحزين بتعبير حسين أحمد أمين، والإنسان فاقد للجدوى والمصداقية، إنسان مقهور ومهدور بعبارة مصطفى حجازي، فقد السيطرة على مصيره وأصبح عديم القيمة والحصانة، لا يعي إنسانيته، مستبعد ومهمل، أصبح أداة في خدمة قوى خارج كيانه توجهه لمصلحتها، وبتلخيص فإنسان اليوم يعيش كارثة وجودية. لذلك ينبغي أولا “إنقاذ الإنسان، وإعادة اكتشاف الإنسان داخل الإنسان”، بعبارة ميشيل فوكو، قبل كل شيء.

ثالثا: الخلاص من الارتهان للفعل السياسي وتضخيمه

لقد أشار الراحل فريد الأنصاري إلى أن من أخطر المشكلات التي تواجه الصحوة التجديدية للدين ظاهرة “التضخم السياسي”، حيث اختصرت كل الأزمات والحلول في النطاق السياسي فقط، وغدى تحصيل السلطة السياسية المفتاح السحري لأزماتنا، وهذا المنزلق سقطت فيه بالخصوص حركات التجديد الديني، فتضخم الشأن السياسي لديها أفقد الدعوة صورتها الكلية، وجزأها إلى إسلام سياسي متصارع على السلطة، بل إنه أساء للدعوة من حيث لا يدري، لأن الفشل في تدبير العمل العام وإدارة الشأن السياسي لنقص الخبرة والكفاءة، شوش قيم الدعوة في أذهان الناس بسبب الربط المسبق بين الهوية الدينية والفعل السياسي اليومي التجريبي. لذلك أرى في نظري أن أي صراع للاستحواذ على أدوات السلطة في المجتمع، ظنا منا أنها ستخدم مشروع بناء الإنسان وتحريره، مجرد وهم وعبث وتضييع للجهود والطاقات، وذلك لعدة اعتبارات:

ـــ أن النخبة الحالية ستعيد إنتاج نفس النموذج السابق، ما دامت تؤمن بحقانية رؤيتها وصوابية منهجها، فهي ستفرضه على الناس بالرضى أو الإكراه المادي أو المعنوي، وتجارب الإصلاح والتغيير عبر التاريخ وفي الحاضر خير دليل على ذلك. لكن هناك من سيقول بأننا سنفتح أمام الناس إمكانية الاختيار والتنافس على طرح رؤاهم، لكن هل الناس في وضعها الراهن مستعدة لحسن الاختيار حتى لو فتح لها المجال؟ ألا يقود فتح المجال أمام طرح كل الاختيارات والرؤى – في ظل اعتقاد كل ذي رؤية بحقانيتها – إلى الفوضى والمواجهة؟ هل الناس في ظل القهر والهدر الذين عاشوا فيه قرونا قادرون على الاختيار الرشيد والتدبير الحكيم للاختلافات والتنافضات؟

إنه من أولى الأولويات قبل فتح مجال التنافس الحر بين الآراء وهدم السلط الموجودة، أن تنصب جهودنا على استعادة إنسانية الإنسان وقيمته وطاقاته وبناء فكره ووعيه ومواطنيته وأخلاقه.

ــــ إن الصراع على انتزاع السلطة ممن هم في أيديهم مقاليدها اليوم، له محاذير ومخاطر يجب إدراكها وحسابها جيدا، لأن النخبة الحاكمة لها أنصار وزبائن في كل مناحي المجتمع، ولن يسلموا بسهولة بامتيازاتهم ومكاسبهم، بل قد يقود الصراع السياسي إلى بعث كل أشكال النزاع الأخرى في المجتمع دينية أم عرقية أم طائفية أم طبقية …، وسيدخل المجتمع في طريق الانتحار الذاتي، وسيؤدي إلى استثارة نزاعات وعداوات لن تشفى عبر التاريخ. لذلك على كل مشروع تغييري أن يخاطب تلك النخبة بالقول اللين والخطاب الحسن، ويطمئنها على مصيرها ومكتسباتها، ولا يستدعي فيها نوازع الحقد والشر والتسلط، ويدعوها إلى استغلال سلطتها ومواردها لخدمة المجتمع وضمان حقوق الناس – وهذا كان دأب كثير من العلماء والمتصوفة عبر التاريخ الإسلامي-، ولا يعني هذا أن يبرر الانتهاكات والأخطاء أو أن ينافق ويداهن، بل يعالج الأخطاء بحكمة لا تؤدي إلى ما هو أسوأ منها.

ــــ ثم إن المجتمعات الحديثة – بفضل التطور العلمي والتقني والعولمة – قلصت مساحة تدخل الفاعل السياسي في حياة الناس، ومنحت آفاق واسعة للتعبير والفعل من خلال المجتمع المدني، من أجل خلق ظروف جديدة لتجديد المجتمعات من خلال التربية والتنمية والتحرر والديمقراطية، بل منحت الإمكانية لتدريب الناس وتأهيلهم على إحسان الفعل والاختيار، واستثمار الجهود والطاقات، وإعطاء النماذج والقدوات في الفعل الرشيد، لكن في مجتمعاتنا أصبح المجتمع المدني رهينة ثلة من الفاعلين يستغلونه لخدمة مآربهم، أو جعلوه مطية للوصول إلى دوائر السلطة أو التصارع عليها، أو دخله أصحاب النفوذ والمال لتوجيهه لأهدافهم الخاصة. وإن قراءة متواضعة في مسار التغيير في البلدان المتقدمة علينا اليوم – خاصة أوربا – نجد أنه ابتدئ بإصلاح الفكر والنفس – والله تعالى يقول” {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}-، من خلال حركات الإصلاح الديني والفكري، ثم انتهى بحركة إصلاح اجتماعي وسياسي كانت خاتمة الحراك الحضاري الذي منح لهذه البلدان ميلادا جديدا وعصرا مغايرا في تجلياته وأنماط حياته.

فبدل حرق المراحل والقفز على سنن التغيير، لا بد من مراعاة سنة التدرج في التغيير، يبدأ فيها بوعي الناس من خلال بناء قدراتهم (النفسية والروحية والمعرفية والتواصلية والاجتماعية والاقتصادية) بما يكفل لهم فرص البقاء في عالم القوة الذي نعيش فيه، ثم تجميع الطاقات الحية والمبذرة في شبكات وأطر فاعلة وتنميتها واستخدامها بإيجابية، وصولا إلى تغيير مفاهيم الناس ودلالاتهم عن ذواتهم واسترداد زمام مصيرهم وإرادتهم بما يساعد على قلب المعادلة وإعادة تصحيح المسار من العطالة والتعثر إلى النماء والبناء.

رابعا: التحرر من تضخم الذات المؤدلجة

من العقبات التي تواجه مسيرة التغيير في مجتمعنا تضخم الذوات، أو ما سماه أمين معلوف الهويات القاتلة، وهي هويات تتمحور حول ذات فردية ملهمة أو حزبية أو إثنية أو إيديولوجية أو مذهبية أو تنظيمية…، تدعي لنفسها الاكتمال والاقتدار، ولا تقبل النقد والمراجعة، وتجعل من يدور في فلكها لا يرى إلا رأيها ولا يهتدي بغير سبيلها، لأن ما هي عليه الحق الموجب لتمام اليقين، وما الخطأ والزلل إلا بسبب غياب حسن التنفيذ والفعل، فالنظرية في أصلها صواب مطلق، إنما التحرك بها في الواقع من يشوبه الخلل، لذلك تنصب جهود التقويم والإصلاح على الوسائل والآليات والبرامج التنفيذية والخطط العملية، ولا تنفذ إلى صلب النظرية الاجتهادية لتضعها على مشرحة التحليل العلمي، بل لا تقبل من أي كان ذلك. لأن أي عقلية تنظيمية مؤدلجة – كيفما كانت مرجعيتها الفكرانية – تعمل على استدامة الولاء وفرض الطاعة، وتضييق مساحات النقد والمراجعة، وإيجاد المبررات والمخارج لكل أخطائها.

هذا ما يدخل هذا النوع من العقليات في دائرة الانغلاق والجمود والانعزال عن التفاعل الإيجابي والمؤثر مع بيئتها؛ ويدفع بها إما إلى الرضوخ لعلاقات القوة السائدة في المجتمع بعد الوعد والوعيد، فتخسر مصداقيتها لدى الناس وتتوسل بكل آليات التبرير والواقعية لشرعنة هذا التحول. أو تنعزل في أبراجها العاجية مع انتظاراتها وأحلامها الممتدة، وتعجز عن مسايرة التحولات والتغيرات في الواقع. والبعض قد يسلك طريق العنف من أجل فرض تصوراته ومثله على الواقع المعاكس له.

ولهذا نحتاج دوما إلى التوازن في الفكر والممارسة، وهو أمر صعب لا يتحقق إلا عبر النقد والمراجعة المستمرين، وعدم قبول النظريات الجاهزة التي فصلت على مقاسات محددة ولظروف مغايرة، فمهما أوتي شخص من جماع الفكر ونقاوة الروح وخلوص النية، لن يستطيع بمفرده بناء الصورة الكلية لمشهد ديني أو سياسي أو اقتصادي أو غير ذلك. فتشكيل هذه الصورة الكلية يعتمد أولا على عالم الأفكار، وليس على التأثر بالأحداث المتغيرة والسريعة، وعالم الأفكار يحتاج إلى قدرات متنوعة تمكنه من الفهم والاستيعاب: التجريد، رؤية الغابة وليس الاكتفاء بالشجرة فقط، والمرونة الذهنية التي تجعل الإنسان قادرا على تقليب الفكرة في عقله ولو كان مختلفا معها. ثم إن الصورة الكلية تبنى من خلال علوم مختلفة تتداخل وتتكامل، وتجعل الإنسان يلغي بعض آرائه التي يميل إليها نفسيا لتشكيل صورة كلية متسقة. وهذا ينطبق على كل المجالات، خاصة المجال الديني، حيث يلاحظ على كثير من علماء المسلمين ودعاتهم ومفكريهم عبر التاريخ وحاضرا، انطلاقهم من النصوص المقدسة لبناء مقولات فكرية اجتهادية، يكون لها دورها وأهميتها في زمانها ومكانها، لكنها تصار بعد ذلك إلى تقديس، فتصبح أوثانا تعبد من دون الله، حلت نصوصها محل القرآن، وحلت شروحها محل السنة.

هذه بعض الرؤى التي تبينت لي بعد إعمال الفكر ومحاورة الذات في ترصد حركة التاريخ واستبصار تفاعلات الحاضر وتشابكات الواقع، أروم من خلالها إرساء مقاربة تفكيكية نقدية في قراءة هذه التجربة (20 فبراير ومآلات الربيع العربي) يمكن تطبيقها على مختلف التجارب والأحداث المتلاحقة أمام عقولنا، مقاربة تقوم أولا على نقد الذات أولا قبل لوم الآخرين والانجرار وراء نظرية المؤامرة والكيد المتربص بنا، ثم تحمل المسؤولية الأخلاقية في تجنيب الناس كل أشكال الأذى والمعاناة والألم بسبب قصور خطابنا وفهمنا عن استيعاب حركية التاريخ والواقع، وهذه المقاربة تنبني على محورين أساسيين أستعيرهما من الحقل الصوفي:

ــ التخلي عن كل العوالق والعوائق والأستار والزخارف والمسلمات والأفكار البديهية والتأويلات الحقانية التي تقف حاجزا بين الذات ورؤية الصورة الكلية، وبناء الفهم الممنهج المرن القابل للتعديل والتكيف، الساعي إلى الحق والحقيقة دون أن يدعي يوما ما إدراكها وامتلاكها، فهو في سعي وكدح مستمر من أجلها عاملا سائر متدبرا متبصرا متفكرا، وهذا يقتضي منا مجاهدة النفس وشهواتها وأهوائها، وتعرية البنى الخفية للعقل وإسقاطاته وتوقعاته وتحيزاته، وترويضه الدائم على قبول النقد والاختلاف والمراجعة.

ـــ التحلي من خلال تمثل الأخلاق والقيم الفاضلة في الفكر والممارسة، والتي تهدف لصلاح الإنسان وخيره ودفع كل مظاهر الشر والأذى والألم والمعاناة عنه، والتي تقوم على تغليب قيم الإخاء والتسامح والمحبة والعفو والرفق واللين، وتجنب دوافع الصدام والعراك التي يفرضها التعصب للذات والرأي.

بهذه الطريقة – في نظري المتواضع – يمكننا تأسيس فهم جديد لانهائي وغير مطلق، فهم متجدد منفتح مخلق قاصدا رفعة شأن الحقيقة وتبجيل الحق من خلال نفيهما عن ذاته، ومؤملا إعادة بناء كيان هذا الإنسان المقهور المهدور وضمان سلامته ومعافاته، وتحرير من قيوده، وفتح مجالات الفعل والاختيار أمامه ليصنع حياته بنفسه ويقرر مصيره بذاته دون ضغوط أو إكراهات أو آلام، فهذا السبيل الوحيد لتحقيق التنمية الإنسانية الفاعلة وإدامتها على اختلاف أنواعها ومجالاتها.

* باحث في العلوم الاجتماعية

‫تعليقات الزوار

3
  • moslim
    الخميس 20 فبراير 2014 - 20:17

    intresting article …i really injoyed in reading this fabulous ….ideas

  • Lfadl
    الخميس 20 فبراير 2014 - 21:34

    M.MOURAD. :voilà une magnifique analyse. Une analyse pleine de réalisme, d'objectivité, de conseils. On ne peut traiter ce sujet avec tant de perspicacité et d'honnêteté. MERCI !
    Les réactionnaires qui se définissent sous différentes denomminations ne sont en fait que des éléments enflammés par de faux slogans dus à l'idéologie de nébuleux meneurs, et au désir d'assouvir certaines vengeances, et pire , souhaitant déstabiliser la Nation. Qui dit qu'il n y a pas de mains étrangères ennemies dans ces levées de boucliers ? Certes nous devons manifester pacifiquement, sans violences, sans insultes, sans toucher à nos symboles. La sagesse et la raison devraient être les moyens de pressions. Personne ne peut se targuer d'être l'unique compétent, et seul à pouvoir solutionner tous les problèmes. Le peuple marocain( avec tous mes respects) n'est pas encore mur pour jouir de tous les slogans. Nous avons encore besoin de plus d'instruction, de savoir , d'élever nos pensées, mûrir …suite

  • bimg akka
    الخميس 20 فبراير 2014 - 23:37

    تحية طيبة لكاتب المقال أشاطرك الرأي في ما ذهبت إليه وأشد على يدك بحرارة.تحليلك النظري جيد للغاية حسب وجهة نظري,لكن يصعب تنزيله على الواقع,فالإنسان لا يعيش فيلسوفا في الشارع أو لنقل معظم الناس حتى لا نقع في فخ التعميم الذي يفتقر للبرهان وحتى التبعيض هنا يفتقر لبرهان الإثبات,لكننا نحتاج أن نتحدث عن وضع معين ولا بد من الإذلاء بالرأي فيه-وإن لم تتوافر لدينا حقائق مطلقة في الموضوع-على كل حال…فعلا يصعب أن تعيش فيلسوفا في الشارع وحتى أثناء الكتابة نحن نتفلسف فقط…وفرق بين أن تكون فيلسوفا وبين أن تتفلسف…

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز