رصيدك من الصبر..!

رصيدك من الصبر..!
الأحد 11 أبريل 2021 - 02:17

أعظم ميزة ميز بها الله الإنسان

لو بحثنا تركيبة الإنسان، السيكولوجية منها والبيولوجية، ستغوص بنا إلى متاهات وأغوار جد معقدة داخل هذا المخلوق الذي ما زال العلم، بكل فتوحاته التي انتهى إليها حتى الآن، عاجزا عن فك الشفرات ومنظومات التصاميم التي تحتويها خلاياه وأنسجته وجيناته (Gens) في علاقاتها بسلوكه ومواقفه تجاه محيطه المباشر أو البيئي العام (Environment).

هذه القدرة (الصبر)، نشأت معه منذ الخليقة، وصاحبته في بيئات طبيعية، تنوعت من الجبلية والصحراوية إلى البحرية وذات مناخات اختلفت في حدتها ما بين الصقيعية والقطبية والحارة أو الجافة والرطبة؛ عمّقت فيه المقدرة على الصبر والجلَد والتحمل والأناة، حتى إن هذه الميزة اتخذتها عديد من المجتمعات “معيارا” لقياس مدى الثبات والصمود لدى الإنسان في مواجهته للتحديات والأخطار المحدقة، وقد شاع استخدامه في المعارك والحروب كأن يتم قياس مدى الصبر على الجوع والعطش أو اقتحام الحواجز وتحمل الأذى والألم.

ومن خلال هذه السياقات في الكشف عن مقدرة الصبر لدى الكائن البشري، نستخلص أن الصبر (Patience) هو “القدرة على تحمل الظروف الصعبة، وينضوي تحت هذا المعنى الصبر على المثابرة في مواجهة التأخير والتسامح مع الاستفزاز دون الرد بازدراء وغضب، أو القدرة على التحمل عند التعرض لضغوط، لا سيما عند مواجهة صعوبات على المدى الطويل، أو القدرة على الانتظار أو الاستمرار في العمل رغم الصعوبات أو المعاناة، دون الحاجة إلى التعبير عن الشكوى أو الانزعاج”.

صبر المغاربة وصبر أيوب

يشاع، كما تورده بعض الدراسات الأمبريقية، أن المغاربة “من أكثر شعوب الأرض صبرا وتحملا للمشاق والمحن والمعاناة”، وقد انتبه لهذه “الميزة” رجال حرب على مر العصور فوظفوها في استقدام عينة من المغاربة لا ينفد لهم صبر أمام الأهوال والشدائد والحروب خاصة، فأدرجوهم ضمن قوائم الأشاوس المغاوير ورجال الوغى الذين لا تلين لهم قناة؛ مهما كانت الظروف والملابسات، ويأتي في مقدمة هؤلاء الشجعان البواسل سكان مناطق الريف الأقدر على مواجهة واقتحام المجاهيل، لتمرسهم على شظف العيش والصبر على المكاره وتحمل المشاق. ويحتفظ لنا التاريخ بصور لامعة لمعارك وملاحم أبلى فيها المغاربة البلاء الحسن، سواء في فتح الأندلس أو الزلاقة، علاوة على معارك من التاريخ الحديث، كما في حروب الهند الصينية ودول الحلفاء في مواجهتها للنازية.

وقد وردت في القرآن الكريم إشارات غنية لفعل “صبر” تكرر 73 مرة في 69 آية، منها { يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }، [ سورة آل عمران: 200].

“صبر أيوب”، ومن خلال شدة المحن التي توالت على النبي أيوب عليه السلام، أن تحول صبره إلى مضرب مثل في القدرة على تحمل الأذى والكدمات؛ حيث فقد ماله وأولاده وهدّه المرض. ومع كل هذه الشدائد، ظل صامدا في تعلقه بربه.

“ترويض” المغاربة على الصبر

من السجايا التي اشتهر بها المغاربة عبر حقب تاريخية، الصبر وكظم المعاناة، حتى إن التحيات المتبادلة بينهم تشي بهذه “الخلة”، كأن تسأله (كيف أنت؟) فيرد عليك بشكل مباشر (الحمد لله) ولا يأبى إلا أن يضمر معاناته مهما بلغت حدتها، سواء في علاقاته بالأسرة أو المجتمع، يتكيف مع ظروف عيشه حتى ولو حاول لهيب الأسعار أن يعصف به، إذا اختفت مادة استهلاكية أو نفدت من الأسواق بحث عنها “بالعرق الناشف” ليجدها ولا يروقه الاستغناء عنها، ليست له قدرة على الصبر أمام إيجاد حاجياته.

كما يلاحظ أن “الصبر المشترك”، أو بالأحرى القضايا التي تمس جماهير المغاربة قاطبة، من قبيل غلاء المعيشة واضمحلال الحقوق واختفاء الحريات أو تعفن الإدارة والحي السكني… كثيراً ما يغض عنها الطرف ويواجهها بالصبر والاصطبار دون إبداء أي مقاومة أو اعتراض، بعد أن يكون مخزونه من الصبر قد نفد، فيعتاد على لسعاتها، وقد يكون مردها إلى سلسلة الضربات الموجعة التي تلجأ إليها السلطات الحكومية من خلال توالي الزيادات في الأسعار وانسداد آفاق الشغل واستفحال أرقام البطالة، وهي في عمومها إجراءات لترويض المواطنين على المزيد من التحلي بالصبر والأناة، وفي الآن ذاته ترسيخ للأمر الواقع.

لكن مخزون الصبر الفردي لدى المغاربة جد ضعيف؛ فيتضايق من اصطفافه في الطابور أمام مرفق عمومي، كما يشعر بالامتعاض أمام علامة “قف” التي تشعره بالانتظار والتريث، ومنهم من لا يكترث بوجود جدران مشتركة بين الجيران، حتى ولو دعته الظروف لأن يطرق جداره طوال الليل، أما أن يصبر ويتحين التوقيت المناسب فليس واردا إطلاقا في دائرة اهتماماته، وهو ما يعكس عينة التربية التي تلقاها.

الانفجار حينما يتجاوز الصبر حدوده

عبارة “للصبر حدود” مستقاة من القواميس الشعبية التي تحفل بها الأنثروبولوجيا، وهي بالكاد مشتركة بين العديد من الثقافات، الأنجلوساكسونية منها والفرنكفونية والعربية. وفيما يلي عينة من الأقوال حول فضيلة الصبر:

– الصبر مر وثمرته حلوة.

– “الصبر ليس هو القدرة على الانتظار ولكنه القدرة على الحفاظ على موقف جيد أثناء الانتظار”.

– “شيئان يحددانك: صبرك عندما لا يكون لديك شيء، وسلوكك عندما يكون لديك كل شيء”.

– قال لي والدي “اعمل بجد وتحلى بالصبر”، كانت أفضل نصيحة تلقيتها على الإطلاق.

– “الصبر مفتاح القناعة”.

– “الصبر عنصر أساسي في النجاح”.

– “الصبر مفتاح الفرج”.

لكن أحيانا يصادف أن تتراكم نسب الصبر حتى يصل إلى مستوى من الضغط، لتنجم عنه أشكال من الانفجارات أو نزوع الشخص إلى اقتراف أعمال شائنة ليعوض عن صبره، مثل الارتماء في حمأة المخدرات أو التعاطي للمسكرات، كما نجد أن لدى بعض الكتاب والروائيين العالميين نزعة مقاومة، تظهر في قصصهم ورواياتهم، تتجسد في شخوص بنزعات سلوكية مختلفة إجرامية ودرامية، تجسد غياب القدرة على الصبر والانتظار.. أو حينما يصل الصبر بصاحبه إلى مستوى قياسي فيفضي به إلى النيران والاحتراق أخيراً، على أن للصبر علاقة وطيدة بثقافة الشخص وسعة أفقه، فكلما ضاقت وضعفت صار سلوك صاحبها أقرب إلى الهمجية منه إلى البشرية.

‫تعليقات الزوار

9
  • البوهالي حمان
    الأحد 11 أبريل 2021 - 09:30

    شكراً للكاتب الكبير ولموقع هسبريس الرائد على هذا الموضوع، موضوع الصبر أصبح عملة غالية في زمن كورونا وزمن فناء القيم وابتلاعها من قبل القيم المادية التي تركز على إشباع النزوات الفردية، نعم سأركز على صبر المغاربة أمام القضايا المشتركة، فهم لا يولون لها الأهمية التي يولونها لحاجياتهم الفردية سيما داخل الأسر وفي علاقاتهم بالجيران والمحيط القريب، صحيح المخزن وعبر حقب تاريخية روض المغاربة على الصبر والجلَد وتحمل مزيد من الألم، وكأن لسان حاله يقول إذا أذقتهم اليسر وحياة الرخاء والكسل ربما سينقلبون عليه إذا نفد مخزونهم من الصبر، نحن ألفنا العصا والضغط، وبعض الأحيان يطلق علينا “الكرموني” أي الشعب الذي لا يكشف عن هويته ورائحته إلا إذا عرضته للشدائد و الأهوال وحياة وشظف العيش وقلة ذات اليد، مرحبا برمضان الخير شهر تجريب مخزون الصبر لدى الإنسان

  • ـــــــــــــــــــــــــ
    الأحد 11 أبريل 2021 - 10:23

    قالوا انا الى ربنا منقلبون و ما تنقم منا الا ان ءامنا بايـــٰت ربنا لما جاءتنا ربنا افرغ علينا صبرا و توفنا مسلمين

  • صابر ومصطبر
    الأحد 11 أبريل 2021 - 12:05

    الصبر نعمة من الله لا يجادل فيها سوى جاحد وأناني، لكن للصبر حدود ليس أمام جميع القضايا فهناك صبر دائم يعيش مع الإنسان وخاصة في بلده كغلاء العيش وهناك صبر داخل الحي السكني تجاه قطاع الطرق و مجرمين، وهناك صبر على عبادة الله سيما في رمضان أمام المكاره والجوع والعطش، وفي جميع الأحوال كلما ارتفع مخزون الصبر لدى الإنسان أمكنه أن يعيش ويتكيف مع جميع الظروف، لكن إذا نضب صبره وجف فربما أصبح همجيا كما أشار الأستاذ أو أناني إلى أبعد الحدود، صاحبه لا يعرف للصبر معنى مثل الطفل يصرخ إذا جاع أو عطش أو أحس بألم ولو بألم خفيف

  • فريد
    الأحد 11 أبريل 2021 - 14:49

    إذا كان خوف المغاربة من بطش المخزن وتجبر رجالاته يسمى صبرا حسب اعتقاد الكاتب، فربما هو كذلك. ولكن لماذا يصبر بعضهم على بعض في معاملاتهم الخاصة وينفجرون غضبا قد يصل في بعض الأحيان إلى تكسير العظام؟

  • Me again
    الأحد 11 أبريل 2021 - 19:22

    اظن ان كاتب المقال يتحدث عن الخوف، و ليس الصبر، عند المغاربة و ليس الصبر! يصبحون اشاوس في الحروب كالحرب ضد النازية و الحرب الاندونيشية و غيرها خوفا من الموت لأن المستعمرين الفرنسيين ورائهم. كما، انهم يخافون على انفسهم و يتجنبوا المظاهرات ضد ارتفاع الاسعار و اغلاق المساجد و الحمامات مثلما يخافون من كورونا! يخافون من الشاوش و العساس و الحارس و الگاردبان و الگاردكور و الفيدور و البرگاگ و بعضهم يخاف من ظله و الآخر يخاف لأنه يظن ان الجدران له أذنين، كما يقال!
    لكن، كل ما سمحت له الفرصة، لا يصبر و دائما زربان في الطابور و عند علامة قف و ضد الراجلين، بل جل المغاربة يعطون الرشوة خوفا من الانتظار و الصبر في الانتظار!
    الشعوب التي تصبر هي في شمال اوروبا. تراهم مسرعين فقط عند محطات القطار و الحافلة للوصول الى الركوب، اما غير ذلك فممكن ان يصبر في طابور من عشرات الكيلومترات او يقضي اغراض اخرى!
    المغاربة خوافة و زربانين دائما باش يجلسوا في القهاوي كيتتسناوا Godot!

  • a me again
    الإثنين 12 أبريل 2021 - 10:44

    تحية ، وهل مشاركة الجيوش المغاربة في الحروب يعتبر خوفا؟! أما اعتيادهم على المعاناة فمن ورائه المخزن عبر عصور وحقب، وكثيرا ما يتحول الخوف إلى صبر واصطبار وإلا تعرض للعقاب والفشل، فللصبر موانع ومحظورات فإذا زالت انقلب الصبر إلى جرأة وإقدام… مع الأسف حاجيات المغاربة الآنية والشخصية هي التي يستغلها رجال الاقتصاد والاستثمار كالهواتف الذكية والغبية ومشاهدة المباريات والأفلام… أمامها لا يملك أن يصبر عنها، لكنه أمام القضايا المشتركة لا يعير لها كبير اهتمام، شكراً للتواصل

  • Me again
    الإثنين 12 أبريل 2021 - 17:45

    الى a me again
    عندما فتحوا الاندلس، كانوا خائفين من البحر أمامهم بنسبة 100% بالغرق فيه، و ما كان عليهم سوى مهاجمة العدو أمامهم!
    المغاربة خوافة و ما فيهومش الصبر!

  • KARIM. K
    الإثنين 12 أبريل 2021 - 18:28

    بخصوص معركة فتح الأندلس والمقاومة التي أبدتها الجيوش العربية/الأمازيغية تجاه الصليبيين لم تكن تعبيراً عن الخوف “من الغرق في البحر”، كما تراه، بل هي تظافر عدة عوامل الديني منها و الاستراتيجي، أما “البحر وراءكم”، و”العدو أمامكم” ما هي إلا تكتيك وخطة حربية لتعبئة النفوس وشحنها بالأناة والصبر على المكروه لقاء الحياة، ففي أدبيات الحروب و الغزوات العربية كان القائد يستهل خطبته بالآخرة وما أعده الله للشهداء، لكن برأيك ما سر استقدام المغاربة للانخراط في خوض الحروب؟… وحتى الآن إذا قمنا بإحصائية عن الأصول العرقية للقوات المسلحة الملكية وجدنا معظمها ريفية أطلسية..؟ وقد عرفوا عبر التاريخ وحتى الآن بمقاومة الشدائد وليس “خوفاً” من الموت أطلت أكثر من اللازم.

  • الرياحي
    الثلاثاء 13 أبريل 2021 - 07:26

    مقالة جميلة عن الصبر ، الصبر ضرورة بيولوجة للبقاء (حتى الرمزي منه ) والتشبت بالحياة ومن لا صبر له غرق وزال أولا وقبل الشيء كما أنه قد يكون تضحية مثل الجهود والحرمان اللتي نقدم لغاية تغيير وضعيه مثل ابن فقير يصل إلى طبيب أو مهندس ألخ ولنا مثل ميلود الشعبي وقصته ما هي إلاحكاية صبر
    حكي سائق حافلة من بولندا حينما تعطب المحركة ومكت أسبوع كاملا والجليد يجلده أن أصبر الشعوب هم المغاربة كان متجها بهم إلى المغرب يشتكي أحد منهم قط وكلامه له مصدقية نتيج تجربته الطويلة وإحتكاكه بقوميات أخرى
    في كل الأحوال اصبر تنجح
    رمضان مبارك للجميع
    وتحياتي لسي عبد اللطيف

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات