لوحات الغراز .. سفر فني نحو عوالم لا متناهية

لوحات الغراز .. سفر فني نحو عوالم لا متناهية
الخميس 20 شتنبر 2018 - 07:05

مُنجز عبد العزيز الغراز من المنجزات التشكيلية التي تدخلنا في تجربة بحث تأملية عميقة، تجربة سفر نحو عوالم لا متناهية. خصوصا عندما نجد أنفسنا أمام عمل موغل في التجريد بشكل أصيل. النظرة الأولى توحي بأن العمل لا وجود فيه للأشكال ولا يحيل على موضوع خارجه، لأن الفنان يشكل الواقع والحياة في عمله بطريقته الخاصة، وهذا ما يجعل منه بالضبط عملا فنيا مستقلا بكينونته، دون أن يعني ذلك قطع الصلة بالحياة لأن منجز عبد العزيز الغراز يشكل الحياة بعينها. عندما يعيش الفنان تجربة التشكيل فإنه يبحث عن الجمال في روح الأشياء وعمقها متجاوزا السطح المتمثل في الأشكال والصور، وكأنه ينطلق من الصور ليعمل على إخفائها من جديد وتفكيكها وتكرار طبقاتها، إلى أن تكشف عن سرها الذي يتستر عن الرؤية. هذه البراعة في التعالي والمحايتة ارتباطا بالحياة، هو حتما ما يثير الاستغراب وينعش التفكير أمام تجريديات الغراز.

يرى الغراز في لوحاته امتدادا لوجدانه ولحياته الداخلية، ومن هذا المنطلق تأخذ أعماله طابعها الصوفي، حيث يصبح الأثر الفني شكلا من أشكال التجلي أو حلول روح الفنان في جسد اللوحة. هي تجربة تمظهر حسي لكل ما هو واجداني على السند. هذا ما يجعلنا نرى بوضوح في لوحات الغراز مدى الصدق ومدى الحرية التي يعبر بها عن مكنونه، متخلصا من كل القيود ومن كل العقد أو مشاعر الشر أو الضعف. لكن ما وصلت اليه تجربة الغراز التشكيلية من نضج وعمق استيطيقي ليس وليد الصدفة وليس معجزة، بل هو نتاج مسار من البحث التشكيلي، بدأ منذ مطلع التسعينيات.

بدأ الغراز مشواره التشكيلي بأسلوب تشخيصي، تناول عبره نمط الحياة المغربي وكل ما يتصل به من تراث وثقافة، ليطور تجربته فيما بعد نحو التجريد متخذا من الخطوط العربية موضوعا ومصدر إلهام، ثم انتقل فيما بعد إلى الاشتغال على الجسد والرقص بشكل تجريدي دائما، إلى أن بلغ به البحث الاهتمام بموضوع العلاقة بين الجسدي والنباتي-الطبيعي.

ما يتضح من هذا المسار الذي قطعه الغراز، هو أنه كان بصدد حركة تحرر من قيود الهوية والانتماء، سواء من حيث الأسلوب وكذلك من حيث المواضيع التي انشغل بها. لذى يمكن أن نقول أن التجريد الغنائي بالنسبة إليه أسلوب يمنحنه آليات التعبير والبوح بطلاقة، وحرية قد لا يجدها في التشخيص أو التجريد الهندسي. كما أن الانفتاح على الجسدي في علاقته بالطبيعي هو انفتاح على الكوني بما يعبر عنه من حرية وانفتاح على العالم. يقول عبد العزيز الغراز معبرا عن هذه الفكرة :« على الفنان أن يحمل ذهنية عالمية وأن يفكر بشكل منفتح، وهذا لا يتأتى إلا بالتصالح مع الذات وتحريرها من عقدها وأوهامها القاتلة». هذا القول هو ما يدفعنا الى الجزم باستحالة فصل العمل الفني عن مبدعه، فالتناغم والسلام الذي نلمسه في أعمال الغراز ليس إلا تمظهرا لوجدانه الهادئ وتفكيره المنفتح.

ومما نسجله أيضا من هذا المسار البحثي، أنه في كل خطوة يخطوها الغراز في مشواره يصر على التموقع أكثر في أسلوب تجريدي يحمل طابعه الخاص، تجريد غنائي بلمسة عفوية، يفتح آفاقا لتشكيل عالم يسوده التناغم والهدوء والتوازن، اذ لا نحس عند استبصار أعماله بوجود ما ينم عن العنف او الارتباك، كل ما في اللوحة يعبر عن عناصر تتفاعل فيما بينها لتكون مشهدا يعبر عن التوازن، وهذا الأخير يحيلنا على عالمين: عالم الجسد وعالم الطبيعة.

يشتغل الغراز إذن على تيمة علائقية قد تبدو لنا في البداية جد معقدة، إنها العلاقة بين الجسدي corporel والمادة العضوية في الطبيعة. إلا أن لهذه التيمة ما يجعلها ذات أهمية تستحق معها أن تكون أرضية خصبة للاشتغال الفني والتلقي الجمالي.

الجسد موضوع متشعب، وهو من المواضيع التي انشغل بها العديد من الفنانين سواء كتيمة داخل أعمالهم أو كحضور مشخص لوضعياته في الفضاء. لكن بالنسبة لعبد العزيز الغراز؛ لا نجد العمل الفني يقدم لنا الجسد في علاقته مع أجساد أخرى، أو مع فضاء او قوى خارجية بل نجد جسدا يتماهى مع الطبيعة في حركاته وسكناته الى درجة يستحيل معها أن نحدد اين يبدأ الجسدي وأين ينتهي في علاقته بالعنصر الطبيعي. وكأنه يقول عبر منجزه؛ إن الجسد والطبيعة شيء واحد لا إثنان لكن دون يلغي أحدهما الآخر أو يجعله ينصهر فيه. الشرط يكمن في التماهي مع الابقاء على الاستقلالية، أو لنقل الحرية.

إننا إذن لن نجد في منجز الغراز جسدا مشخصا، لأنه لا يتصور هذا الأخير أبدا جسما ذا كتلة وحجم وامتداد، بقدر ما يتصوره قوة وطاقة خلاقة تتجاوز تمظهرات الجسم. يبحث الغراز عن حقيقة الجسد الجوانية، وعن الوجداني في علاقته بالعالم فاعلا كان أو منفعلا.

لهذا نلمس مدى اهتمامه بابراز التناغم بين عناصر التكوين الفني في منجزه، إما عن طريق علاقة التكامل والانسجام أو علاقة التقابل. لكن كل هذه العلاقات في الأخير ليست إلا شكلا من أشكال الامتداد الذي يعبر عنه الغراز بتدفق الألوان والمواد اتجاه بعضها لتخلق مساحة التقاء تغيب فيها نقطة التمفصل بين هذا وذاك.

ليست هناك حدود للون بالنسبة للغراز، بل حرية مطلقة في التعامل مع اللون الذي ليس إلا مادة عضوية طبيعية قبل أن يأخد هذا التدرج من السحنة أو تلك، الأمر إذن يتعلق بممارسة تجريبية متكررة داخل الورشة – المختبر، إلى أن يصل الفنان إلى الحالة التي يلمس فيها ذلك التناغم المفقود فينا وبيننا. وكأنه بمنجزه الفني يقيم احتفالية مصالحة بين الأجساد وكل أشياء العالم.

قد نفهم الآن لماذا لم يختر الغراز التشخيص أسلوبا للتعبير، فهذه القضايا والمفاهيم التي طرحناها الآن يصعب بما كان تشخيصها بما تستدعيه المشاهد من صدق ومثالية. لكن بما أنها في الأصل مفاهيم مجردة ومطلقة فوحده التجريد الغنائي قادر على جعلها تتمظهر. إن منجز عبد العزيز الغراز يدور في فلك استحضار ما لا يحضر، ورؤية ما لا يرى، وكأننا بصدد تجربة تجسد جنون المستحيل.

*باحث في الجماليات

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 7

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب