موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة -(1)

موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة -(1)
السبت 7 يوليوز 2007 - 00:14

الفصل الأول

التأشيرة

(الدار البيضاء المغرب ديسمبر سنة 1999)

الجزء الأول

إنتظر نعمان تأشيرة الولايات المتحدة طويلا ولم تأتي , مر عليه عام وهو يصبح ويمسي على أمل أن يرق قلب موظفة القنصلية الأميركية في الدار البيضاء فتتكرم عليه بمكالمة هاتفية تخبره فيها بالنبأ السار.

طال إنتظاره وزاد قلقه بعد أن هاجر معظم زملاء دفعته في الجامعة إلى بلاد الدنيا الواسعة طلبا للرزق وقد يئسوا من أمل الحصول على عمل يضمن لهم لقمة العيش الكريمة في المغرب.

بات شغله الشاغل هو السفر إلى أميركا لمعانقة أحلامه في إيجاد عمل يليق بمستواه العلمي ويلبي طموحاته الفكرية والمادية.

قرأ الكثير عن بناة العالم الجديد ومؤسسي الفدرالية الأميركية بشتى أعراقها وأجناسها و لطالما إستفاق الصباح وهو بعد منغمس في حلم البيت الجميل الزاخر بأفخم وأحدث الآثاث..عاش سنة الإنتظار وهو يرى نفسه في أحلام اليقظة يقود سيارة فارهة بشوارع عريضة نظيفة و.بات يعرف أسماء حارات واشنطن ونيويورك ومعالمهما السياحية. قرأ عن مكتبة الكونغريس ومتحف الفضاء وتمثال الحرية ، فهيمن الحلم على أدق تفاصيل حياته اليومية ..تعلم اللغة الإنجليزية ومن حين لآخر كان يتسلل إلى فناء المركز الأميركي ليختلط بطلبة اللغة وهم يتباهون فيما بينهم بكلمات إنجليزية متقطعة.

ثم يطرق عائدا إلى حارته الفقيرة حيث البؤس والعوز ووجوه المحرومين وهم يصارعون النهار من أجل كسب قوتهم ويقاومون في الليل جيش الفئران والباعوض الذي يستوطن أكواخهم أو بقايا بيوتهم المتداعية.

وكما هي عادته منذ تقدم بطلب التأشيرة جلس ذات صباح عند عتبة دكان الحي يدخن سجارة تبغ أسود من النوع الرديئ ، وهو يبادل العم مبروك عبارات التحية ويشاطره التعليقات على نشرة الأخبار، يشرب معه الشاي الأخضر فيمطره العجوز بأسئلة لاتعد ولا تحصى ، حتى كادت تتحول جلسته عند مبروك إلى هم ثقيل على صدره يتحمله مرغما إلى أن يأتي اليوم الذي تُقضى فيه حاجته ويصله خبر التأشيرة.

كانت سماء الدار البيضاء صافية مشمسة تتلحف بنسيم بارد وريح غربية تحمل معها رائحة الأطلسي الهائج عندما رن جرس الهاتف فسمع نعمان العم مبروك وهو يتمتم بكلام مبهم لم يفهم منه شيئا ..إشرأب عنقه ظانا أن المتحدث من القنصلية الأميركية..طلب منه مبروك أن يتناول سماعة الهاتف لعجزه عن فهم ما يقوله المتحدث باللغة الفرنسية. فطار نعمان من موضعه وهو لا يكاد يصدق نفسه, خطف السماعة من يد العجوز بسرعة البرق وهو يلهث:

– ألو

– ألو ..هل هذا دكان السعادة بزنقة الإزدهار

– نعم ياسيدي . من يتحدث ؟

– أنا موظف بقسم الحسابات بشركة المواصلات السلكية واللآسلكية إن هاتفكم مدين للشركة بثلاثة أشهر مفهوم..؟ وإذا لم تدفعوا مبلغ خمسة آلاف درهم سوف نضطر إلى قطع الخدمة..مفهوم..؟ لديكم فرصة أسبوع من الآن..مفهوم ..؟ وقد بعثنا لكم عدة إنذارات ..مع السلامة

– مفهوم ولكن يا سيدي …

أقفل الموظف الخط فبدى وجه نعمان شاحبا وكأن هموم العالم كله تراكمت فوق عاتقه سأله العم مبروك عن سبب تجهمه فأخبره بأن هاتف الدكان سوف يفصل ..فلم يبدي العجوز أي إهتمام بالأمر واسترسل يثرثر:

– هذه هي مشكلتنا نحن المغاربة كل واحد يقضي حاجته، يشرب ويروي عطشه ثم يلعن صاحب البئر ومن حفرها والذي يقوم على صيانتها ..تصور يا ولدي أنني لا أستعمل هذا الهاتف أبدا ..وضعته هنا لسكان الحي فباتوا يتحدثون ويمانعون في دفع دراهم المكالمة بل ومنهم من يكلم فرنسا وبلجيكا وعندما تأتي الفاتورة أظل حائرا في أمر هذه التجارة الخاسرة..دعهم يفصلوا الخط فذلك أريح لي…

– ماذا تقول يا عمي مبروك هل هذا معقول ..؟ لا يمكن..لا يمكن.

صرخ نعمان في وجه العجوز وقد تلعثم لسانه وخانته فصاحته المعهودة إذ لم يكن العجوز يدرك أن سبب جلوس الشاب معه بعتبة الدكان ليس حبا فيه أو رغبة في سماع حكايات شبابه المملة لم يكن مبروك يعلم أن رقم هاتفه هوالذي كتبه نعمان في إستمارة طلب التأشيرة وأن إنقطاع هذا الهاتف يعني أن المكالمة لن تأتي أبدا.

نظر نعمان إلى وجه مبروك والحزن يملأ أعماقه..سأله هل لديه من المال ما يسد به فاتورة الهاتف ، وحاول جاهدا أن يفهمه أن هذا الهاتف يجب ألا ينقطع ..

– إسمع ياعمي مبروك إذا قطعوا هاتفك فلن أستطيع السفر إلى أميركا

– وما علاقة تلفون الدكان بأميركا يا بني؟

– لأنني أعطيتهم رقمك في القنصلية الأميركية..فكيف سيتمكنون من إخباري بالتأشيرة إذا كان هاتفك معطلا.

– كلمهم وقل لهم أن تلفوني فصل من الخدمة سوف يقدرون موقفك ..وإذا لم يصدقونك أعطيهم رقمي وأنا أقول لهم ذلك بنفسي.

– وكيف يكلمونك وهاتفك سيكون مفصولا ؟

– صحيح لقد فاتني ذلك..طيب كلمهم وأطلب منهم تغيير الرقم ..أعطيهم رقم المدرسة.

– المدرسة يا عمي مبروك ؟! المدرسة ..!؟ إن المدرسة تعطل في كل أسبوع يوما أو يومين، إن لم يكن عيد الإستقلال فعيد الفطر وإن لم يكن عيد الفطر فعيد المسيرة وهلم جرا. ثم بالله عليك تريدني أن أكلم من ؟ ألا تعلم أن فرصة الحديث مع أحدهم هي ضرب من ضروب المستحيل .. إن الناس يقفون أمام القنصلية في طوابير طولها مئات الأمتار والمطر يتهاطل عليهم والشمس تبخر ما تبقى في جماجمهم من مخ. وعندما يصلون إلى البوابة الرئيسة تقفل القنصلية ويضطرون للعودة إلى بيوتهم بدون فائدة.

– إذن أكتب لهم رسالة.

– وكيف سأضمن أن رسالتي ستصل بيد المسؤول عن ملفي ..؟ وحتى لو إفترضنا أنها وصلته، من يضمن لي أنه سيغير رقم الهاتف ؟ ثم إنني وقعت على الإستمارة ، بمعنى آخر يجب علي أن أعبأ إستمارة جديدة أغير فيها العنوان ورقم الهاتف وأوقع عليها من جديد وقد يطلب مني دفع رسوم التأشيرة من جديد.

– حسنا إفعل ذلك إذن

– يا عمي مبروك لكي أغيرها يجب علي أن أقف في الطابور ستة أيام وسبعة ليال هذا إذا لم تصادفني أعياد رأس السنة أو عيد الديك الرومي (1).

– وما دخل الديك الرومي بأميركا..؟!!

– الديك الرومي يا سيدي هو الهدية التي قدمها سكان أميركا الأصليون للمعمرين البيض كعربون محبة وسلام .

– طيب يا ولدي ما دمت قد دفعت العربون فمعنى ذلك أنهم لا يستطعون رفض تأشيرتك

– أي عربون يا مبروك ؟

– عربون الفيزا إلى أميركا..مع الديك الرومي ..عند السكان البيض ..أو هذا الذي قلت قلت عنه ..

– أي فيزا ؟ أي سكان بيض ؟ هل إختل عقلك ..أم أنك محشش..؟!!

– أنا لم أقل أي شيء..أنت الذي ذكرت العربون..وأنا أعرف أن الذي يدفع العربون مثل الذي إشترى..

– العربون يا عمي هو..

انحصرت العبارات في جوفه وأدرك نعمان أنه يتحدث مع حجر صم.. فلعن اليوم الذي كتب فيه رقم الدكان في الإستمارة ..

عاد أدراجه إلى المنزل وهو يسب، يرغي و يزبد..أوقفه عبده الحشاش فناوله سجارة حشيش مغربي أصيل , تناولها منه ونفث بكل عمق وشره وهو الذي يريد أن يصفي حسابه مع حظه المنكوب وفقره المحتوم .

– دخن يا نعمان..دخن ، تنسى الهم فينساك ..قسما إن جوانة (2) من هذا النوع سوف تغنيك عن السفر إلى أميركا بل إن أميركا ستأتي عندك ..أنظر فنادقنا والحمد لله مليئة بالأمريكيين والبلجيكيين والفرنسيين وكلهم يعشقون في المغرب بحره ، حشيشه ونساءه.

نظرنعمان إلى وجه عبده الحشاش وتساءل عن جدوى الحديث في أمره معه .. لم يعد عبده الحشاش يقبل رؤية الأمور بغير نظرته القاتمة :

– يا أخي نعمان عندما أدخن هذه السجارة أحس أنني غني بل مليونير كل مشاكلي تصبح بسيطة ومضحكة, إن الحشيش في نظري هو نعمة الله على هذا الشعب المسكين فما عسانا كنا سنفعل بدونه..؟

– أنا أقول لك كنتم ستعملون و تكافحون و تجتهدون ..كنتم ستساهمون في بناء الوطن ..المغرب الرائع

– نساهم في بناء ماذا ؟ الوطن ..!؟ أنا لا أستطيع بناء سقف الحجرة المتهاوي منذ ثلاث سنوات وتريدني أن أبني المغرب كله..الواضح أن الحشيش أثر فيك كثيرا فأنت طري العود ..دخن فقد تتفتح عينك على واقعنا الملعون

– لحظة من فضلك ..لحظة.. أنا لا أقصد بناء المغرب يا بليد بل المساهمة في إرساء دعائم المغرب الجديد

– يا خويا نعمان الواضح أنني عاجز عن فهمك ..أو أن ثقافتك تجاوزت حدود قدراتي.. أي مغرب جديد هذا الذي تتحدث عنه ..أين هو أعطيني عنوانه..

– المغرب الجديد موجود يا عبده بفقراءه وأغنياءه بالمخلصين والخونة، المغرب الجديد موجود ولكن وراء هذه الأكواخ التي تحبسون أنفسكم فيها مثل الفئران..تعودتم رائحة القاذورات وانغمستم في حياة الإستسلام تريدون النمو والتقدم وأنتم تلفون الحشيش.

– حسنا ما دمت تريد بناء المغرب الجديد لماذا تتمنى السفر إلى أميركا ..حتى أصبح لقبك نعمان الميريكان، إجلس معنا وشمر على ساعديك وابدا في البناء

– أنا أريد السفر من أجل المال .. المال الذي لا أجده هنا

– إذن المغرب الجديد بدون مال مثل المغرب القديم كلاهما فقر في فقر ..والفرق الوحيد أننا كنا فقراء ومقموعين أما الآن فنحن فقراء ولكن نستطيع أن ننتقد..فقط ننتقد ..ونتظاهر ونصيح ..يسمحون لنا بالتعبير عن مكبوتاتنا حتى لا تتحول إلى خطر يحدق بمراكزهم وسلطتهم ..آه .. رحم الله أيام الحسن الثاني ..على الأقل كنا نعرف اللص من الشريف أما اليوم فقد إختلط شعبان برمضان .. وباتت الحرية والديموقراطية تشترى وتباع بالكيلو.

– بل إنك مخطئ فالفرق شاسع , المغرب الجديد مغرب بدون مال ولكنه مغرب تواق للحرية والديموقراطية والمساواة أمام القانون..صحيح مرحلة التصحيح الديموقراطي ماتزال فتية والملك الجديد حديث العهد بالحكم ولكن يكفي أنه أراحكم من الوزير المعلوم ؟

– وهل تسمي تغيير وزير بوزير غيره قفزة ديموقراطية..قسما إن أمثالك هم من سهلوا وصول الجهلاء إلى قبة البرلمان..حتى باتوا مثل مسامير جحا ..يا أخي اترك الجوانة تبرد ..إنك تحرق الحشيش بهذه الطريقة.

– ثم أخبرني كيف تترحم على أيام الحسن الثاني هل نسيت صياحك في الجامعة والشعارات التي كنت تتعب آذاننا بها ..ألم تكن تعارض النظام الملكي وتعدنا بالغد المشرق ..وجمهورية الورود ..و ..و …أم أنك كغيرك كنت تطبل مع المطبلين

– أبدا لم أنسى ولكنني راجعت نفسي وأدركت أن المشكلة أعمق من نظام بنظام ما لم نغير عقول الناس واسلوب تعاطيهم مع الحاكم سيظل الحال على ما هو عليه..نعم أدركت أن بريطانيا ملكية وبها ديموقراطية بينما الجمهوريات العربية تورث الحكم باسم الثورة والمساواة.. لكنني لم أتراجع عن حقيقة واحدة وهي أن المال هو المال.. أعطيني المال وخذ شعارات المغرب الجديد..إنك تحلم يا صاحبي

– بل هي حقيقة وواقع..

– كيف يكون واقع المغرب هو الحرية والمساواة بينما غيرنا يسكن الفيلات والقصور بينما لا يملك الشعب ثمن رغيف الخبر؟.

– إن تفكيرك ساذج ومحدود يا عبده ، وهذا هو سبب إنهزاميتك وإدمانك للمخدرات

– وماذا تسمي ما أنت فيه.؟ ولماذا تدخن الحشيش معي إذن ؟

– لقد دخنته اليوم لأنني محبط

– نفس الشيئ يفعله الشعب يدخن لأنه محبط..أنت محبط لأن تأشيرتك لم تأتي والشعب يتعاطى المخدرات لأن تأشيرة مروره نحو الفرص لم تأتي بعد ..تأشيرة الإستفادة من ثروات البلاد وخيراتها ، مياهها وسمكها ..تأشيرة الإنعتاق من الطبقية والميز والتحيز والرشوة ..تفو على الديموقراطية التي تحول الشعب إلى مطية لنواب يسترزقون باسمه..دخن أو هات اللجوانة واتركني أصنع سعادتي من وحي خيالي.. أتركني أتمتع بهذه الشمس وهذا الهواء هواء بلادي قبل أن يخصخصوه ويفرضون علينا ضريبة التنفس باسم حماية البيئة…ألم يصبح شعار المرحلة هو الخصخصة؟

( يتبع )

تلتقون مع رواية موعد مع الشمس كل أربعاء وسبت حصريا على موقع هسبريس

اللوحات المرافقة للرواية للفنان محمد سعيد الوافي

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين