حوارسياسي مع المتنبي

حوارسياسي مع المتنبي
الأحد 15 يونيو 2008 - 17:53

قبل أن أنفض عن جثمانك النقي ، ما علق به من تراب ، وأمسح عن هامتك الشامخة شرخ السنين ، وخدش الأيام. أستسمحك عذرا في هذه الأمر المهيب ــ وأنا كلي انحناء وإجلال لمهابتك وجلال قدرك ــ فما مرامي إلا أن أحادثك في أمر قل فيه الإفتاء في الأمور السياسية . وكثر الرعناء والمفتون في بعض القضايا الحساسة والمصيرية .. التي تهم أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج .. ..”فأدلجوا” كل شيء .. فحار اللب من جراء ذلك .. واستشاط غضبا من هذا الخضم .. فاختلط عليه اللب والفشار .. وتاه في متاهات لاحصر لها من الشك والحيرة والزيغان .. لذلك لجأت إليك وكلي آذان صاغية ،للاستماع إلى فتواك في أمور سياسية ،أعلم علم اليقين أن آراءك فيها لاتحتمل الشك ، ولا التردد ، ولا البهتان .. ألست القائل في ذروة تألقك :



الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة *** بلغت من العـلياء كل مكان
لولا العقول لكان أدنى ضيغم *** أدنى شرف من الإنســــان



نِعْم الرأي المنطقي الصحيح !! ونِعْم رجاحة الفكر !!!



فعدم تزلفك لأي كان ــ و لو كان يملك الجاه والثروة والسلطان ــ جعلك تجمع الرأي والشجاعة ، ورجاحة اللب ..
وهو ما لم يتأت لإنسان… إلا الراسخون في العلم … ألم يرن صدى صوتك في الأفاق :



وأنفس ما للفتى لـــبــه *** وذو اللب يكره إنفاقه



لم تستصغر لأي مخلوق .. مدحت أصحاب المهابة والفخامة ولكنك علوت عليهم عندما مدحت نفسك امامهم ، بدون وجل ولا تهيب :
وما أنا بالعيش منهم بالعيش فيهم *** ولكن معدن الذهب الرغام



لقد كنت ذهبا وكانوا رغاما .. فما أروعك !! وما أروع مواقفك ومبادئك التي مت من أجلها .. فصرت خالدا خلودا أبديا لدى الضمائر الحية ..



سأُجلسك الآن على كرسي وثير .. وأجالسك لحيظات من العمر .. تتسم بهاء وإشراقا .. سأستمع إلى كلمات نورانية تخرج من فيك … كما ينساب الرضاب من فم الحسناء ..



قل لي أيها المتنبي ــ الذي تحققت نبوءته في الشعر والقريض .. أيهما إليك بغيض ؟ أعصرك المتلاطم المضطرب سياسيا واجتماعيا ؟ أم عصرنا العربي المتسم بتخاذلات شتى وانكسارات جلى …. وإخفاقات حمقاء ؟



قل لي بربك هل كان الإنسان العربي آنئذ ــ في عصرك ــ خنوعا .. مائعا .. ذليلا ، إزاء قضاياه الجوهرية وضد كينونته الفطرية ، كما هو عليه الحال الآن في مواجهة الاجتثات؟؟ هل كانت هناك نخوة وشهامة تسري في العروق العربية ــ في زمانك ــ إزاء ما كان يحدث من تفكك وانحلال ، جراء الغزو والاجتياح الأجنبي الذي نخر الجسم العربي ؟؟ هل كا….



قاطعني المتنبي بإشارة من يديه ، اللتين تأكلت رؤوس أظافرهما ، من أثر تقادم الدهور والأحقاب .. هو لايبلى من ذاكرة التاريخ مهما تواري في عمق الثرى .. فلا تعجبوا من إجلاسه ومجالسته ومحاورته .. إنه ضمير أمة فكيف يبلى ؟؟ ويحي عليه وويح أمي ** أيمسي في الثرى وفيه يمسي ؟؟ كما قالت الخنساء في أخيها صخر.



قال المتنبي وهو يرمقني بعينين وقادتين متأثرا بتساؤلاتي الحارقة :



صحب الناس قبلنا ذا الزمانا *** وعناهم من أمره ما عنانا
وتــولـوا بغـصة كلهم منه ** *وإن ســر بعــضهم أحـيـانا
ومراد النفوس أصغر من أن *** نـتعــادى فــيـه وأن نـتفانى
وإذا لم يـكـن من الموت بــد ** *فمن العجز أن تكون جبانا



أفهمت مقصدي يابني ــ يا أيها الإنسان العربي الجريح ــ ؟ وجرحك غائر أكثر في زمانك الرديء .. زمن المهانة والصغار ..



فهمت ، فهمت ، أشياء وغابت عني اشياء .. فأنت النهر الخالد .. وأنت الينبوع الذي لاينضب .. ألم تحير النوابغ الذين جايلوك وعاشوا على مقربة منك .. وفيهم من تهتز لذكره الركبان ، ويشهد بعبقريته الزمان والمكان .. ولكنك كنت قمة القمم حتى قلت :



أنام ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جراها ويختصم



فكن لي عونا على غيلة الزمان الرديء .. وأفتني في أمور قل فيها المفتون .. الذين قلبوا الحقائق .. فجعلوا الخنوع والاستسلام، للعدو الرابض شهامة وفحولة .. العدو رابض متربص لايستكين .. والإنسان العربي ساه .. لاه .. يتما جن ، يتعهر ، يهادن العدو .. يعانقه بالأحضان يتهافت على وده .. فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من اجتياح عسكري .. وإبادة شاملة ، ومحو من جغرافية الأرض .. أيرضيك هذا ؟ أيرضيك ؟؟ و نحن لم نسمع صوتك منذ أمد .. فلَِم تخليت عنا وتركت أمتنا فريسة للنهب والسلب ؟؟ نهبوا الكرامة العربية وسلبوا الضمائر الحية ن وفعلوا في الشعوب العربية الأفاعيل .. أينك .. وما كل هذا التمادي في التمادي ؟؟

إني أرى جبينك يتفصد عرقا .. هل تأثرت لهذا الحد ؟



أجابني وكله امتعاض .. بعد أن خرجت الكلمات من فيه كأنها نار تلفح الوجوه .. كانت ساخنة .. ساخطة .. مريرة .. لها وقع كوقع الحسام المهند :



ودهـر ناسـه ناس صغـار ** وإن كانـت لهم جثت ضخام



إن علو المكانة ــ يابني ـــ في مجال الحكم والسياسة ، لايخول لك علو المكانة في اقتحام المصاعب واستصغارها .



بل إنها قد تؤدي بك إلى عكس ما تظن .. قد تؤدي إلى المهادنة للعدو الرابض للحفاظ على ماء الوجه بأي ثمن كان.



ولكن لا تبتئس … فهؤلاء المهادنون الذين صادقوا وتملقوا أعداء الأمة العربية من صهاينة وأذنابهم من أمريكان وأوربيين وصليبيين.. يصدق عليهم قولي في آخر المطاف :



لايقبض الموت نفسا من نفوسهم *** إلا وفي يده من نتنها عود



الآن بدأت أقتنع ــ أيها المتنبي الجليل ــ أن الدماء العربية تسري في عروقك مسرى الدم .. وعرفت أن قولك :



ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى *** عدوا له ما من صداقته بــد



لم يكن اعتباطا ، بل نابعا عن تجربة صادقة ..أليمة .. فعربنا اليوم ، اتخذوا هذا البيت مطية .. ليصادقوا العدو الرابض والمكلكل على الصدور . وشعارهم أن المصادقة والمهادنة فرضتها الظروف السياسية والاقتصادية وتبادل المصالح ..



متناسين أن هذا العدو يطحن بلا هوادة شعبا آمنا ، استقر في ارضه مئات النسنين . اغتصبوا هويته .. شردوه عبر أطراف الأرض .. تآمروا عليه مع حلفائهم من كل فج عميق .. أليس هذا تواطئا مكشوفا ياأيها المتنبي ..



قال متحسرا : إن هذا لمؤسف ، إن هذا لمؤسف : وأردف :



إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تـقنع بـمـا دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم .

‫تعليقات الزوار

2
  • .. عـبدآلرحمن ..
    الأحد 15 يونيو 2008 - 17:55

    .. يقف آلقلم عندمآ نرى ..
    آلمقآل يتكلم عن آلمتنبي ..
    أشكرك من كل قلبي ..

  • عاشق المتنبي
    الأحد 15 يونيو 2008 - 17:57

    حوار شدني بكل ما تحمله الكلمة من معنى لا أعلم أهو جذبني أم أدخلنب في عالم مع المتنبي شكراً من الصميم على إبداعك وأحب أن أضيف أنني أدعو ربي مقابلة هذا النابغة في الفردوس .

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة