نحن والتسامح!

نحن والتسامح!
الجمعة 27 نونبر 2020 - 12:14

التسامح ممارسة مجتمعية وفردية محققة للتآخي الإنساني والمشترك الكوني؛ فهي محطة عابرة بالمجتمع والأفراد نحو إيجاد مساحات وعناصر مشتركة، قادرة على تجاوز الخلافات العقدية والمذهبية، نحو تحقيق قيم التعايش المشترك، والنظر إلى الإنسان كإنسان دون البحث عن خلفياته الدينية والعقدية والعرقية، فهي قيمة تتجاوز المعطى الديني كمحدد في بناء العلاقة مع الآخر، إلى المعطى الإنساني المشترك التي يوحد البشرية جمعاء، بغض النظر عن انتماءاتها الدينية والثقافية.

القصد، هنا، أن ممارسة التسامح والتعايش مع الآخر، سواء من الناحية السيكولوجية الفردية أو السوسيولوجية المجتمعية، لا يجب أن تبنى على خلفيات متعصبة للعقيدة الدينية؛ فاعتقاد “الكمال العقدي” وتملك “الحقيقة الدينية المطلقة” و”الطهرانية الإيمانية”، هي عناصر معززة للإيمان الفردي، لكنها أيضا مشكلة للتنافر الإنساني ومحققة للتطرف والتعصب الديني، لأنها تنظر لبقية العقائد الدينية، نظرة احتقار ودونية، باعتبارها عقائد “محرفة وضالة” ليس أمام أصحابها من حل سوى التحول الديني طلبا “لنجاة الروح” و”خلاصها الأخروي”.

أكيد أن المعطى التراثي والتيارات الدينية السلفية منها والحركية/ السياسية لعبت أدوارا دالة في تعزيز قوة هذا الطرح الإيديولوجي للدين، عبر تحديد العلاقة العقدية مع الآخر المختلف دينيا، ووضع عناصر مشكلة للاتسامح الديني، من خلال إغلاق منافذ الحوار والاعتراف بالآخر، واعتبار أن الاختلاف قيمة سلبية مؤسسة للانقسام والتناحر، بل ومهددة لفكرة “الجماعة”، والتي يفترض منها “توحيد الصف” و”إعلاء كلمة الدين” و”تحقيق الإجماع”؛ وهو ما يشكل سلوكا إقصائيا مشكلا “للتعالي الديني” و”المركزية العقدية”، والنظر “بدونية” لبقية العقائد.

هذه الحالة الموقفية في بناء التمثل الديني نحو الآخر هي من أسست العداء لمفاهيم من قبيل الحرية والتسامح والمواطنة والتعايش وغيرها، باعتبارها مفاهيم دخيلة على المعطى التراثي الديني، الذي وبحسب الفهوم المتعصبة، قد حدد وبشكل واضح قواعد ضبط علاقة المسلم مع غير المسلم؛ ما جعل إطلاق الأحكام الشرعية والدينية ممارسة يومية وروتينية لملايين الناس، الذين احتلوا “المكانة الإلهية” في ممارسة الرقابة العقدية والوعيد بالعقاب الدنيوي والأخروي، ثم تحديد من تجوز عليه الرحمة أو اللعنة أو من هو الكافر والمؤمن، في إعادة ممسرحة “لصكوك الغفران البشري”.

احتلال هذه “المكانة الإلهية” نلحظها بشكل متجدد في أوساطنا المجتمعية، تتكرر ضمن حياتنا اليومية حتى صرنا أكثر تطبيعا معها، وما حادثة وفاة نجم كرة القدم الأرجنتيني دييغو مارادونا ببعيدة عنا؛ ففي اللحظة التي تمتزج فيه المشاعر الإنسانية بالحزن والمواساة والدعوة بالرحمة، تنطلق جيوش حراس المعبد الوهميون بـ”صكوك غفرانهم البشرية”، لصد أية دعوة بالرحمة على الرجل، مستدلين بعشرات الآيات والأحاديث وأقوال الفقهاء والعلماء، {لا أبدا لا يجوز الترحم على غير المسلم !!}، في مشهد سوريالي يدعو إلى الدهشة والصدمة معا !.

هذه الممارسات اللامتسامحة تسائل مجتمعاتنا وبقوة عن مكانة التسامح الديني ضمنها، هل تتوقف فقط على اجتهادات الفرد في ابداء قيمة التسامح مع الآخر المختلف؟، أم هي تحتاج إلى نهضة بنيوية، بتدخل الفاعل الرسمي لأن يتم موقعتها ضمن البناء التربوي للفرد داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي يمكن للدولة التدخل فيها على الأقل، ونقصد تحديدا المدرسة ومؤسسات الإعلام، عبر إدراج نصوص تربوية وبرامج تلفزيونية داعية إلى التسامح والعيش المشترك، ومؤسسة لانسلاخ ومفاصلة فكرية وإيديولوجية مع التعصب والتطرف، وداعية إلى ارتقاء إنسي قائم على التآخي والحرية والتعدد والمشترك الكوني.

أكيد أن الجهد الرسمي سينعكس وبشكل ملحوظ على الأفراد، خاصة الناشئة التي لا تزال مستهدفة بمؤسسات التنشئة الاجتماعية، وربما تكون مستقبل هذه الأمة التي صارت أكثر معيرة للحياة اليومية باستنادها على “عقل أرثودكسي” معاد للآخر المختلف، بل ويعيش ضمن مفارقة تمزج بين المعطى الحداثي في تحقيق التعايش الاقتصادي والمؤسساتي والتكنولوجي والفني والسينمائي، ومعطى ديني أرثوذكسي يرفض تحقيق التعايش الديني وتقبل الاختلاف العقدي. وهي مفارقة ناتجة عن التحولات الاجتماعية والثقافية السريعة التي يعيشها عالم ما بعد الحداثة، والتي وإن استطاعت خلق تحول بنيوي في مجالات متعددة، إلا أنها لم تتمكن بعد من أن تمس البنية الدينية والعقدية التي ظلت ممسكة بحنين الماضي واسترجاع “أمجاد المسلمين”.

لا بد، إذن، أن تسود قناعة اليوم بأن زمن الحروب الدينية والعقدية والمذهبية قد ولى، وأن الصراع قائم على العلم والاختراع والتفوق التكنولوجي وخلق الفرص الاستثمارية والتطوير الاقتصادي، وهو عالم يحتاج إلى تراكم علمي إنساني، وجهد بشري متكامل؛ وهو ما لا يمكن تحقيقه بأدلوجات التطرف والتعصب واللاتسامح الديني، والتي صارت عائقا أمام الإنسانية جمعاء، ومغديا للعنف والممارسات الإرهابية.

يقول فرانك بورمان، رائد الفضاء الأمريكي من أصل ألماني: “حين تصل، أخيراً، إلى القمر وتنظر إلى الأرض.. كل هذه الاختلافات والسّمات القومية ستندمج بشكل جيد، وستفهم المبدأ أن هذا لربّما عالم واحد بالفعل، وستتساءل: لماذا بحق الجحيم لا نستطيع أن نتعلّم التعايش معاَ كأُناس محترمين؟!”.

*كاتب وباحث في علم الاجتماع

[email protected]

‫تعليقات الزوار

12
  • منصوري
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 17:05

    مقال ممتاز جدا وتحليل منطقي لمتطلبات المرحلة الحالية من تاريخ الشعوب في تدبير الاختلاف وتثمين التنوع وإلزامية العيش المشترك القائم على مبدإ المواطنة بمعاييرها العالمية المعاصرة.
    كل الشكر والتقدير لك أستاذ قنفودي !

  • Lamya
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 17:20

    المغرب له قاعدة و ارضية خصبة لنشر التسامح الديني ليس في المغرب فقط و انما في الخارج ايضا, لان مرجعيته الدينية تؤمن بالتعدد و الاختلاف, فالله هو مدبر الامر و هو الحكم العدل, اما الانسان فهو مغرور و ظالم لنفسه و جاهل بتحمله مسؤولية الامانة ابت السماوات و الارض ان يحملنها.

    يقول الله تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب / 72

    و يقول تعالى ايضا: ..لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة

  • Lamya
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 17:56

    بالنسبة لي الله سبحانه لا يغير كلماته, انت الذي تفهم القران بهذا الشكل. يعني ان الاختلاف هو مشيئة الله و ارادته و الهداية و العقاب و الحساب شان من شؤونه, و هذه الامور تخص الله وحده و لا تدخل في اطار الحرية, كما يدعي المتطرفون, ان الحكم على الناس يدخل في اطار حرية التعبير و حرية المعتقد فيسبون الناس و يلعنونهم لاعتقادهم انهم من اصحاب النار.

  • kader
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 18:58

    إذا صرحت بإلحادك، فأقرب الناس إليك سيطبقون عليك الحد…أما إذا صرحت به في الشارع فقد حكمت على نفسك بالإعدام…

  • Amaghrabi
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 20:06

    يحكى انه حتى الشباب في مرحلة من المراحل الاسلامية كانوا يتسلون بمبدأ الردة بحيث الحديث الصحيح عند اهل السنة يقول"من بدل دينه فاقتلوه",وكان الشباب فيما مضى اذا مر عليهم يهودي او كان من اصدقائهم يشاركهم في العابهم وافعالهم ولكن اذا ارادوا ان يسخروا منهم تعاونوا عليه وسقطوه ارضا وخنقوه ويطلبون منه ان ينطق بالشهادة ولا يتخلون عنه حتى ينطق بالشهادتين ويقولون له في الاخير انت مسلم الان واذا عدت الى يهوديتك طبقنا عليك حكم الردة,واعتقد في نظري هذه القصة تبين انه حتى الاجيال البسيطة القديمة كانت واعية بخرافة حكم الردة وسذاجته

  • محمد
    الجمعة 27 نونبر 2020 - 21:09

    إذا كان رأي الكاتب وجيها و صائبا، بما يكون رده إذا اتجاه الآية الكريمة التي تقول : وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ، صدق الله العظيم.
    هل نصدق الكاتب ام نتبع الآية الكريمة.
    نرجوا إجابة شافية وافية بإذن الله، وجزاكم الله خيرا.

  • Mika
    السبت 28 نونبر 2020 - 08:03

    محمد, الضحوك القتال (كما جاء في كتب السنة) القدوة و المثل الأعلى للمسلمين لم يسامح لأربعة عشرة (منهم أربعة نساء) من من كتبوا فيه شعرا و لم يؤمنوا "بنبوته" في مكة، و امر بقتلهم بقوله للصحابة المبشرين بالجنة "اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة".
    فكيف يمكن الحديث عن التسامح في الاسلام!!
    و شكرًا

  • فريد
    السبت 28 نونبر 2020 - 09:23

    حان الوقت لِنُخْرِجَ الدين من الحياة العامة ونُقيم دولة القانون تجعل تفكير وتصرف كل مواطن مرجعه قانون البلاد،أي علينا إخراج المواطن من عقلية الحلال والحرام،وأنني سأُحاسب عند الله ،والله إيسامح وغيرهم من الخزعبلات،علينا أن نعلم المواطن أننا مجتمع مبني على قواعد وكل من تجاوزها لا مكان له فيه ويعاقب على مخالفتها، مجتمعنا يتسامح مع كل المضرات ولكنه يحتقر من يتبع غير الإسلام:يتسامح مع بيع ولد فاطنة للمخدرات لأبناء دربه ويتعلل بأن فاطنة(الله إعمرها دار وولدها الله إهديه)يتسامح مع إغتصاب النساء بعلة لماذا خرجت من المنزل(ثقافة كل إمرأة خرجت من الحصن فهي مُعَرَّضة للسبي والإغتصاب) يتبع

  • فريد
    السبت 28 نونبر 2020 - 09:38

    تابع…
    مجتمعنا مبني على إسلام جُله تقاليد عرب الجاهلية،يعيش في تناقض:نتحدث عن مجتمع إسلامي ولكن نقبل بكل أنواع الدعارة والبيدوفيليا ونستمتع بجميع "المحرمات"،لا نشرب الخمر في رمضان ولكننا نعوضه بالمخدرات الصلبة،بمائة درهم يُمكن شراء شاهد زور…لقد أصبحنا همجا كما كان المغول أو التتار والهمج لايتعايش،يفرض أو يُفرض عليه،فكيف لبشر لايعرف لماذا وُجِدَ على هاته الأرض أن يعرف معنى قبول الآخر المختلف عقائديا أو ثقافيا،حضاريا لم يعد لدينا مانعطيه لقد توقفنا و نحاول الرجوع إلى شيء لم يعد له وجود،رجعنا إلى الوهم وبنينا عليه حياتنا اليومية رغم كل التناقضات،ولازلنا نتمسك به:وهمنا هو دولة إسلامية يُقام فيها الحد على الآخرين،يُعاقب الآخرين،يُحاسب الآخرين…متناسين أن الآخرين هم نحن.التسامح الديني في المغرب خرافة فمادا ستكون ردة فعل سكان حي شعبي مسلم بمُطالبة مهاجرين أفارقة يسكنون نفس الحي ببناء كنيسة؟

  • المهدي
    السبت 28 نونبر 2020 - 09:43

    بإمكانك ان تُمارس وتهجر بكل المحرّمات التي تعكس عدم تديّنك وإيمانك فترتاد الحانات وتمشي في الشارع وانت تترنّح وتسعى للزنى ولا أحد يعترض سبيلك فأنت بالنسبة لهم مسلم .. وعكس ذلك قد تلتزم بالعادات الجيدة التي أتى بها الاسلام فلا تقرب خمراً ولا زنى ولا كبائر لكن ان جهرت بإلحادك فالويل لك .. ما هذا وأي شيزوفرينية أكثر من هذه ؟

  • التسامح السلبي
    السبت 28 نونبر 2020 - 18:38

    كلما صادفت نصا حول التسامح إلا و أجد مؤلفه قد اختار جبهته عن رضى، فيشحد أسئلحته الفتاكة معينا بنارها مرمى دقيقا لا محيد عنه، و هو الدين الإسلامي و متعلقاته العقدية و القيمية و المجتمعية … و الأدهى تجده من أبنائه الأغرار، الذين سحرتهم الحداثة و ما بعدها، و ألهمتهم الفلسفة الإغريقية ببعديها النفسي و الاجتماعي، و سحرته المركزية الغربية الاوروأمريكية … ماذا لو غيرنا زاوية النظر ؟! و أنزلنا المفهوم و المنهج على ذاك النموذج المحتفى بتسامحه و تعايش أفراده و ديمقراطية مؤسساته، و حداثة نصوصه … هل ستتجرأ و تكتب بالحمية نفسها ؟! و صور الإعلام فاضحة للادعاءات و التخرصات

  • Hassan
    السبت 28 نونبر 2020 - 20:46

    من الأقوال المأثورة :" التسامح رحمة " و " المتسامح كريم " و الإيمان بجميع الرسل و جميع الكتب و الصحف السماوية من أركان الإيمان . و الله خلقنا شعوبا و قبائل لنتعارف و التعارف سبيل إلى التراحم و التسامح . الله وحده من يحاسب عبده و لا نعرف من السعيد و من الشقي .

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات