"التقرير" و"هوس سري" .. التحقيق يبهر المتفرج بتشويق سينمائي

"التقرير" و"هوس سري" .. التحقيق يبهر المتفرج بتشويق سينمائي
الثلاثاء 15 شتنبر 2020 - 03:00

عندما كانت المخابرات الأمريكية بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 تعتمد أساليب تحقيق فاشلة ضد الإرهابيين في سجون سرية، برز طبيب يتوسل بمنهج جديد (فيلم التقرير (2019) إخراج سكوت زبرونس). أغضب رجال المخابرات فشككوا في قدرات ذلك الذي وصفوه بالمهرج وتحدوه: هل سبق لك أن حققت مع إرهابي؟ هل تتحدث العربية؟ هل تعرف تنظيم القاعدة؟ هل سبق لك القيام باستجواب أيّا كان؟

أجاب الطبيب بثقة وسخرية: أبدا.

كيف؟

أجاب الطبيب: إن الإرهابي إنسان، ومعرفة اللغة التي يتكلمها ليس ضروريا.

يشتغل الطبيب المحقق على الجسد وعلاماته. ولديه منهج جديد: موسيقى مرتفعة، أعين معصوبة، منع من النوم، حبس انفرادي طويل الأمد وتطبيق تجارب “العجز المكتسب” التي جُربت على الكلاب.

تعريض المعتقل لضوء شديد وحشرات مقرفة وماء بارد ووقوف لوقت طويل واحتجاز في مكان ضيق، وإيهامه بالغرق… هذه أفعال تقهر كل البشر بغض النظر عن لغاتهم ودياناتهم.

اقتنع محققو المخابرات بأن ذلك المهرج بارع في خلق الجحيم للمعتقلين بأساليبه البافلوفية الجهنمية في سلب الإحساس بالسيطرة.

عندما جاء الطبيب النفسي المجنون لم يعد التحقيق عقلانيا وقانونيا. لماذا؟ لأن الطبيب النفسي داهية يشتغل على الغريزة. على الجهاز العصبي. يشتغل بقاعدة بسيطة “الناس المرهقون يفصِحون عن الحقيقة”.

في فيلم بيتر سيلفان “هوس سري” (2019)، ينقّب محقق أفروأمريكي حزين عن أسباب صدمة عروس لم يسْعد بها زوجها، تبذل جهدا لتتعرف عليه وهذا يعمق الأزمة النفسية للمحقق. تُقدّم كل هذه المعطيات في أقل من ربع ساعة بعد بداية الفيلم. ما الذي سيجري انطلاقا من هنا؟ للإجابة ينفتح السيناريو على آفاق جديدة…

الدافع إلى التحقيق هو الشك في الوغد. تحقيق مزدوج نفسي وبوليسي مكتوب بسرعة. تبحث العروس في ذاكرتها المفقودة عن ماضيها لتفهم حاضرها بعد الحادثة، ويبحث المحقق بمسافة شك في الحادثة التي يفترض أنها جريمة مدبّرة.

نقل الوغد العروس إلى مكان معزول ليسيطر عليها… يتوهم أنه يمكن أن يقمع ويغتصب ويسيطر على شابة متعلمة متفوقة مستقلة اقتصاديا وواثقة من نفسها.

يقف المحقق ليفحص “الحالة” (le cas)، فيلاحظ أن للعروس ماضيا تعليميا مجيدا، ويستنتج أجوبة تفيد بأن زوجها الحالي لا يلائمها. ثم يفحص الصور ويصوغ منها فرضيات تقود خطواته في المراحل الموالية ليكتشف الحبيب الحقيقي… حين يكتشف المحقق معلومة جديدة عن المجرم يعرفها هو والمتفرج فقط، بينما لا يعرفها المجرم. أي متعة أن يشعر المتفرج بأنه يعرف أكثر من المجرم.

في فيلم “هوس سري” كان المجرم مريضا نفسيا وكان المحقق عاقلا، بينما في فيلم “التقرير” يبدو أن المحققين هم المرضى ويتعاملون مع إرهابيين أشد عنفا ومرضا.

في فيلم “التقرير” تحقيقان؛ تحقيق علني طلبه مجلس الشيوخ عن تحقيق سري أنجزته المخابرات باسم “برنامج الاحتجاز والاستجواب” التي تسبب الألم للحصول على المعلومات لمحاربة الإرهاب.

يقود دانييل جونز (أداء أدام دريفر) تحقيقا جد موثق عن خروقات المخابرات الأمريكية، لكن بعد تحرير التقرير يتم طمس أسماء مسؤولين وبلدان استضافت سجونا سرية لتشجيع الإفلات من العقاب. يعكس جنريك النهاية فكرة الفيلم بشكل رفيع.

يقدم الفيلم صورة ناصعة لعضوة مجلس الشيوخ، الشخصية العادلة والمحققة، وبفضل دعمها يكتشف المحقق أساليب تعذيب مارستها المخابرات وسمتها بأسماء أخرى للتمويه. هذا تعذيب بمنهج علمي نفسي مسموح به ضد أناس لا يؤمنون بقيم الحداثة الغربية. المهم ألا تخسر المخابرات ضد الإرهابيين مرة أخرى. وبما أن ابن لادن قد قتل، فكل التحقيقات سليمة. الغاية تبرر الوسيلة.

بمقارنة الفيلمين، يظهر أنه في جل أفلام التحقيق تعطى الأسبقية للحِبكة (متوالية الأحداث) على حساب رسم الشخصية… كل توقف لتعريف الشخصية يضر بإيقاع الأحداث.

كل تحقيق في السلوك والجرائم وردود الفعل هو تحليل لشخصية صاحب ذلك السلوك. هكذا تستثمر الكاميرا ثمار المدرسة السلوكية في علم الاجتماع.

يضمن تصويرُ الحبكة السلوكية دوام شك المتفرج طيلة الفيلم.

كيف؟

بالتدرج في كشف المعلومات المتحصلة من المراقبة بواسطة كاميرات أو تسجيل صوت أو تقصي أثر أو مراقبة هاتف أو كشف بصمات أو استجواب حراس ونُدل لتنويع مصادر المعلومة، ثم مقارنة أدوات الجريمة وتحليل حمض نووي من طرف الشرطة العلمية لإثبات الجريمة أو البراءة. وتأكيدا على أهمية المعلومات، ففي حوارات أفلام التشويق جمل قصيرة فيها أرقام ومعطيات وتواريخ وأدلة وأدلة مضادة. لا مكان للجمل الإنشائية.

يمكن لقارئ المقال أن يفحص هذا لأن الفيلمين متوفران على نتفليكس وبريم فيديو.

يركز التحقيق البوليسي على ما يجمع كل البشر بغض النظر عن لغاتهم وأديانهم. والتحقيق، سواء كان بوليسيا أو صحافيا أو طبيا، هو أرقى أشكال البحث في حالة محددة باستخدام كل ما حصلته البشرية من مناهج بحث لتجنب الخطأ وإدراك الحقيقة. كل بحث لا ينطلق من حالة محددة يظل مجرد ثرثرة.

ما وجهة النظر التي يدرك بها المتفرج الأشياء؟

حين يصل المحقق والكاميرا إلى موقع الجريمة لا يعرفان شيئا، وهكذا يُعتمد منظور كاميرا تجهل ثم تكتشف، تتقدم معرفة المحقق والمتفرج بالوتيرة نفسها لكي لا يفقده في رحلة البحث، لذلك تستثمر المعرفة الأنثروبولوجية بالإنسان. وهو ما استعمله المحلل النفسي لإرهاق الإرهابيين المعتقلين.

يعيش المتفرج تجربة المحقق الذي يفاجأ ويتساءل في كل مرحلة “ماذا لدينا هنا؟”.

لدينا تقرير يدين المخابرات في عهد باراك أوباما عن أفعال جرت في عهد بوش جينيور.

ماذا لو نشر التقرير؟

الجواب: سيتسبب في ألا يصل رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض مدة عشرين سنة.

على أساس هذا الافتراض، سيفوز دونالد ترامب إذن مرة ثانية، وزوجته بولاية ثالثة.

الفن صراع في ميدان معرفي راق محدد بدقة متناهية، وليس مجرد حوار إنشائي يصور في لقطة في غرفة.

‫تعليقات الزوار

2
  • oujda rennes
    الثلاثاء 15 شتنبر 2020 - 07:14

    شاهدت فيلم التقرير على منصة amazon prime video حقيقة فيلم جميل جدا من الأفلام القليلة التي تفضح المخابرات الأمريكية

  • حنظلة
    الثلاثاء 15 شتنبر 2020 - 11:17

    شكرا لك على هذا التحليل الشيق.فلولا السينما والصحافة لما تم فضح الخروقات .شيء جميل ان يستطيع فيلم او صحافي بالاطاحة برءيس متال (إيران كيت) أو بنظام مستبد.

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 2

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 9

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء