شعر "التبراع" .. قريحَة صحراويات مجهولات تتـغزّل بالرّجَـال

شعر "التبراع" ..  قريحَة صحراويات مجهولات تتـغزّل بالرّجَـال
الإثنين 18 يناير 2016 - 02:15

يعتبر الشعر الحساني، الذي تنتجه قبائل “البيضان” جنوب المغرب وموريتانيا ومناطق مجاورة، شكلا تعبيريا يتضمن عدة أغراض، منها “التبراع” الذي يعد فضاء لتصريف التعبيرات الغزلية بالنسبة للمرأة الصحراوية.

وإذا كانت الثقافة العربية، كما تناقلتها كتب الأدب والتاريخ، تختزل غرض الغزل في الشعر الرجالي الذي يتمحور حول عشق النساء، العذري منه وغير العذري، فإن الدراسات الأدبية الخاصة بالمناطق الصحراوية، وتلك المجاورة لها، تتحدث عن وجود أشعار تتغزل فيها النساء بالرجال، وهو ما يطلق عليه “التبراع”.

وتكمن أهمية “التبراع”، الذي يشكل دعامة أساسية في الشعر الحساني المتوارث، في كونه يوسع من مجال غرض الغزل في الشعر العربي، لأنه يضيف تغزل النساء بالرجال، فضلا عن تغزل الرجال الشعراء بالنساء.

وبالنظر لأهمية هذا الموضوع، وجدته بالنسبة لعموم القراء، قامت الباحثة الجامعية المغربية والأديبة العالية ماء العينين بدراسة مفصلة ودقيقة حول “التبراع”، صدرت مؤخرا في كتاب يحمل عنوان “التبراع .. الشعر النسائي الحساني .. المفهوم – السياق – الثقافة”، ضمن منشورات مركز الدراسات الصحراوية.

وقد عرفت الباحثة الجامعية زهور كرام، في تقديمها للكتاب، “التبراع” بكونه شكلا شعريا نسائيا مغربيا يخص المرأة الحسانية، دون أن يعني ذلك عدم كتابة المرأة في الأنواع الشعرية الأخرى، مشيرة إلى أن الشاعرة الحسانية، مثلها مثل الشاعر الحساني، تنظم في كل أنواع الشعر الحساني المعروف باسم “لغن”.

وأضافت أنه عبر “التبراع” فإن الشاعرة بتلك المناطق تنتج رؤيتها كامرأة، والتي يهيمن عليها الغزل، مسجلة أنه بالنظر لكون شاعرات “التبراع” مجهولات بالنسبة للمجتمع والوسط الثقافي، فإن هذا الشكل التعبيري يعد فضاء للمرأة لكي تعبر بحرية وجرأة من خلال لغة بسيطة وواضحة. واعتبرت أن شعر “التبراع” هو بالأساس خزان لمجموع التصورات والقيم والمفاهيم التي بدأت تتلاشى، وتفقد حضورها في الحياة العامة والممارسة اليومية والثقافية، مثل مفهومي الجمال والأناقة في المجتمع الحساني.

وما دامت العالية ماء العينين قد نهجت أساليب وطرق البحث العلمي الأكاديمي في التعاطي مع هذا الموضوع، فقد استندت إلى كتابات سابقة حاولت من خلالها إبراز الخصائص الفنية والبنائية لشعر “التبراع”، منها هذا التعريف الذي أشار إلى أن “التبريعة هي قصيدة قصيرة من شطرين، بنفس الروي، تعبر بها الفتيات العاشقات عن أحاسيسهن المصادرة اجتماعيا عندما يكن منفردات بعيدا عن آذان الفضوليين”.

كما جمعت كمّاً كبيرا من شعر “التبراع”، وصنفته وحاولت استقراء مضامينه ورؤيته للعالم، مع الإشارة، في الوقت ذاته، إلى أن الأمر يتعلق بتبريعات شاعرات مجهولات الاسم، بالنظر للقيود التي يضعها المجتمع على التعبير الغزلي النسائي. وبخصوص مضامين هذه التبريعات، استحضرت نماذج تتحدث فيها الشاعرة عن خصائص الرجل النموذج، وأخرى تبكي فيها على فراق الحبيب وعدم القدرة على الصبر، كما أن هناك نماذج أخرى تتحدث عن رفض الإهانة والخيانة، والشعور بالشوق والخوف، إلى غير ذلك من المواضيع التي تعبر عن الأحاسيس الداخلية للمرأة.

وقد أرفقت العالية ماء العينين هذه النماذج الشعرية المؤلفة بالحسانية، بمعانيها وشرحها باللغة العربية الفصحى، وعيا منها بضرورة توسيع مجال التواصل والقراءة، ما دام أن قراء كتابها ليسوا بالضرورة عارفين بالحسانية. كما لجأت، في أكثر من موضع، إلى مقارنة مميزات الشعر الحساني وأغراضه بالشعر العربي، وذلك من أجل تبيان الفروق في الأشكال والمضامين والرؤى وحتى الجانب الإيقاعي.

ولم يغب عن ذهن الباحثة استحضار بعض المحطات التاريخية المتعلقة بطبيعة مجتمع “البيضان | المجتمع الصحراوي”، وامتداداته، وخصوصية المرأة الصحراوية ومكانتها الاجتماعية، وطبيعة تفكيرها وعقليتها، والتي تتميز، كما جاء في الكتاب، بانفتاحها المعرفي. وقد دفع الفضول المعرفي والتاريخي لصاحبة الكتاب إلى مقارنة المرأة الصحراوية بالمرأة الصنهاجية، ونساء مناطق أخرى في المغرب والخارج. وفي هذا السياق تناولت العالية ماء العينين، على سبيل المقارنة “رباعيات نساء فاس أو العروبيات” التي هي أشعار نسائية خالصة خاصة بالمرأة في مدينة فاس، مع الإشارة إلى أن هذه الأشعار كانت تنشد أثناء تنزه العائلات الفاسية أيام الربيع في البساتين التي تحيط بهذه المدينة.

كما تطرقت، في هذا الصدد، إلى شعر نساء البشتون بجنوب وشرق أفغانستان، مع الإشارة إلى أن الأمر يتعلق بأشعار تتضمن عواطف وأحاسيس النساء، وتلخص لحظات المتعة والحزن والألم. وتناول شعر التبراع، كما فعلت العالية ماء العينين وغيرها من الباحثين المغاربة والموريتانيين، ينطوي على كثير من المناطق التي تستحق الاكتشاف بالنظر لجدة الموضوع واحتوائه على أحاسيس ورؤى نجحت الشاعرات الصحراويات في تصريفها إبداعيا في غفلة من عين الرقيب الاجتماعي.

ولهذا السبب تحديدا، فإن الذين اهتموا بهذا الموضوع، وهم قلة، لم يستطيعوا الإحاطة الشاملة بهذا الشكل التعبيري النسائي لكثرته ونسجه بمناطق جغرافية شاسعة، وهذا ما يبرر وجود أشعار لم تطأها آليات النقد والتحليل، وهو ما دفع العالية ماء العينين، لنشر مدونة سمتها “مدونة التبراع” في نهاية كتابها، تتضمن كما كبيرا من هذا الشعر، وكأنها تدعو النقاد إلى تناوله بالنقد والمطارحة.

ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه، كلما تعلق الأمر بتناول شعر التبراع هو: “هل الحب الذي يحرك شاعرات التبراع هو بالضرورة الحب الرجالي أم أشياء أخرى كالذات والوطن والأهل والأحباب وحتى المجال جغرافي؟”. و”مدونة التبراع” التي جمعتها العالية ماء العينين توحي بهذا السؤال الجوهري، وإحدى الشاعرات تقول ما معناه “أنا وحبيبي نسينا أهلنا”، وأخرى تقول “شوقي إلى أهل بيتي، أكبر من أن أعبر عنه”، وثالثة: “حرام عليك هل نسيت أنني أحبك” و”اذهبي يا أختاه فالبحر يمكن تجاوزه”.. ويستفاد من هذه المقاطع أن عشق الرجال بالنسبة للشاعرات الصحراويات حاضر في تبريعاتهن، لكن عشق الأهل والأوطان وأشياء أخرى حاضر كذلك، وهو ما يجعل هذا الغرض الشعري أوسع مما نتصور وقابل للتحليل والنقاش، لكونه خزانا لتصورات رؤيوية جديدة ومتشعبة.

* و.م.ع

‫تعليقات الزوار

8
  • الخال
    الإثنين 18 يناير 2016 - 04:55

    شكرا كل الشكر لهؤلاء الشباب الذين ما فتئوا يلفتون الانتباه إلى الموروث الثقافي المغربي الغني والمتنوع، في وقت يتجه فيه الناس ومن خلالهم العالم الى العولمة والموضة ، غير آبهين بتراثهم اللامادي الذي يعتبر مرآة تعكس ثقافتهم وهوياتهم.

  • ابن حطان
    الإثنين 18 يناير 2016 - 07:29

    جميل وجميل جدا الشعر الحساني خصوصا غزله .

  • salmane
    الإثنين 18 يناير 2016 - 07:58

    كيف تريدون لدولة ان تبتكر وتكون مراتب متقدمة وانتم تجدون ان راتب استاذ باحث في العلوم الدقيقة يوازي راتب استاذ باحث في -العيطة- او في -التبراع-

  • صحراوي+ امازيغي
    الإثنين 18 يناير 2016 - 10:33

    لماذا الصحراويون يحقدون على الامازيغ لا افهم لما كنت في الجامعة كنت ان و زميلة لي نتحدث ب"الشلحة" فإذا ب صحراوي سمعته يستهزء بي و يستفزني و هذا لاحظته في افراحهم حينما يضربون المثل ب"الشليح" هي نظرة دونية في ابعادها الشاملة .انا لست متعصبا لكن لا احب يمس بهويتي.من فضلك هسبريس انشري و شكرا

  • باحث
    الإثنين 18 يناير 2016 - 14:31

    مايميز الشعر الحساني انه شعر مقعد له ويتاطر بقواعد الشعر العربي كالمقامات والاغراض والبحور ان شءنا ذلك .وتختلف الاغراض حسب غاية الشاعر او الشاعرة من نظم الابيات كالغزل "التبراع"ا و غيره وايضا لقرب اللهجة الحسانية من اللغة العربية بحكم المجال الجغرافي او المجتمع قديما هو مجتمع بدو وان تاترت الحسانية بالامازيغية بحكم احتكاك الثقافتين .لكن ما يعاب على التراث الحساني والتراث الشفهي عامة غياب التدوين،اذا استنينا بعض المحاولات التي لم ترقى للتطلعات من بعض الباحثين الذين يفتقرون للامانة العلمية او اعتمادهم على البحث السطحي والمؤذلج خدمة لبعض المؤسسات وتكريسا للنعرات الاقليمية الضيقة عبر تحريف قراءات التراث الحساني واسقاط مجتمع "البيضان" بالجنوب على نظيره بموريتانيا جهلا او عمدا بخصاءىص كل مجتمع على حدة

  • Rachid
    الإثنين 18 يناير 2016 - 16:51

    سلام ردا على الأخ صاحب التعليق 4 ربما صح ما تقول لأكن ليس الكل أنا من كلميم وعندي اصدقاء أمازيغ ومن مدن الشمال ولم نتعامل بهذه الطريقة لان صراحة هذا التعامل يوذي الي الفتنة ومرحبًا بك يا اخي في مدن الجنوب

  • اكيض عبد الله
    الإثنين 18 يناير 2016 - 17:48

    اعتقد أن على المرأة وهدا اعتقادي ألا تكون في دلك المستوى الذي رايته في الصورة أن تتغزل بالرجل فنحن في دولة إسلامية فكما حدتني جدي المرأة يجب أن تكون في بيتها وعملها هو أولادها وزوجها كما في باديتي التي لم يدخلها لحد الآن وسائل الإعلام مثال التلفزيون . أما التقاليد والعادات فانا لا اومن بها فان أحصيناها فهي كثيرة جدا تشمل المغرب بأكمله.

  • السباعي
    الإثنين 18 يناير 2016 - 23:53

    الحسانية هي شكل من اشكال التآخي بين العربية والامازيغية تماما كما هو الامر بالنسبة للدارجة … الحسانية غنية بحمولتها من الالفاظ بل والتراكيب الامازيغية … واعتقد ان قبائل الصحراء -باستثناء قلة منها – هي قبائل منحدرة من صنهاجة ولمثونة وزناتة . حتى في اعماق الجنوب بالشقيقة موريطانيا نجد نفس الواقع … وان كان البعض يمكنه التلاعب في معطيات التاريخ , فان الجغرافية عصية على كل من يريد التلاعب في حقائقها ." التاريخ يتغير اما الجغرافية فهي ثابتة " اسماء الاماكن والنباتات والاشياء فيها الكثير من الامازيغية … اذن كفى من الاوهام والخرافات التي تبنى عليها اسس هويات بعيدة كل البعد عن الواقع : المغارية من الشمال الى الجنوب هم نسيج بشري واحد انصهر عبر التاريخ ويتعين وقف الاوهام ونعرات الكراهية "

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية