الاستبدادُ بالفن

الاستبدادُ بالفن
الأربعاء 25 ماي 2011 - 17:39

أو القمْعُ الراقص على إيقاعات “موازين”


أكتبُ هذا المقال اليوم الأحد 22 ماي2011 مساء، والأخبار ترد عن تدخلات قمعية للقوات المخزنية لمنع المسيرات والوقفات والاعتصامات الإنذارية، التي قررت حركة20 فبراير تنظيمها في العديد من المدن.


وكأن الدولة بهذا السلوك تريد أن تقول إن التسامح التي أبدته تجاه الأنشطة السابقة للحركة قد طُويت صفحتُه، وأن لغة العصا هي المتكلمة، من الآن فصاعدا، مع الحركات الاحتجاجية المعارضة، وأنها لا تملك غيرَ سياسة القمع للتعامل مع معارضيها ممن لم يُسلّموا ولم يهتفوا لخطاب9 مارس، ولم يقبلوا بخطة النظام المخزني ورؤيته للإصلاح الدستوري والانفراج السياسي.


بعبارة أخرى، ليس هناك من حوار بين الدولة ومعارضيها الحقيقيين، الذين لهم وجود معتبر في الشارع، وصوت مسموع لدى شرائح واسعة من الشعب، ورؤية سياسية واضحة قائمة على معارضة الاستبداد والفساد ومؤسسات المخزن الفاشلة وسائر سياسات الدولة المخزنيةــ قلت ليس هناك اليوم بين دولتنا المخزنية وبين معارضيها إلا التنافر والتباعد والتناكر، لأن هذه الدولة لا تعترف بشئ اسمه الرأي الآخر، حتى يكون هناك حوار حقيقي، وإنما هي معتدة دائما بجبروتها القائم، أساسا، على القبضة الأمنية الحديدية، فضلا عن الطبقة السياسية المصنوعة على قد المقاس- إلا من رحم ربك- التي تملأ الدنيا بخطابات المدح والتصفيق، ولا تفتأ تشوش وتشكك وتتهم الشارع المعارض بأنه شارع فتنة وتخريب وإرهاب، وأنه شارع يسعى لغير مصلحة البلاد والعباد.


إن الدولة بإصرارها على سياسية القبضة الحديدية تجاه الاختيارات المخالفة توسع الهوة بينها وبين غالبية الشعب المقهور، وقد تصل هذه الهوة، لا قدر الله، إلى مستوى من الاتساع والعمق لا ينفع معه ترقيع ولا تراجع ولا تصحيح.


القمع على أشده تحت الأضواء الكشّافة لمنصات مهرجان “موازين”، وعلى إيقاعات موسيقى تظللها مأساة شعب مُكرَه مقموع.


فبئس الفنانُ الذي همّه أن يراكم الثروات من دماء شعب مستضعف منهوب. وبئس الفنان الذي يقبل، راضيا وطامعا، أن يصنع للاستبداد القبيح واجهة جميلة مزورة. وبئس الفنانُ الذي لا يتردد في أن يلعب لعبة الدولة الظالمة ضد جمهور مظلوم.


هذه واحدة.


أما الثانية، ففي اعتقادي، باطلٌ هذا الفنُّ الذي يُفرض تحت حراب القهر والإكراه والاستبداد، ولو أُضيفَ إلى فلان وفلانة من النجوم الكبار والمبدعين الأفذاذ، الذين طبقت شهرتُهم الآفاق.


وأعتقد أيضا أن من يريد أن يعرف بشاعة الوجه الاستبدادي لدولتنا المخزنية، يكفيه أن يتابع أخبار مهرجان “موازين” الرباطي، الذي تفرضه الدولة في هذه الأيام على المغاربة بكل ما تملكه من وسائل الدعاية والإكراه، تحت الرعاية السامية للملك أمير المؤمنين.


فكونُ المهرجان منظما تحت رعاية الملك، يعني، عندنا، أنه مُلْزم ولو أدى الأمرُ إلى تحريق البلاد وسلب نفوس العباد.


إذًا، انتبهوا أيها المعارضون، “المهرجان” بات مقدسا، والويلُ كلُّ الويل لمن تحدثه نفسُه أنه يستطيع أن يشوش على برنامجه ويحيد به عن تحقيق أهدافه المرسومة، بَلْهَ إدَانتَه وإلغاءَه.


الملكُ، عندنا، لا يرعى إلا ما كان صوابا صالحا لرعيته، ومثمرا مفيدا لدولته، ومنزها طاهرا مناسبا لقدسيته.


وكنت أتمنى أن أسمع كلمة من علمائنا “العظام” “الأجلاء”، عن هذا المهرجان الذي يرعاه أمير المؤمنين، وذلك لنرى كيف ينظرون وكيف يفقهون وكيف يحكمون، ولنستفيد من علمهم الغزير في الموازنة والترجيح، وفي التعليل والتقويم، وفي التعديل والتجريح، وفي النظر إلى المصالح والمفاسد، وفي المقاصد والمآلات، لتطمئن قلوبنا إلى أن هذا المهرجان الرّباطي “المقدس”، إنما هو مصلحة للأمة معتبرةٌ لا تشوبها شائبةٌ من شك أو نقص أو ظن أو تأويل، وأن من يقول بغير هذا إنما هو رام في غير مرمًى، خابطٌ في العماية، خارج على الجماعة، مستحقٌّ لأشد العذاب المهين!!


فهل أطمع أن أسمع منكم، يا علماء سلطاننا، كلمةً مُطَمئِنَةً،


أم أنّكم، أيها الدّيدانُ، مقبـــرةٌ//الصمتُ فيها عديلُ الموت والرّمَم؟


أما الثالثة، فهي أن شباب 20 فبراير “الآبق”، لا بد أن يرجع إلى الحظيرة التي أهدرت الدولةُ لإعدادها الميزانيات الضخمة والجهود الكبيرة، ولا بد أن يستعيد رشدَه ولو بالضرب الموجع والصعق المؤلم المُتلف، لأن من طبيعة المخزن أنه لا يحب مِزاح الذراري، وأنه لا يرضى لكلمته شيئا غير السمع والطاعة.


لا شك أن المخزن قد تملّكه السعارُ وهو يرى الشباب الذي كان يظن أنه أصبح مسلوكا في المُخدَّرين، التائهين، المُبعدين، التافهين، القانطين، البطّالين، اللاهين، الراقصين على أنغام آلامهم ومآسيهم، قد انتفض شبابا واعيا، فاهما، مسؤولا، طموحا، رافضا، محتجا، متمردا، مهددا.


لقد قطعت السياسات المخزنية أشواطا بعيدة في إلهاء الشباب، وتحريف اهتمامته، وتزوير إرادته، وإحباط عزيمته، حتى كاد أن يتمكن اليأسُ من نهوضه مرة أخرى، ورجوع حيوته، وامتلاكه زمام أمره، كما كان ينظر إلى شباب تونس ومصر قبل اندلاع الثورتين العظيميتن، اللتين فاجأتا الدنيا، وأدهشتا القريب قبل البعيد، واللتين أثبتتا أن تحرر الأمة ونهوضها إنما هو بشبابها، الذي ما يزال عتاة الطواغيت يتوسلون بكل الوسائل لإخباء جذوته واستغلال شرّته في اللهو والفراغ والعبث والضياع.


لقد أظهرت المظاهراتُ الشبابية المحتجة على مهرجان “موازين”، والسلوكاتُ القمعية التي سلكتها الدولة في مواجهة هذه المظاهرات، أن عناد الدولة المخزنية، في هذه النازلة، إنما هو عناد المستبد الذي لا يؤمن بشيء غير ذاته وقوته وجبروته، والذي يرى أن على الناس ألا يفعلوا إلا بإرادته هو، فإن رأى هذا، فعليهم ألا يروا إلا ما يراه، وإن رفض فلا يملكون إلا أن يتبعوا خانعين مُسلِّمين، وإن كان فيما يراه هلاكهم.


أما الرابعة، فإن الدولة ما تزال تحشد كل ما تستطيعه، من وسائل وإمكانيات، للدعاية لمهرجانها “الجبري” المقدس. فنحن بإزاء دولة متخلفة غير مسؤولة، وإلا فما هذا العناد في مواجهة شباب طموح يحلم أن يكون حرا في بلاده؟


ما معنى أن تجند الدولة إعلامها الرسمي وشبه الرسمي، وأن تذهب في الإشهار كل مذهب، لتفرض على الناس، بالقوة والكذب والباطل والتحريف والتلفيق، أن يفرحوا بمهرجانها، وأن يشهدوا له بغير ما يعرفون وبغير ما يشعرون؟


أيّ انحطاط هذا، وأيّ إسفاف وأي حضيض، حينما نرى الدولة المخزنية تستميت، لتفرض على الناس أن يطربوا وأن يرقصوا بالسيف؟


هل ظروفُنا الوطنية الداخلية تسمح بهذا، ولمّا يمض على انفجار مراكش الإجرامي شهرٌ واحد؟


أهذا هو أسلوب العقلاء الأمناء الأصحاء المسؤولين لتذكّر أرواح ضحايا الإنفجار الدموي الآثم؟


هل الأجواء المتلبدة، والأحوال المضطربة التي تطبع محيطنا العربي تسمح بهذا التمادي في الاستخفاف بإرادة الشباب الغاضب، واحتقار ذوقة وذكائه، والتلاعب بمشاعره وانفعلاته؟


هل الحكمة السياسة والعقلُ الراشد يسمح بهذا المستوى من الفجور في مخاصمة الرأي الشبابي العام، ومعاكسة التيار الاحتجاجي المتعاظم في المجتمع؟


ولا أريد أن أكرر هنا ما نشر من تفصيلات في شأن تبذير المال العمومي، وإفساد الأذواق والأخلاق، وإشاعة الفواحش والمنكرات، والتطبيع مع الشذوذ والفن الهابط.


منصاتُ مهرجانٍ مقدس شبهُ مهجورة إلا من جمهور مصنوع ومجلوب للتصوير وتأثيث الواجهة، أو مواطنين مخدّرين مسوقين بالدعاية الكاذبة الخادعة، وبترغيب ظاهر وترهيب خفي، ليفرحوا بمصيبتهم، وليرقصوا في جنازتهم.


لقد بلغ السيل الزبى، يا عباد الله، وإن الخرق آخذ في الاتساع، فاتقوا الله إن كنتم مؤمنين.


وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

‫تعليقات الزوار

1
  • محلل ساذج
    الأربعاء 25 ماي 2011 - 17:41

    صاحب المقال تمنى على العلماء موقفا مما يجري في هذه المهرجانات التي تضر بالدين والمال والعرض والنسل …ودعاهم إلى إبراز حكم الشرع والموازنة بين المصالح والفاسد
    وأنوب عنهم ولست منهم بطبيعة الحال ولكن لو تكلموا لوجدنا منهم أصنافا
    شرفاؤهم ومن لا يخاف في الله لومة لائم سيقول بأن هذا منكر وظلم وتبذير وإفساد…وسيكون مأله هو مأل بنشقرون رئيس المجلس العلمي السابق بالبيضاء وقد عزل السنة الماضية عقب المهرجان المشؤوم الذي يكرم فيه من ينزع سرواله ويقال بسبب الإنكار عالم قال كلمة حق…
    خبر إقالته قد نشرته هسبرس في حينه ولعله يكون محفوظا لمن أراد البحث…
    الفريق الثاني وهم الأذكياء منهم أهل الخبرة بما يرضي المخزن والمحافظين على حسن السيرة المداهنون الذي يرون في بنشقرون وعزله درسا وموعظة أبلغ من مواعظهم فعملوا بمقتضاها وسكتوا بين راض لا يبالي وبين مكره أخطأ في الموازنة بين مصلحة المنصب ومصلحة قول الحق وإنكار المنكر
    الفريق الثالث مشغول بنوازل الموتى وجماع الزوجة الميتة أو جماع الحائض بالعازل او غيره ونكاح الجماد وما شابه اما شؤون الأحياء فلم تنزل به بعد نوازله وأن كانت قريبا من داره
    الرفيق الرابع وهم من لديهم عزة نفس وكرامة وهم معزولون أصلا ولم يسمح لهم بولوج المؤسسات المحسوبة على العلماء ولا الأوقاف بل لا يسمح لهم بالوعظ ولا الخطابة وقد سعت الوزارة المعنية ومعها الداخلية إلى ضبط الحقل الديني فصار كالحقول الموقوفة تزرعه بما تشاء وتقتلع منه من تشاء وكيف تشاء كما تفوت حقوله لمن تشاء …
    هؤلاء لو تكلموا وسمح لهم بالكلام أو سئلوا لما كان منهم إلا شديد الإنكار والصدع بالحق …ولكن مهما قالوا ومهما انكروا فلن يتجاوز إنكارهم أنوفهم لأنهم ليست لديهم منصات شاكيرا ولا استوديو دوزيم ولا مكبرات صوت… وليسوا ممن يرغب المخزن في ان يسمع صوتهم …فهم دعاة الحلال والحرام والر جعية ولا يتذوقون الفن …وهذا لا يتناسب مع حداثتنا…
    وفي مثل هذه الأيام لا تستغرب أن يحدثك خطيب منهم عن عذاب القبر أو …غيرها من المواضيع هروبامن الإحراج…

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة