فيلم "ولدي" .. كاميرا بنعطية تنقل الواقع التونسي من ثقب مفتاح

فيلم "ولدي" .. كاميرا بنعطية تنقل الواقع التونسي من ثقب مفتاح
الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 08:00

بعد الفيلم الرومانسي “نحبك هادي” 2016، يعود المخرج التونسي محمود بنعطية هذه المرة بفيلم درامي سوداوي.

يبدأ فيلم “ولدي” 2018 بجنريك يستعرض أسماء الصناديق التي ساهمت في تمويله مما يؤشر على قوة السيناريو على الورق، على الشاشة الأمر مختلف، على الشاشة نصادف لقطات لا تنتج معنى، فقيرة أسلوبيا ودلاليا. المكان ضبابي والشخصيات باهتة لا كثافة فيها، هناك لقاء ميكانيكي غير مؤسس له مع الطبيب، ثم لقطات طويلة تحاول الإيهام بالواقعية، لقطات ممططة لا يجري فيها شيء.

أربعون دقيقة غارقة في روتين حياة يومية لأب يرافق ويراقب ولده، أب (أداء الممثل محمد ظريف) يحقق في سلوك شخص يفترض أنه يعرفه تماما، كاميرا محمولة تتبع قفا الأب في بحثه المضني، تبسيطية شديدة حتى إن التجول في سوريا التي زعزعتها الحرب الأهلية يصير مجرد نزهة. مشكوك أن يصمد فيلم كهذا أسبوعا في القاعات السينمائية، حكاية بسيطة تهدد بأن تجعل من المقال عن هذا الفيلم مجرد مقاربة سوسيولوجية فقيرة لا مقاربة سينمائية.

سجلت هذه الخواطر التي عبرت في ذهني خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، وقد حررتها حسب تواردها كرونولوجيا؛ لكن مع توالي الزمن اتضح أن المخرج يسرد الرتابة بغرض أن يؤسس للكوارث التي تلي تلك الرتابة، يرتفع الإيقاع حين يتضح أنه لا حدود لما يمكن أن يفعله أب من أجل ابنه، رجل يتبع قلبه في متاهة خطرة.

النصف الثاني من الفيلم أفضل على صعيد الإيقاع، يذهب الأب في رحلة في فيلم متخيل يشعر بها المتفرج كأنها مقطع من فيلم وثائقي من فرط ما وصفتها وسائل الإعلام.

حين وقعت الكارثة لم يلجأ الأب إلى العويل في وسائل الإعلام، في كل مرة يتلقى الأب الأخبار السيئة عن ابنه في أماكن تفيض نعمة، وهذا يبرز مدى عمى الابن الذي هجر مثل هذه النّعَم.

في الفيلم ممثل يؤدي دوره باقتصاد، يتصرف وكأن الكاميرا غير موجودة. الكاميرا على قفاه باستمرار وهو ينظر إلى الجهة الأخرى، وهو ماض في طريقه بحثا عن ابنه ولا يظهر أنه مشغول بنا نحن الذين نراقبه. إنه بعيد عنا. ممثل مستغرق في دوره طيلة أيام التصوير لذا لا يظهر مرة باردا ومرة دافئا في أدائه. ممثل صامت يقدم كائنا شبحيا لا نعرف عنه الكثير؛ لكنه مشحون بدلالة تُدرك بصفة حدسية ومن الحركة الأولى؛ لأن عقل المتفرج “يدرك في شبح الشيءِ الشيءَ في جوهره” الإدراك البسيط Simplex apprehensio، (أمبرتو إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، ترجمة أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة، ص453). وقد اعتمدت أفلام إيطالية كثيرة هذه الحيلة البصرية.

ليس صدفة حصول الممثل محمد ظريف عدة جوائز على أدائه لهذه الشخصية الشبحية المؤثرة. ممثل يقدم دور أب يتصرف بصفاء طفولي يزيد مصداقيته. بالنسبة إليه ابنه بريء، وما جرى مجرد خطأ صغير يمكن لنظرة متبادلة أن تصححه.

لا يجري الكثير على الأرض؛ لكن يجري الكثير على وجه الممثل وثراء مشاعر الممثل، كما تفصح عنها قسمات وجهه تعوض فقر السياق.

حكاية أبسط مما يجب، لكن السياق المعلوم للمتفرج يقويها. لقد كشفت التجارب أن التشدد الديني غير قابل للمراقبة؛ لأن ليست له أعراض فزيولوجية، إنه يتوارى عميقا في اللاوعي، لذا نرى شابا غامضا يبحث عن أفق جديد، فانتهى في حفرة. سياق يؤكد أن مستوى الدعشنة يرتفع في الحياة اليومية بين كازابلانكا وجاكارتا، أفغان يرجمون السيارة رمز الحداثة، كل الجهود لوقف العنف والتمييز ضد النساء تتعطل. تضع الدولة القانون مرة في العمر، والشارع يفرض قانونه في كل ساعة. كل الجرائم الأخيرة في المغرب موجهة ضد النساء تحديدا، وفي البوادي خاصة.

حسب إحصاء عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الاعتباري في واشنطن، فإن عدد الإرهابيين السنّة النشطاء في العالم اليوم، ولا سيما أنصار داعش والقاعدة، أكبر أربعة أضعاف من عددهم عشية عمليات 11 شتنبر 2001 ضد البرجين التوأمين. وحسب البحث، فإن نحو 230 ألف إرهابي جهادي يتوزعون في أرجاء مختلفة من العالم، معظمهم في أفغانستان والباكستان وسوريا وغرب إفريقيا. حتى حين لا يعرف المتفرج هذه الأرقام فهو يشعر بتأثير الواقع عليه لذلك يتعاطف مع الأب.

بدراسة المنظور في الفيلم يظهر أن كاميرا بنعطية تطبق تعريف كوكتو للسينما باعتبارها “حدثٌا يُشاهَد من ثقب مفتاح”، لذلك نتتبع رحلة الأب في بحثه ويبدو ضائعا، يعْبُر الكادر من اليمين إلى اليسار والعكس أو يتجه لعمق الكادر، ولا مرة يأتي إلى الكاميرا التي تمثل عيننا نحن المتفرجين. تتابع عين المتفرج الأب ولا ترى زحاما حوله، لا نرى الواقع كاملا قط، نتوصل فقط بحبكات صغيرة مقطّرة، مثلا تستمر تتشبث شابة بالعيش مع زوج يخونها. السبب؟ ثمن الكراء مرتفع.

يبدو أن شبان تونس في أزمة، في فيلم “بنزين” 2017 لسارة العبيدي يبحث الأب عن ابن “حرق” إلى أوروبا، في فيلم “فتوى” محمود بنمحمود 2018 يبحث الأب في مصير الابن، وفي “ولدي” يبحث الأب عن ابن ذهب إلى حيث لم يتوقع قط. وتشتد الصدمة حين يصرخ الولد في وجه الوالد: “لا أريد أن أكون مثلك”، جملة مزلزلة كشفت للأب عبثية تكرار الخطاطة: ادْرسْ اعملْ تزوجْ وأنجبْ.

هكذا انقشع الوهم، اكتشف الأب أنه لم يعرف ابنه نهائيا، وما كان بحثا عن “ولدي” صار بحثا عن الذات، صار الأب يسائل معنى حياته، يكتشف أن كل ما بناه في عمره لم يكن له معنى. وقد ظهر في اللقطة الموالية للعزاء وهو يستخدم آلة التصبين لم ينتظر أربعين يوما، بعدها بدا تراجع منسوب السوداوية بالتدريج في الفيلم.

‫تعليقات الزوار

3
  • استغراب
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 08:32

    من الاحسن لبنعطية ان يركز على مشواره الكروي بعيدا عن الكاميرات

  • مواطن
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 09:16

    كل الجرائم الأخيرة في المغرب موجهة ضد النساء تحديدا، وفي البوادي خاصة.
    هذه الجملة اقتبستها من هذا المقال
    زعمى صاحب المقال دخل و خرج علينا في الكلام

  • فيلسوف
    الثلاثاء 9 أبريل 2019 - 11:50

    جميل ان تكشف السينما حياة الناس و معاناتهم وذلك في قوالب فنية رفيعة. ولكن القبح كل القبح والبعد كل البعد عن الرسالة الفنية هي ان تشاهد عملا فنيا يجعلك تضيف معانات اخرى لمعاناتك لان العمل لا يثير فيك باب التفكير الايجابي وبالتالي باب الامل.

صوت وصورة
المغرب وبلجيكا والحرب على غزة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:45

المغرب وبلجيكا والحرب على غزة

صوت وصورة
بلجيكا تدعم الحكم الذاتي بالصحراء
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:20 5

بلجيكا تدعم الحكم الذاتي بالصحراء

صوت وصورة
أخنوش والشراكة البلجيكية
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:14

أخنوش والشراكة البلجيكية

صوت وصورة
حماية التراث الثقافي
الإثنين 15 أبريل 2024 - 14:52 1

حماية التراث الثقافي

صوت وصورة
أجواء صيفية بمدينة سلا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 12:06 2

أجواء صيفية بمدينة سلا

صوت وصورة
دعم الفلاحة التضامنية
الإثنين 15 أبريل 2024 - 10:51

دعم الفلاحة التضامنية