الامتلاك أو الوجود

الامتلاك أو الوجود
الأحد 16 فبراير 2020 - 10:40

الأسس النفسية لمجتمع جديد

كتاب “الامتلاك أو الوجود To have or to be”؛ كتاب بالغ الأهمية، تمت ترجمته للعربية قبل سنوات، إلا أن تلك الترجمة لم تكن ذات قيمة علمية مثل الترجمة التي بين أيدينا، لأن المترجم الأول قام بحذف أجزاء كاملة دون مبررات مقنعة، كما أساء تعريب بعض المفاهيم “الفرومية” التي تتطلب الكثير من الحذر والدراية بفكر إيريك فروم.

لهذه الأسباب نعتبر الترجمة التي بين أيدينا للأستاذ “حميد لشهب” (2019) ترجمة متميزة تستحق التنويه، لأن المترجم أولا ضليع في اللغة الألمانية وهي اللغة الأصلية للكتاب، ولأنه ثانيا على دراية كبيرة بفكر إيريك فروم وترجم له أعمالا عديدة، ولأنه ثالثا قام بمشاورات عديدة حول مختلف أجزاء الكتاب مع أحد أبرز تلامذة إيريك فروم والوريث الشرعي لتركته الفكرية وهو صديقه المحلل النفسي البارز “راينك فونك”؛ صاحب كتاب “الأنا والنحن: التحليل النفسي لإنسان مابعد الحداثة”، والذي قام الأستاذ حميد لشهب بتعريبه كذلك.

يمثل كتاب “الامتلاك أو الوجود” آخر ما كتبه إيريك فروم قبل وفاته، ويعد عصارة فكره على الإطلاق، وقد لاقى نجاحا باهرا عند نشره في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وحققت مبيعاته أرقاما قياسية ولازالت إلى حد كتابة هذه السطور. أرقام تترجم الحاجة الماسة للفكر والإنسان الغربيين لمحاولة تجاوز الوضع الحالي.

وعلاقة بمجالنا التداولي، يساهم هذا الكتاب في فتح أفق شاسع للوعي العربي الإسلامي، لإكمال معرفته بالآخر وفهم البنيات الفكرية التي تتأسس عليها قوته الاقتصادية والإيديولوجية والروح الطماعة التي توظفها الرأسمالية اللبرالية ضد الإنسان عموما، بل ضد الطبيعة في حد ذاتها. وهذه هي الرسالة العظمى لفروم في هذا الكتاب: فإذا استمر هذا الوضع بهذه الوتيرة فإن النوع البشري سينقرض، لأن شروط الحياة في كوكبنا ستنعدم، رسالته أو قناعته هذه أسسها على مسلمات واقعية ملموسة لا على مجرد تكهنات.

كان الاختيار بين الامتلاك أو الوجود الإشكالية المحورية في فكر كبار معلمي الحياة. يعلمنا “بوذا” بأنه لا ينبغي لمن يريد بلوغ درجة أعلى في تطوره الإنساني اللهث وراء الامتلاك. ويقول المسيح “إن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي فهذا يخلصها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وأهلك نفسه أو خسرها” (انجيل لوقا،9 و24 و25).

يخبرنا إيريك فروم أنه كان معجبا لسنوات بهذا التمييز بين الامتلاك والوجود، وحاول أن يجد أساسه الإمبريقي/ التجريبي بدراسة فعلية للأفراد والمجموعات بمساعدة طريقة التحليل النفسي. وما توصل إليه قاده إلى استنتاج مفاده أن هذا التمييز، مثله مثل التمييز بين حب الحياة وحب ما هو ميت، وأن المعطيات الميدانية للأنثروبولوجيا والتحليل النفسي تشير إلى أن الامتلاك والوجود هما أساسا نمطان مختلفان للتجربة الإنسانية، وأن قوة كل واحد على حدة هي التي تحدد الاختلافات بين طباع الأفراد ومختلف نماذج الطباع الاجتماعية.

إن لغتنا اليومية تعكس حالة الاستلاب الذي يتخبط فيها الإنسان المعاصر، فقد حصل تحول في لهجة الامتلاك و الوجود، وهو تحول يشهد عليه الاستعمال المتزايد للأسماء وانخفاض استعمال كلمات الفعل/ العمل؛ من الممكن أن أقول أن لدي أشياء ما؛ دارا، كتابا، سيارة. أما الفعل فإنه التعيين المضبوط لنشاط ما، كأن أقول: أنا موجود، أنا أحب، أنا أرغب…، لكن المرء يعبر أكثر فأكثر عن عملية ما بمصطلحات الامتلاك.

منذ القرنين الماضيين تزايد الميل إلى تعويض الأسماء بالأفعال وهو مؤشر على الاستلاب اليوم، عندما أقول “عندي مشكلة” عوض “إنني مهموم” فإن التجربة الذاتية تقصى، يعوض الأنا الذي يقوم بالتجربة بالهو الذي يمتلك، أحول أحاسيسي إلى شيء أملكه، فيتملكني هذا الشيء، وتكشف طريقة الكلام هذه الاستلاب اللاواعي المضمر.

يربط فروم الامتلاك بالاستهلاك، لأن الاستهلاك شكل من شكال الامتلاك، وقد يكون أهمها في “مجتمع الوفرة” الحالي، وهو حمال لوجهين. إنه يقلل من الخوف، لأن المرء لا يمكن أن يأخذ مني ما أستهلكته، لكنه يفرض علي أن أستهلك باستمرار، لأن الاستهلاك مرة واحدة لا يعمل على إرضائي. وقد يكون أفضل تعبير عن المستهلك الحالي بالمعادلة التالية: إنني ما أملكه وما أستهلكه.

وبما أننا نعيش في مجتمع موجه نحو الامتلاك والربح، فإننا لا نرى إلا ناذرا وجود نمط الحياة الوجودي، وترى غالبية الناس أسلوب التملك طبيعيا في الحياة، بل أسلوبا وحيدا للوجود. ويصوغ “فروم” أمثلة عديدة يقابل فيها بين نمطي الحياة (الامتلاكي والوجودي) من التعلم والقراءة والمعرفة، إلى الحب والزواج والعلاقات الاجتماعية مرورا بالإيمان، وسنأخذ هذا الأخير (الايمان) لنفهم هذا المنظور “الفرومي” للإيمان كوجود أو كامتلاك.

يعني الإيمان في نمط الحياة الامتلاكي، امتلاك أجوبة لا يكون للمرء أي برهان عقلي عليها. ويتشكل إيمانه من تعابير أعطيت له من طرف آخرين، إنها مثل ورقة الدخول التي يشتريها المرء لينتمي إلى جماعة بشرية معينة، وتعفيه من مهمة صعبة أخرى تتمثل في التفكير بنفسه واتخاذ قرارات مستقلة.

إن الله الذي يعد في الأصل رمزا لأسمى قيمة، يصبح في نمط الحياة الامتلاكي مجرد أيقونة فقط، شيئا صنع من طرف بشر، يعكس عليه الإنسان قوته الذاتية، وبهذا يصبح ضعيفا في ذاته. إنه يخضع إذن لما خلقه هو بنفسه، ويقوم بتجربة ذاته من خلال هذا الخضوع في شكل مستلب. يمكنني أن أمتلك الأيقونة، لأنها شيء ما، لكنها هي التي تتملكني بسبب خضوعي لها، قد تعبد الأيقونة كإله رحيم، لكن المرء يمارس كل قسوة باسمه. يعد الإيمان في نمط الحياة الامتلاكي، “العكاز” لكل الذين يبحثون عن اليقين ويرغبون في العثور على معنى ما للحياة، من دون أن تكون لهم شجاعة البحث عن هذا “العكاز” باستقلال.

يعد الإيمان ظاهرة مغايرة تماما في نمط الحياة الوجودي، فهو ليس اعتقادا في أفكار معينة في المقام الأول، على الرغم من أن الأمر قد يكون هكذا؛ لكنه توجه داخلي. إنه موقف وتصور. من الأفضل القول: إن المرء في الإيمان عوض القول إن للمرء إيمانا ما، يكون هذا النوع من الإيمان مضمونا عن طريق التجربة الداخلية وهو بهذا عملية نشيطة ومستدامة للإبداع الذاتي، أو كما قال المايستر إكهارت: يولد المسيح أزليا فينا.

وجه إريك فروم نقدا حادا للمجتمع الموجه نحو الربح باعتباره أساس نمط الحياة الإمتلاكي، فبينما نعيش في مجتمع يتأسس على ركاز ثلاث: الملكية الخاصة والربح والسلطة، فالاقتناء والامتلاك والربح من الحقوق المقدسة للفرد في المجتمع الصناعي، والمبدأ الشائع في هذا المجال هو “ليس من حق أي كان أن يسألني أين وكيف حصلت على ما أملكه أو ماذا أعمل به. إن حقي في هذا الإطار غير محدود ومطلق، ما دمت لا أقوم بشيء ضد القانون”.

إن أهم موضوع للشعور بالامتلاك هو الأنا الذاتي. ويتضمن هذا الأنا الكثير من الأشياء: جسدنا، اسمنا، وضعنا الاجتماعي، ممتلكاتنا (بما في ذلك معرفتنا)، الصورة التي نحملها عن أنفسنا وتلك التي نعطيها عن أنفسنا للآخرين، والجوهري في هذا كله كوننا نشعر بأننا كشيء نمتلكه وكون هذا الشيء أساس معاشنا لهويتنا، فباشتراء سيارة مثلا أشتري كذلك بالضرورة جزءا جديدا من أناي.

للإنسان اليوم شعور امتلاكي تجاه الآخرين: الطبيب، المحامي، رئيس العمل، العامل …وسبب هذا الأمر أن الناس يميلون إلى الحديث عن طبيبهم..عاملهم، وهناك عدد لا يحصى من الأشياء التي تعاش كملك؛ كالصحة والمرض مثلا. فعندما يتحدث البشر عن صحتهم مثلا، يقومون بذلك بشعور المالك، يتحدثون عن مرضهم، عملياتهم الجراحية، علاجهم، تخفيف وزنهم، أدويتهم. من الواضح إذن أن المرء يشعر بالصحة والمرض كملك، ويعد النقص في الصحة كذلك من الأوضاع الامتلاكية، تماما كأسهم مضارب ما خسرت جزءا من قيمتها.

لا يوجد في نمط الحياة الامتلاكي أي علاقة حيوية بيني وبين ما أملكه، ذلك أن الهو والأنا أصبحا أشياء، وأنا أملك الهو، لأن لي الامكانية لاقتنائه. لكن العلاقة المعكوسة موجودة كذلك: إن الهو يتملكني، لأن الشعور بهويتي وصحتي النفسية متوقفان على امتلاكي للهو وعلى أكبر قدر ممكن من الأشياء. من هنا فقط نمط الحياة الامتلاكي ليس نتاج سيرورة حيوية ومنتجة بين الذات والموضوع. إنه يحول الذات والموضوع إلى أشياء، والعلاقة بينهما ميتة.

على عكس نمط الحياة الامتلاكي، تحضر تلك العلاقة الحيوية في نمط الحياة الوجودي، فهذا الأخير يحضر كلما تقلص الأول، وقد يكون أحسن وصف له هو ما اقترحه “ماكس هونتينكر” على إيريك فروم: حين يسقط الضوء على زجاج أزرق، فإننا نرى لون الضوء أزرق كذلك، لأنه يتملص من كل الألوان الأخرى، باستثناء اللون الأزرق نفسه، أي أنه لا يسمح للألوان الأخرى بالمرور من خلاله. نَصِف هذا الزجاج بالأزرق، لأنه لا يحتجز الموجات الزرقاء، أي أنه لا يعرف بما يملكه، بل بما يعطي/ينتج. من هنا يمكن التأكيد بأن نمط الحياة الوجودي لا ينمو إلا بقدر ما يتقلص نظيره الامتلاكي، والذي يعد لاوجوديا، أي الكف عن التمسك بأمننا وهويتنا الملتصقين بما نملكه.

يسمح ما سبق بالقول بأن كلا التوجهين حاضران عند الإنسان: توجه الامتلاك، يعني القوة التي توجد بفضل الرغبة البيولوجية في البقاء. وتوجه الوجود، يعني الاستعداد في الاقتسام والعطاء والتضحية التي توجد بفضل الشروط الخاصة للوجود الإنساني، وبالخصوص الرغبة في الاتحاد مع وبالآخرين لتجاوز الإقصاء الذاتي. وبما أن كلا التوجهين المتناقضين موجودان في كل إنسان، فإن النتيجة تتمثل في كون أساس المجتمع وقيمه وأخلاقه هي التي تحدد أي توجه سيسيطر فيه.

علينا إذن أن نحسم في نمط الوجود الذي نريده، هل نريد نمطا وجوديا يتصالح فيه الإنسان مع ذاته ويعود إليها، أم نمطا امتلاكيا أساسه الاستلاب:

يحق لنا أن نتساءل: من أكون إذا كان الذي أملكه هو ذاتي (أنا) وفقدت ما أملكه؟ سوف لن أكون شيئا آخر مهزوم، مكسّر، إنسان يستحق الشفقة، وشاهد على طريقة حياة خاطئة. وبما أنه من الممكن أن أخسر/ أفقد ما أملكه، فإن الهم يدخلني باستمرار بطبيعة الحال، خوفا من فقدان ما أملك. أخشى اللصوص والتغيرات الاقتصادية والثورات والمرض والموت وأخاف أن أحب وأهاب الحرية والتغير والمجهول. وهكذا أعيش في قلق دائم وأعاني من وسواس مرضي مزمن، أصبح مدافعا قاسيا عديم الثقة، وحيدا مدفوعا بالرغبة في مزيد من الامتلاك.

في نمط الحياة الوجودي؛ لاوجود للخوف وعدم الأمان المرتبطان بالخوف من خسارة كل شيء. فإذا كنت أنا أنا وليس ما أملكه، فلا يستطيع أي كان سرقتي أو تهديد أمني وشعوري بهويتي. يوجد مركزي فيّ أنا بذاتي، وتعد القدرة على الوجود والتعبير عن قوتي الذاتية جزءا من أساس طبيعي وتتوقف هذه القوة عليّ أنا بذاتي. (وينطبق هذا بطبيعة الحال على أوضاع الحياة العادية وليس على الأوضاع القصوى كالمرض المصطحب بآلام لا تطاق أو بالتعذيب وحالات أخرى، حيث تنزع من غالبية البشر قدرتهم على الوجود).

يجد المرء أحسن مثال للفرحة من دون الرغبة في الامتلاك في العلاقات التي تربط بين الناس. يتحاب رجل وامرأة لأسباب كثيرة: ذوقهما، أفكارهما..مزاجهما. ولا تستيقظ الرغبة في امتلاك الآخر جنسيا إلا عند ذوي الوجه الامتلاكي، أما عند الذين تطغى عندهم طريقة حياة وجودية فإنهم يستمتعون بوجود رجل أو امرأة في حياتهم من دون التفكير في امتلاكهم.

يرغب الناس الموجهون امتلاكيا في امتلاك الناس الذين يحبون، ويمكن للمرء ملاحظة هذا الأمر في علاقة الوالدين بالطفل والمدرسين والتلاميذ والأصدقاء فيما بينهم. يرغب كل جانب في أن يكون الجانب الآخر له وحده، ولهذا السبب يغار من الآخر، أي ذلك الذي لديه رغبة أيضا في امتلاك ذلك الشخص. وهذا النوع من العلاقات الموجهة امتلاكيا تكون محزنة وتثقل الكاهل ومليئة بالغيرة والصراعات. ويمكن القول بصفة عامة بأن العلاقة بين البشر، عندما تكون محكومة بتوجه امتلاكي تكون مطبوعة بالمنافسة والتضاد والخوف. ويكمن عنصر التضاد ي مثل هذه العلاقة في خاصية الامتلاك نفسه.

في نمط الحياة الوجودي لا أهمية كبيرة للملكية الخاصة، فلا أحتاج امتلاك شيئ ما لكي أتمتع به. يمكن لأكثر من شخص بل لملايين من الناس الفرحة باستعمال شيء دون ضرورة امتلاكه من طرف شخص واحد، ولا يجنب هذا الأمر الخصام حقيقة، لكنه يمكّن من تقاسم أعمق معاش إنساني للسعادة، يعني تقاسم فرحة ما. ليس هناك شيء آخر أنجع في تلحيم البشر (من دون أن يفقدوا فردانيتهم) أكثر من تبادل الحب والإعجاب فيما بينهم أو عندما يشعرون بأنهم متحدون بسبب فكرة أو قطعة موسيقية أو لوحة فنية أو ممارسة طقس من الطقوس معا أو حتى تقاسم حزن معين. ويجعل هذا المعاش العلاقة بين الناس أكثر دفئا وحيوية، وهو أساس كل الحركات الدينية والسياسية والفلسفية الكبيرة.

قد يظهر للمرء إمكانية التحرر من التبعية لما يملكه، وبالتالي التحرر من الخوف من فقدان ما يملكه، ولكن أيصح هذا أيضا على الخوف من فقدان الحياة، الخوف من الموت؟ ليس هناك إلا طريق واحد لتجاوز هذا الخوف. وقد علّمنا بوذا والمسيح والرواقيون والمايستر إيكهارت هذا الطريق: عدم التعلق/ التشبث بالحياة واعتبارها ملكا خاصا. إن الخوف من الموت ليس كما يظهر: الخوف من عدم استمرار الحياة. لا يخاف الإنسان من الموت بل يخاف أن يفقد ما يملكه: جسده، أناه، ممتلكاته، هويته، اللاهوية، الضياع. إن تعلم الموت هو في الواقع كتعلم للحياة. فكلما تحرر المرء من ضغط الامتلاك في أشكاله كافة، وبالخصوص في ارتباطه بأناه، كان الخوف من الموت ضئيلا، لأن المرء ليس له أي شيء يخاف أن يفقده.

ذهب إيريك فروم في نقده لخصائص المجتمع الحديث إلى حد اعتبار الأمر يتعلق بدين جديد، دين سرّي وراء الواجهة المسيحية، إنه “الدين الصناعي” الذي يمد جذوره في بنية طبع المجتمع الحديث حتى وإن لم يكن معترفا به كدين. يتعارض الدين الصناعي مع المسيحية الحقة. إنه يختزل الإنسان في مجرد خادم للاقتصاد والآلات التي صنعها بيده، ويتأسس هذا الدين الصناعي الجديد على طبع مجتمعي جديد، تمثل نواته في العناصر التالية: الخوف من سلطة الرجل والخضوع لها، التربية على عذاب الضمير في حالة العصيان، حل رابطة التضامن الإنساني عن طريق سيادة المصلحة الخاصة. ما أصبح مقدسا في الدين الصناعي هو: العمل، الامتلاك، الربح، السلطة، على الرغم من أن هذا الدين الجديد يشجع كذلك في مبادئه العامة الفردانية والحرية الشخصية.

لقد أصبح الفرد يعيش ذاته كبضاعة ولا يرى قيمته ك”قيمة استعمال” بل كقيمة تبادل، أصبح بضاعة في سوق الشخصية، وصار مبدأ تقويم البشر مبدأ تقويم البضائع، مع فرق وحيد يكمن في كون الأول يعرض للبيع “شخصية” والثاني يقترح بضائع للبيع. ما هو حاسم في الحالتين معا هو قيمة التبادل. والنجاح هنا صار متوقفا إلى حد كبير على الطريقة التي يعرض المرء نفسه بها في السوق.

كل ما سبق، حمل إيريك فروم على الدعوة إلى إنسان جديد ومجتمع جديد بأسس جديدة، تتمثل وظيفة المجتمع الجديد في المساعدة على قيام الإنسان الذي تقدم بنية طبعه القسمات التالية:

الاستعداد للتخلي عن أشكال الامتلاك كلها.

يتأسس الأمن والوعي بالهوية والثقة في النفس على الإيمان في ماهو المرء، وعلى الحاجة إلى الوجود في علاقة مع المحيط ومنح هذا المحيط الاهتمام والحب والتضامن، عوض الرغبة في الامتلاك والسيطرة على العالم والسقوط بهذه الطريقة في عبودية ما يملكه المرء.

الوصول إلى الفرحة عن طريق المنح والاقتسام وليس عن طريق الادخار واستغلال الآخرين.

حب الحياة واحترامها في كل تمظهراتها .

السعي إلى تقليص الجشع والكراهية والأوهام إلى أقصى حد.

السعي إلى تطوير القدرة على الحب والتفكير النقدي غير العاطفي.

القدرة على تجاوز النرجسية الذاتية وقبول المحدودية المأساوية للوجود الإنساني.

معرفة كون تحقيق الهدف يستوجب الاعتراف بالواقع.

معرفة كون التطور لا يكون صحيا إلا إذا تحقق في بنية ما، والتمييز بين “البنية” كصفة للحياة و “النظام” كصفة للموت ضروري هنا.

تطوير الخيال الشخصي، ليس كملجأ ضد الشروط التي لا تطاق فحسب، بل لتصور إمكانات واقعية.

عدم خداع الآخرين وعدم ترك الذات تخدع من طرف الآخرين، قد يكون الإنسان صاحب نية حسنة، ولكن يجب ألا يطون ساذجا.

الإحساس بالاتحاد مع كل ما هو حي، وبالتالي الاستغناء عن هدف استغلال الطبيعة وتطويعها واغتصابها والقضاء عليها، ومحاولة فهمها والتعاون معها.

فهم كون الحرية ليست اعتباطية، بل فرصة ليكون المرء ذاته، ليس كحزمة من الشهوات اللانهائية، بل كبنية متوازنة تكون في كل لحظة في مواجهة مع بدائل النمو أو الانتهاء، الحياة أو الموت.

التساؤل عن الكيفية التي يمكن بها المحافظة على طريقة الإنتاج الصناعي، من دون الوقوع في المركزية المطلقة، يعني في الفاشية القديمة أو من المرجح في “فاشية تقنوقراطية بوجه مبتسم”.

يجب ربط الإطار التنظيمي العام للاقتصاد، شرط الاستغناء عن “اقتصاد السوق الحر” الذي أصبح بمنزلة خيال – بمستوى عال من اللامركزية.

يجب مغادرة هدف النمو الاقتصادي اللامحدود وتعويضه بنمو منتقى/ مختار، من دون مغامرة السقوط في كارثة اقتصادية.

لابد من توفير شروط شغل جديدة وتصور مغاير تماما للشغل، بحيث لا يكون الربح المادي أهم شيء، بل تفعيل إشباعات نفسية أخرى للتحفيز.

يجب تشجيع التقدم العلمي وفي نفس الوقت التأكد من أن تطبيقه الفعلي الواقعي لن يكون خطرا على البشر.

من الضروري خلق شروط تسمح للناس بالشعور بالراحة والإحساس بالسعادة والتحرر من التبعية المرضية لدفع “المتعة” إلى أقصى درجاتها.

من الضروري ضمان سبل عيش كل فرد، من دون جعل الفرد تابعا للبيروقراطية.

لا يمكن التنبؤ بما إذا كنا سننجح في إعادة توجيه جديد للقضاء على سيادة العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية. وإذا نجحنا في ذلك، فمن المحتمل أن يكون عندنا حظ للاستمرار في الحياة، شرط أن يشعر رجال ونساء كثيرون منضبطون وملتزمون، بالتحدي الجديد للروح الإنسانية، وعن طريق واقعة كون الهدف هذه المرة لن يكون هو السيادة على الطبيعة، بل السيادة على التقنية وعلى القوى المجتمعية والمؤسسات اللاعقلية التي تهدد المجتمع الإنساني. إننا في حاجة – بعد أكثر من ثلاثة قرون ونصف – إلى نوع جديد مغاير من العلم الذي وضع لبناته الأولى “فيكو” في القرن الثامن عشر. إننا في حاجة إلى علم إنساني ذي نزعة إنسانية كأساس للعلم التطبيقي وفن إعادة تنظيم المجتمع.

‫تعليقات الزوار

5
  • citizen
    الأحد 16 فبراير 2020 - 11:56

    لقد طغى الامتلاك في حياتنا اايومية كثيرا صرنا عبيدا لأشياء صنعناها بأنفسنا، الأمر لا يختلف كثيرا عن عبادة الأوثان التي صنعها الناس في الجاهلية وعبدوها..كتاب رائع شكرا على هذا التقديم الوافي وشمرا للمترجم حميد لشهب

  • قارئ لفروم
    الأحد 16 فبراير 2020 - 13:49

    قرأت الترجمتين معا بحكم اشتغالي على فكر فروم، وأستطيع الجزم بكون هذه الترجمة لا تقارن بسالفتها، لأن حميد لشهب ترجم عن الأصل الألماني وليس عن الإنجليزي مثلما فعل سابقه وهذا يعطي الكتاب قيمة أكثر. أضف إلى ذلك التدقيق والمسؤولية في الوقوف على معاني المفاهيم قبل تعريبها.

  • ahmed
    الأحد 16 فبراير 2020 - 14:17

    إيريك فرم كان سوسيولوجيا وسيكولوجيا بارعا، ما أحوجنا إلى جمع هذين التخصصين، فالانسان لا يمكن أن يؤخذ إلا في شموليته خصوصا هذين (البعدين النفسي والاجتماعي) وهنا تكمن بالذات وجاهة تحليل إيريك فروم، لقد قام بتحليل نفسي للمجتمع، ونجح في كشف التناقضات المجتمعية وكتابه هذا أفضل شاهد على براعة تحليله. شكرا للكاتب والمترجم ولهيسبريس

  • بوعبيد
    الأحد 16 فبراير 2020 - 15:02

    من لا يشكر الناس لا يشكر الله. أتقدم بالشكر الجزيل للمترجم حميد لشهب الذي يشتغل في صمت دون بهرجة، ترجم لكبار الفلاسفة الألمان من اللغة التي كتبوا بها، وفاز مؤخرا بجائزة كيراردو الفخرية من اسبانيا، فضلا عن هذا فقد فاز كأول عربي بجائزة مؤسسة إيريك فروم العالمية نظيرا لما قدمه من خدمة نقل الفكر الفرومي للعربية.

  • hanan
    الأحد 16 فبراير 2020 - 15:37

    To Have Or to Be? is one of the seminal books of the second half of the 20th century. Nothing less than a manifesto for a new social and psychological revolution to save our threatened planet, this book is a summary of the penetrating thought of Eric Fromm. His thesis is that two modes of existence struggle for the spirit of humankind: the having mode, which concentrates on material possessions, power, and aggression, and is the basis of the universal evils of greed, envy, and violence; and the being mode, which is based on love, the pleasure of sharing, and in productive activity. To Have Or to Be? is a brilliant program for socioeconomic change

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال