الجندي في "ولد القصور" ـ 15ـ: الهروب من "المْفلْعص" والمجهول

الجندي في "ولد القصور" ـ 15ـ: الهروب من "المْفلْعص" والمجهول
الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 17:00

15

بدأ يظهر التعب على المعلم أحمد المفلعص، ولم يعد قادرا على الوقوف، فجلس واضعا كفيه على رأسه يراقب الناس وهم يسيرون في اتجاهات مختلفة. جلست قريبا منه مستندا إلى قفتي..وإذا بصوت ينادي بالأمازيغية: “نِكْرَاتْ أتْسُومْ أسْكّيفْ” ومعناها بالعربية “هيا لتشربوا الحريرة”، انتبه المعلم إلى مصدر الصوت وإذا به رجل يعرفه وإن لم يره منذ عقود، وقد ظنه مات. اقترب المعلم منه وأنا أسير وراءه، وخاطبه باسمه:

المعلم: “موسى؟؟”

موسى: “اشكون هذا؟”

المعلم: “هذا احمد اللي كان خدام معك في دار العيادي”..

موسى: “اش جابك لهنا امسكين”

المعلم: “الرزّاق”

موسى: “أشمن رزق هنا؟”

المعلم: “جاء عندي واحد الشيخ موحا..وقال لي كاين شي خديمة عند الخليفة هنا فيها دفوفو سراجهم ودرابز”..

اقترب موسى وقد خفض صوته “بعدا.. هذي راها دار القايد ماشي دار الخليفة، وحتى شيخ اسمو موحا ماكاين هنا.. وعلى ما كيبان لي راك غير حصلتي فالمصيدة ديال القايد”.

قال المعلم مرتعبا: “كيفاش؟”.

زاد الرجل في حَذَرِهِ وهو يقول “احدر صوتك وسمعني مزيان..اهنا راه اللي ادخل عمرو مايعاود يخرج.. وأنا براسي راني مدفون هنا هذي سنين..والى كنت مزال ماتقيدتي ودخلوك في الكنانش ندبر ليك كيف تهرب انت ومتعلمك”.

لما نبه موسى مُعلّمِي النّجّار وشرح له الوضع ثم عرض عليه مساعدتنا على الخروج من تلك “الحصلة”، قال له “أحمد المفلعص”: “انا مزاوك المعلم موسى ..فُكنا من هذ الحصلة راني قابط العربون من عند الشيخ موحا”.

أجابه موسى: “اسمع.. ماحد عباد الله مجوقين على الحريرة ..هز الماعون ديالكم وتبعوني جيهت السور دْ الرْوَا”.

ساعدني المعلم على وضع القفة على كتفي وحمل هو قفته، ثم سرنا خلف المعلم موسى الذي ظهر لنا جليا أن علاقته طيبة مع كلّ من ضَمّهُمْ ذلك “الرّوَا” الفسيح الذي جمع البشر والحمير والبغال، وكأنه أكبر الأسواق الأسبوعية المحيطة بمراكش.

عند بلوغنا إلى جانب جدار وسط العتمة، ساعدني المعلم حتى تسلقت الحائط ثم أعطاني القفة فرميت بها خلف الجدار وقفزت خلفها وأنا ارتعش من شدة الخوف، خوفٌ من البشر وخوفٌ من الكلاب الضالة وخوفٌ من الحشراتِ السّامّة التي مازلت أعاني من عُقدتها. بعد أن ابتعدت قليلا عن السور، سمعت حركة ارتطام جسم المعلم بالأرض.

كان الشيخ موسى قد وجه المعلم في الاتجاه الذي ظَنَّ أن فيه نسبة أمل أعلى للإفلات من قبضة أعوان السلطة، ولكن الطريق كان مظلما، يملؤه بساط من النباتات الطفيلية التي زين بها الربيع تلك الهضباتِ فجاء فصل الصيف بشمسه الحارقة وجعلها لا تصلح إلاّ حطبا، فصيّرها مصدرا للمزيد من الخوف؛ إذ كُلّمَا أسرعنا الخُطى، زاد حَفِيفُهَا وهو صوت ملفت في سكون الليل الذي لا يخرقه إلاّ نقيق الضفادع ونباح الكلاب.

بعد أن طال بنا المسير، فقدتُ كل صَبْرٍ وعجزت عن الاستمرار فلم تعد عضلاتي الصغيرة تقوى على حمل أيّ شيء. رميت بالقفة، ورغم محاولة المعلم تشجيعي وحثي على المزيد من الصّبر لم يكن ذلك مُمكنا أبدا. أخرج المعلم من قُفّته حبلا متينا رغم رُفْعِهِ كان قد لفه على هيئة كرة، ثم ربط طرفيه بقبضتي القفة، وقطع منه بقدر مناسب وأعطاني طرفا وأخذ هو الطرف الآخر. فبدأنا نجر سويا القفة حتى لا يُدركنا الصّباح وينكشف أمرنا فنُأخَذ بجرم لم نرتكبه أصلا.

كانت تلك ليلة لن أنساها أبدا لم تذق فيها عيني طعم النوم وأنا أفكر في المجهول. ليلة سوادٍ في سوادٍ في سواد، وما كُنّا أنا ومعلمي نصدق أن الخيط الأبيض يظهر في ليلتنا تلك دون أن نتعرض للسعة ثعبان أو غيره، ونحن نتخطى جُحورَ تلك المخلوقات المخيفة.

مع بزوغ شمس يوم جديد، بدأت تلوح لَنَا مداشرٌ متفرقة ومَاعِزٌ وأغنامٌ تغادرها وتتسابق إلى المَرَاعي. استدل المعلم المُفلعَصْ من الرّعاة على منزل الشيخ موحا.. فقيل لنا إنه صاحب تلك الماشية، وأشاروا إلى منزله غير البعيد.علمنا فيما بعد أن الرجل جاء متأخرا بعض الوقت لاستقبالنا فلم يعثر لنا على أثر.

بعد تناول فطور جعله الجوع والعياء ألذ طعام وأشهاه، سمح لنا السي موحا بأخذ قسط من الراحة قبل التوجه إلى دار الخليفة للشروع في العمل، وهناك بدأ المعلم يُسند إليّ مهاما لا علم مسبقا لي بها، وكُلما ظهر عجزي عن فهم شيء، إلاّ وتفاجئني صفعة على قفاي، ووابل شتائمٍ وسباب.

أذكرُ أنه أعطاني يوما قطعة خشب لأنشُرَهَا، فتكسر المِنْشَارُ في يدي. انطلق الوحش وأخذ حبلا كان قريبا منه ولم يترك مكانا في جسمي إلاّ وألهبه بشحطاتٍ كتلك التي كان يهبط بها سائق العربة على ظهر بغلته المسكينة. طفح كيلي وبلغ سيلي الزبى، وقررت أن أثور على هذا المعلم المعتوه سليط اللسان واليد.

بعد تناول وجبة العشاء كما تيسر، أخذت قنديل “الكاربون” بعيدا عن الجماعة التي كانت تشاركنا الطعام والمبيت فوق سطح المنزل نفسه الذي نشتغل فيه، وارتميت على حصير بعد أن وضعت المصباح جانبا. كان النور المنبعث منه يجلب أسرابا من الحشرات الطائرة، تظل تحوم إلى أن تسقط ميتة، ومنها من يملك حاسة الإدراك لفعل النار فتظهر لتختفي ثم تظهر من جديد إلى أن تنطفئ جميع القناديل إلاّ ذاك الذي أمامي، فقد تعودت أن أتركه إلى أن يستهلك كل ما فيه من طاقة كاربونية..

وهو ما يحدث بعد أن يكون العياء قد أرغمني على الاستسلام لسُبَاتٍ ما هو بنوم عميق، ترافقه الكوابيس. أما في تلك الليلة وبعد “المدلوكة” بحبل المعلم المفلعص، وما تركه من أثار على كل أطرافي، فقد جفاني النوم وحل الأرق على الأرق.. وكيف لمن في مثل سني وواجه من المتاعب ما واجهتُ، أن لا يأرق…

كنت أراقب “المفلعص” الذي لا يملك من القوة إلا شر لسانه وهو النحيل، الهزيل، إذا قَفَزْتُ عليه أسقطه أرضا لا محالة. انتابتني ساعتها رغبة بأن ألكمه في وجهه مثلما كان يفعل الأبطال بالأشرار في الأفلام الأمريكية، التي كنت أصفق لها بإعجاب في السوليما القنارية..

خطرت ببالي ألف فكرة وفكرة، ولكنني وبعد صراع وتقلب فوق الحصير، وجدت في نفسي بواقي من تلك التربية الإسلامية التي أنشأنا عليها السي الحسن، واهتديت إلى أن أفضل من كل ذلك أن أنزل إحدى غرف ذلك المنزل وأحمل رُزمة ثيابي المتواضعة جدا، وأنطلق هاربا في اتجاه مراكش.

وهكذا كان بالبعد عن مثل ذلك الشر زال عني الخوف من كل حشرات الأرض وحيواناتها حتى قطعت مسافة لا يُستهانُ بِهَا، إلى أن بلغت الطريق المُعَبّد. ومن حسن الحظ أن الكلاب الضالة التي أعددت لها العدة بالعصا والحجر، عندما صادفتها وجدتها منشغلة عني ببعضها البعض.

بعد ولوج النهار في الليل، كان أول من يعبر تلك الطريق هو الشاحنات العملاقة التي تحمل المعادن المهربة من الجبل بحق الحماية الذي يراد به باطل. لم يكن أحد يجرؤ في ذلك الزمان على التلويح باليد “أوطو سطوب”- وخاصة لمثل هذا النوع من وسائل النقل.. السيارات والحافلات والشاحنات، فلا أمل في الرّكُوبِ إلاّ لِمَنْ يملك الرّيالات.

كانت لالة رقية تجلس مع بعض من ظلوا في رعاية دار السي الحسن من النّساء، وهن ينقّين الزرع من الحجر. أثار انتباهها صوت خوخة الباب الذي أصبح بلا بواب. رفعت رأسها وتوقفت نظراتها في اتجاهي وكأنها لا تستبعد هذا القُدُومَ المُبَكّرْ. وبمجرد ما اقتربت منها وقبلت رأسها حتى قالت: “كان قلبي حاسس أولدي ما غدي يشدك قنت.. وكل صباح كنقول إلى ما جيتي اليوم غدا تبان.. حيت عارفاك قليل الصبر”.

قلت لوالدتي: “واش ندير أمي؟ هداك المعلم ما عرفوه غير هدوك اللي سماوه المفلعص والمنحوس.. بغيتي نبقا ناكل العصا صباح عشية بسبب وبلا سبب؟”.

والدتي: “ما عرفت اش نقول لك أولدي.. الرجا فالله”.

يتبع..

* سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان “ولد القصور”، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم.

‫تعليقات الزوار

11
  • احمد@@@
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 18:38

    ونحن نتابع مدكرات سي محمد الجندي التي حملت بين طياتها الكتير من المتاعب. صعوبات جعلت منه رجلا قويا
    كانت تضهر على ملامحه كلما قام بدور من الادوار
    السينمائية او المسرحية . الرجال تصنع من حديد لا من عجين . مع الصحة والعافية لسي محمد الجندي .

  • بنت القصور
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 19:13

    دقة السرد و روعة الحكي تميز السيرة الذاتية للاستاذ محمد حسن الجندي
    بارك الله فيك

  • بوبكر من سلا
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 19:25

    كتاباتك تتسم بالتشويق السهل الممتنع السيد الجندي.حياك الله.

  • دعاء
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 19:27

    شكرا جزيلا على نشركم أخبار العالم على الهسبريس .ومع عاطر تحياتي لكم جميعا

  • soufiane
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 19:42

    سي لحسن كان صالحا حسب ما جاء في مقالتك. لهذا مكنك الله بعد كل هذا العناء من العيش الرغد والشهرة و الحمد لله . في سورة الكهف ( وكان ابوهما صالحا) هو السبب الذي جعل سيدنا الخضر يبني الجدار رغم ان اهل القرية لم يطعماه هو و سيدنا موسى لكي يبقى الكنز تحت الجدار للفتيين ابني الرجل الصالح.فعلا حكمة الله تتجلى في اقداره.

  • اطفالنا مستقبلنا
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 21:14

    و الله ادمعت عيني و انا اقرا سطورك و اتخيل ذاك الطفل اللذي حملته الايام ما لا يقوى على تحمله حتى الرجال و افكر في الام اللتي تحملت ما لا يعلمه الا الخالق بعد وفاة الزوج و الحامي لحماها و حمى اطفالها و افكر كم من طفل في مغربنا الحبيب اليوم و في زمن القرن الواحد و العشرين لازال يعايش ما عايشتة في طفولتك. كم اتمنى ان يسن قانون في بلدنا الحبيب يعيل الاطفال اليتامى و يعيل النساء المتوفى عنهن ازواجهن حتى لا تضطرن للدفع بفلذات اكبادهن للعمل و الاستغلال عوض التمدرس. رحم الله والدتي اللتي علمت يوما بامر طفلة يتيمة الاب توفيت والدتها ايضا, فاتت بها و حممتها و كستها و اطعمتها و عرضت على اختها ان تتكفل بها كما لو انها واحدة منا خوفا من ان يدفعو بها للخدمة في البيوت في سنها الصغير و مع هزالة جسمها و ترك المدرسة. كم نحن في حاجة الى قلوب رحيمة ترحم الصغير و الكبير, و كم نحن في حاجة لان نراجع الكثير من بعض عاداتنا القاسية و اللائنسانية كتقبل فكرة عمل الطفل عوض ان نتركه في المدارس لانه دائما هو رجل الغد.
    شكرا جزيلا للسي محمد الحسن الجندي و رحم الله والداك جميع اموات المسلمين في هذا الشهر العظيم

  • الحد الأدنى من التوثيق مطلوب
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 23:07

    ملاحظة : في الوقت الذي كان فيه الجندي يعيش تلك المرحلة كانت الجالية الجزائرية بفرنسا او الحركيين لم يتوصلوا الى فبركت مصطلح ( الأمازيغية ) بعد القليل من إثبات الأصالة و المصادقة مطلوب حتى في الانترنت .

  • بن عبد السلام
    الثلاثاء 21 يونيو 2016 - 23:32

    اولا تحية اكبار واجلال للكبير محمد حسن الجندي مع متمنياتي بطول العمر ودوام الصحة ومزيد العطاء . وبعد: استسمح الاستاذ الجندي لأستفسره عن أحد الأشخاص الذين ورد اسماءهم كزملاء له في المدرسة الباشوية والذي أدلى في حقه بالثناء وشهادة حسن السلوك. وسؤالي هو :هل الأستاذ الجندي على علم بتفاصيل ممارسة السلطة من طرف هذا الشخص لما كان قاءدا بمنطقة تحناوت في أواءل الستينات ، أي بداية سنوات الرصاص وبزوغ حزب )الفديك) وانتخابات 1963؟ وللحديث بقية. وختاما ،مرة أخرى،تحية للفنان محمد حسن الجندي،رمز الصفاء والشهامة ونظافة اليد.

  • راءد
    الأربعاء 22 يونيو 2016 - 00:11

    المحن تصنع الرجال. تحية لهذا العظيم. إنه للمثال المحتدى به

  • الخطابي
    الأربعاء 22 يونيو 2016 - 09:21

    سفيان صاحب التعليق 5 لا تنسى اخي ففي نفس السوره الكهف يقول تعالى بما معناه وكان ابواه صالحين فاراد ربك ان يستبدلهما اقرب منه زكاوه واقرب رحما صلاح الوالدين ليس بمعياره لانتاج الناس

  • أم أحمد
    الأربعاء 22 يونيو 2016 - 09:35

    ذكريات الطفولة رغما قساواتها تبقى ذكريات جميلة نحن اليها ,وياليت فناننا الكبير يحول هاذ السيرة لمسلسل جميل بالحق يسند البطولة لشخص متمكن جداً وإلا سيضيع كل ماهو جميل فيه

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس