مراسلة بوريطة: الأبعاد السياسية

مراسلة بوريطة: الأبعاد السياسية
صورة: أرشيف
الخميس 4 مارس 2021 - 20:38

القراءة السياسية للقرار المغربي الأخير المفاجئ بتعليق الاتصال مع السفارة الألمانية بالرباط والمنظمات المرتبطة بها، ليست في حاجة إلى التركيز الطويل على الأسباب المحتملة “الحقيقية” الكامنة وراء الخطوة المغربية، على نحو ما بزر بمجموعة من التخمينات والتقارير التي ما فتئت تبحث عنها، وليس ذلك لأنه يجب تخمين هذه الأسباب نظرا إلى قلة المعلومات الرسمية المتاحة حول الموضوع، بل أساسا لأن السياسة هي نفسها غالبا ما تكون عبارة عن رهان في الفراغ غير مضمون النتائج إلى حد بعيد.

إذا لم تُستحضر هذه الفكرة الأخيرة حول السياسة، لن يكون حتى من الممكن فهم واستيعاب التطورات السابقة في ملف القضية الوطنية؛ سواء فيما تعلق بانتزاع الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء وسيادته مقابل إعادة العلاقات مع دولة إسرائيل، باعتباره إقداما “سياسيا” جريئا ومغامرا في ضوء الشروط القائمة، أو فهم وتحليل وظيفة بروباغندا الأطراف الأخرى وإنزالاتها على صعيد الخطاب العام وبلاغاتها الوهمية، وذلك بوصفها فعليا محاولات جدية لاحتكار معنى وسردية ما يجري على الأٍرض وسيرورة النزاع على نحو يخالف وجهة نظر وموقف المغرب.

من هذا المنطلق، فإن تعليق الاتصال مع السفارة الألمانية بالرباط، من خلال الطريقة المثيرة للجدل الذي تم بها (بعيدا عن الأعراف)، إذا نظر إليه من الزاوية التحليلية المذكورة، هو في الحقيقة رسالة قوية إلى فرنسا بالدرجة أولى، وإسبانيا بالدرجة ثانية، مفادها أن الوقت قد حان للانتقال إلى مرحلة أخرى بقضية الصحراء يكون عنوانها البارز هو تكريس وتأكيد الواقع القائم بها بعد الاعتراف الأمريكي. فلئن كان المغرب قد أقدم على خطوة تعليق الاتصال مع سفارة الدولة التي تعتبر مركز الثقل الأساسي في الاتحاد الأوروبي، بالرغم من المصالح الكبيرة بين البلدين بما فيها التعاون المالي والاقتصادي، ما يعني أن منسوب الخطورة في مثل هذه الخطوات لا يمكن إلا إن يكون مرتفعا، فإن بقاء فرنسا على صمتها إزاء التطورات الأخيرة في قضية الصحراء، واستمرار إسبانيا على موقفها التقليدي في نفس القضية أيضا، لا بد وأن يجعل من استقرار العلاقات مع هاتين الدولتين مسألة معقدة على نحو واسع جدا، الأمر الذي قد يفضي بالمغرب إلى تغيير جذري في التعامل معهما.

من الواضح أن لألمانيا رؤيتها الخاصة للأوضاع بالمغرب، حقوقيا وسياسيا، ويتبدى ذلك بجلاء في التقارير الصادرة عن المؤسسات الإعلامية الألمانية إزاء المغرب المتعلقة أساسا بواقع الصحافة والحريات الفردية، علاوة على قضية الصحراء. ويمكن أن نضيف كذلك، النشاط الأكاديمي البارز والمحترم الذي تقوم به المنظمات السياسية الألمانية في الرباط من خلال الندوات والتكوينات وإصدار الكتب والتقارير. بناء عليه، فإن تعليق الاتصال بالسفارة الألمانية بالشكل الذي جرى به، وباعتبار أنه نابع ظاهريا بسبب ومن أجل هذه العناصر، فهو أيضا يعكس حقيقة تعبيرا دقيقا ومتناسبا عن الاستياء وعدم التسليم التام بهذه الرؤية الألمانية الخاصة. إن تعليق الاتصال بالتالي هو قرار مفكر فيه بعناية ويعكس جودة سياسية في صنع القرار وقدرا وافرا من الإتقان وعلو الرهان؛ حيث إن الرسالة فيه تمضي إلى أكثر من جهة، ولو كان الظاهر منها يفيد ألمانيا فقط. وبهذا المعنى، يمكن القول إن المغرب يأخذ بزمام السياسة للمضي في تكريس التطورات الأخيرة بقضية الصحراء وترصيدها وذلك في واقع معقد ومتغير. والحق أن المغرب لن يكون بمقدوره صرف ألمانيا عن رؤيتها الخاصة تجاهه ناهيك عن تغييرها، ولكن في نفس الوقت لم يعد من الممكن بالنسبة له البقاء على نفس الحال السابق عن تطورات الإقرار الأمريكي بسيادته على الأقاليم الجنوبية؛ إذ أن مستقبل الأمة ونموذجها التنموي المستقلبي يتوقفان إلى حد بعيد على طي صفحة نزاع الصحراء والتفرغ الفعلي لبناء مغرب الحداثة والديمقراطية و”الازدهار”.

إن الاعتراضات الدستورية والقانونية على طريقة تصريف قرار تعليق الاتصال مع السفارة الألمانية ومختلف المنظمات والهيئات التابعة للدولة الجرمانية، إذ نُظر إليها كتجاوز لموقع رئاسة الحكومة وتطاول على اختصاصاتها، وحتى ولو تدثّرت هذه الاعتراضات بلباس الحرص على “الديمقراطية” والانطلاق منها، إلا أنها بقدر ما تشي بتسرع في التحليل والتقدير، فهي أيضا تختلق عناصر تفكير ومواقف توجه النقاش في طريق خاطئ تماما، في نفس الوقت الذي تميل فيه إلى احتكار الديقراطية المغربية ذاتها و”اعتقالها” لصالح حزب بعينه أصبح من الواضح أنه يشكل حجرة عثرة أمام الضمانة الدستورية المتعلقة بالمسار والاختيار الديمقراطي.

الواقع أن مسألة تحريف سكة النقاش لا تعكس فقط خدمة أولويات سياسية دون غيرها، بل تتجاوز ذلك لتطال مستوى أعمق مرتبط بالنخب المكَوَّنة وبنية الإعلام. الحقيقة أن مواكبة الطموحات الاستراتيجية للدولة، على غرار ما تعكس التطورات الأخيرة، لم يعد من الممكن معها الاقتصار فقط على سيادة بنية إعلام محلية موجهة إلى تأطير الفئات الشعبية الأقل تعليما دون غيرها من الفئات. إن هذا العجز الفادح بات هو ما يفتح الباب أمام بروز مواقف وتموقعات لا تنتبه إلى مخالفتها للاختيارات الاستراتيجية الأساسية للدولة نظرا لاستهلاكها واطلاعها على مضامين السياسة وخطابتها انطلاقا من مصادر خارجية دون أن تتعاطى معها بمسافة نقدية كافية، ما يجعل أصحابها في غفلة عن المسارات السياسية الجارية حيث يسقطون غالبا في فخ السخرية. فالمسالة الأساسية هي أنه يبدو الوقت قد حان للتفكير في إحداث بنية إعلام برهانات خارجية من مستوى عال سواء في الصحافة المكتوبة أو السمعي البصري.

من جانب آخر، إذا كانت التحولات والتغييرات الأخيرة في قضية الصحراء المغربية، خصوصا بعد الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب الكاملة على أقاليمه في الجنوب، قد تمت في الوقت الذي كانت فيه الجزائر تعيش على وقع فراغ سياسي ممتد، فإن الخطوة المغربية بتعليق الاتصال مع السفارة الألمانية يمكن أن تفهم كذلك باعتبارها ضغطا على الجزائر للجلوس على طاولة التفاوض والتفاهم على “حل سياسي عادل ودائم”، من شأن استجابتها الإيجابية أن تخرجها من تخبطها وعزلتها الإقليمية التي توجد فيها منذ مدة طويلة.

ومهما يكن من أمر، وبغض النظر عن الموقف الجزائري، والشركاء الأوروبيين، فإن بحث وانتزاع تموقع جديد ضمن السياق الإقليمي القائم، وتحصين وتكريس المكتسبات، يقتضي من المغرب ضرورة التفكير في إرساء معالم المرحلة المقبلة إعلاميا وسياسيا وثقافيا؛ بما يعزز من الريادة الإقليمية للبلد والرفع من جاذبيته على مستويات الاستثمار والسياحة، بالإضافة إلى تعميق أواصر التبادل والتعاون مع المحيط الإفريقي.

وبشكل عام، من الثابت أن المكتسبات والانتصارات الأخيرة التي حققها المغرب في ملف وحدته الترابية، بدءا بعملية 13 نونبر، مرورا بتوالي افتتاح القنصليات، وصولا إلى الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية الكاملة على الأقاليم الجنوبية مقابل إعادة العلاقات مع دولة إسرائيل، وانتهاء أخيرا بخطوة تعليق الاتصال بالسفارة الألمانية بالرباط، تعتبر كلها تحولات نوعية بات من غير الممكن العودة إلى الوضع السابق عليها، لاسيما ونحن نتحدث عن سياق مغربي في مفترق طرق من بين ما يتطلبه قدرا من التعبئة الوطنية مرتبطة بالنموذج التنموي الجديد والتداعيات المدمرة لجائحة كورونا.

‫تعليقات الزوار

4
  • Amaghrabi
    الجمعة 5 مارس 2021 - 11:13

    وزيرنا المحترم السيد بوريطة هو الرجل المناسب في المكان المناسب وملكنا حفظه الله احسن الاختيار بحيث اصبح هذا الوزير يثلج صدور المغاربة ويقوم بعمله بتفان واتقان وملكنا راض عنه بكل تأكيد وجل المغاربة وانا منهم راضون على حركات هذا الوزير الرائع الذكي المتواضع الذي يتصرف بثقة كاملة وفي الوقت المناسب.فالحمد لله سياسة الدولة المغربية خارجيا سياسيا ودبلوماسيا وصلت الى اوج نجاحاتها التي ابهرت الصديق والعدو والحمد على كل حال

  • الطائر الحر
    الجمعة 5 مارس 2021 - 13:05

    السيد بوريطه وزير بكل المقاييس تحت القيادة الحكيمه للملك محمد السادس نصره الله على أعداءه. وتحليل قيم لهذا المقال شكرآ للكاتب

  • عبدالنور
    الجمعة 5 مارس 2021 - 13:13

    هدوء السيد بوريطة لن ينتج عنه مثل هكذا قرارات ” متسرعة”. يبدو ان القرار تم املاءه عليه من طرف جناح الصقور داخل ‘الحزب السري’ في المغرب و الذي بدا a commecé ينزعج من اتلاف المغاربة حول القضية الوطنية الاولى و رغبتهم في ايجاد حل للمشكل الذي شكل دوما المشجب الذي يعلق عليه كل تعثر ديموقراطي او تنموي.
    ‘الحزب السري’ الذي يسيطر على خيرات المغرب تاركا الفتات للمغاربة و الداعم للفساد السياسي و المالي يعمل جاهدا على ارجاع القضية الوطنية الى المربع الاول من اجل الحفاظ على الوصع القاءم statut quo.
    وعيا مني كمواطن مغربي قلبه على بلده ارى ان التحديات العصيبة التي يمر منها المغرب تتطلب الكثير من نكران الذات و الابتعاد عن النظرة الحقيرة التي ترى في المغرب مجرد صناديق سوداء تنهبها العصابة المتنفذة في الدولة.
    بالعربية تعرابت راحنا عقنا بيكم و لهذا باراكا!

  • عبدالنور
    الجمعة 5 مارس 2021 - 13:33

    هدوء السيد بوريطة لن ينتج عنه مثل هكذا قرارات ” متسرعة”. يبدو ان القرار تم املاءه عليه من طرف جناح الصقور داخل ‘الحزب السري’ في المغرب و الذي بدا a commecé ينزعج من اتلاف المغاربة حول القضية الوطنية الاولى و رغبتهم في ايجاد حل للمشكل الذي شكل دوما المشجب الذي يعلق عليه كل تعثر ديموقراطي او تنموي.
    ‘الحزب السري’ الذي يسيطر على خيرات المغرب تاركا الفتات للمغاربة و الداعم للفساد السياسي و المالي يعمل جاهدا على ارجاع القضية الوطنية الى المربع الاول من اجل الحفاظ على الوصع القاءم statut quo. وعيا مني كمواطن مغربي قلبه على بلده ارى ان التحديات العصيبة التي يمر منها المغرب تتطلب الكثير من نكران الذات و الابتعاد عن النظرة الحقيرة التي ترى في المغرب مجرد صناديق سوداء تنهبها العصابة المتنفذة في الدولة.%0aبالعربية تعرابت راحنا عقنا بيكم و لهذا باراكا!

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين