نحن نكذب جميعا

نحن نكذب جميعا
الأربعاء 23 ماي 2012 - 01:59

نحن نكذب جميعا كل يوم. نشتري سلعة من السوق ونعرف أن البائع يخفي ثمنها الحقيقي، فالتجارة تواطؤ ضمني بين طرفين على كذبة مربحة، وعندما تضع قدمك في السوق، عليك أن تردّد المثل الذي يقول:” كل حقيقة ليس من الجيّد الاعتراف بها” لأنها قد تكون صادمة أو جارحة للآخر، ومن يشتري كذبة البائع، هو مقتنع باللعبة وبالسوق، ويضع رأسه مع أشباهه لقَطّاع الرؤوس. الثقة التي تبنى بين البائع والمشتري تكون على أساس الربح بين الطرفين وليس على صدقهما، فالمشتري من المفترض أن يعرف السوق ويبحث عن الذي يمنحه أقل ثمنا لأجود سلعة، لذلك أصبحت بعض شركات التجهيز والالكترونيات الكبرى في العالم في ظل المنافسة المحمومة والشرسة بينها، تمنح المشتري فرصة التأكد من أثمنة سلع السوق، وكي لا ينافسها أحد، تعدك بسعر أقل أو تعويض فرق ثمن السلعة، في حال العثور عليها بثمن أقل عند متجر آخر.

كل الأديان السماوية والأرضية ترفض الكذب. المتديّنون، رغم اختلاف معتقداتهم، يحاولون أن يكونوا صادقين مع الله وذواتهم والآخرين، لكن اللغة التي يتكلّم بها الإنسان كذّابة بامتياز، فهي تتأسّس على بلاغة الكذب، وعندما كان يصف العربي وجه المرأة بالقمر، فاللغة تورّطه في فخّها وتصنع حقيقتها الخاصة.

الشعراء أكبر الكذّابين، وبالنهاية “يتبعهم الغاوون” في غيّهم، ومن انتبه منهم إلى فخّ اللغة الاستعاري، يهبطون بها إلى قعر التوصيف الإنساني، ويتحوّل وصف المرأة بالقمر إلى وصف أكثر واقعية، فتصبح بكلمة سحرية واحدة غزالا أو فرسا أو ناقة، وهي كلها صور شعرية أقرب إلى جماليات الواقع، قد تصل إلى جماليات البشاعة عند شعراء كانوا صادقين أكثر مع ذاوتهم والعالم المحيط بهم، ولم يعودوا يرفعون رؤوسهم إلى ميتافيزيقا الأعلى بل يحفرون بلغتهم في الأرض.

وحدها اللغة تسمح بالكذب الشعري. وكل الكتب المقدّسة، حاولت أن توصل حقيقتها عبر اللغة، لكنها ميّزت بين الأنبياء والشعراء حتى لا تختلط علينا أوجه الحقيقة التي تصوّرها اللغة بمكر وتلاعب بالمعاني. شاعرنا العربي الأول، أبو الطيب المتنبي، كان أكبر الشعراء العرب المتمكنين من ناصية اللغة وقواعدها، وإن كان الكثيرون يكذّبون رواية ادعائه للنبّوة فإن اسمه اقترن بها بالنهاية، حتى أن البعض يحكي أنه رأى معجزة من معجزاته وهي “صدحة المطر” أي أن كلامه الغامض كان يوجّه به المطر أو يحبسه عن منطقة معيّنة، وهي حيلة كان يمارسها العرب قديما. لنترك خزعبلات الشعر، ولنتأمّل سلطة المتنبي السياسية في عصره، فهجاؤه ومدحه للملوك كان لا يخلو من ممارسة سياسية، تصبح فيها اللغة أداة حقيقية لصنع صورة ما عن السلطة والسلطان، فلغة المتنبي كانت جدّ مؤثّرة، إلى درجة أنها قد تعلي من قيمة وقامة كافور الإخشيدي أو تسحله سحلا أمام العامة من الناس.

الشعراء والفلاسفة والساسة يكذبون بلا ريب، ولأن عصر الأنبياء قد انتهى، فقد أصبحنا في مواجهة يومية لحقائق هؤلاء وهم يلفّونها في تلفيف اللغة. الفلاسفة السوفسطائيون استطاعوا أن يطرحوا الحقيقة ونقيضها للنقاش، أما الساسة فبرعوا أكثر من غيرهم في بلاغة الكذب الحديث، وضمّنوا خطاباتهم كل أساليب الإقناع الإيديولوجية، ونحن نرى اليوم كيف يحاول الإسلاميون بكل مللهم ونحلهم، أن يعرضوا سلعتهم السياسية وعليها ختم ديني “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. فهل كذب عبد الاله بنكيران على المعطّلين، عندما وعدهم بحلّ كل مشاكلهم قبل صعوده لرئاسة الحكومة؟ أبدا، فالحقيقة السياسية لها عشرة أوجه، وعندما يناور بنكيران (أو سلفي مصري) فهو يعرف أن حبل الكذب قصير، لكنه يطول ويشتدّ عندما تدخل السياسة على الخطّ الديني. ما يطالب به المغاربة الآن، أو كل الذين خرجوا إلى ميادين التحرير، ليس أخلاق “الخلفاء الراشدين” وصدقهم، لأن الأخلاق تتطوّر مع تطوّر المجتمعات، وهذا ما نبّه اليه بذكاء الكاتب المغربي الشاب سعيد ناشيد عندما قال:”في المجتمعات القديمة كان تزويج طفلة صغيرة دون سن 12 يعدّ فضيلة، كانت مشاركة أطفال دون سن 14 في الأعمال القتالية يعدّ بطولة، كان القتل والاغتصاب أثناء الحروب حقا من حقوق المنتصرين، كان تنفيذ الإعدام أمام مرأى الجمهور نوعا من العدالة. لكن ضمائرنا لم تعد اليوم تتحمل مثل هذه الأعمال. فقد صرنا ميالين إلى تجريم الكثير من فضائل القدماء.” مازال الاسلاميون يتوهّمون أن الديمقراطية والحداثة والحرية بلا أخلاق، حتى وهم يكذبون على أنفسهم ويمارسونها. فهؤلاء لا يؤمنون بتراكم القيم وتاريخيتها، لذلك يقترحون علينا حلّا سهلا، أن نعيش معهم في الماضي غرباء عن الحاضر، فإذا قالت العرب أن “أعذب الشعر أكذبه”، فإسلاميونا يصرخون اليوم “أصدق سياسة أكثرها تديّنا”، وسنصدّقهم.

‫تعليقات الزوار

13
  • عبد الله
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 02:15

    تكلم عن نفسك يا أخي ولا تقل كلنا لأن هناك منا من لا يكذب لو قلت كلنا نخطأ لكنت متفقا معك فليس منا من هو معصوم من الخطأ لكن بالنسبة للكذب فهناك من ضحى بنفسه أو بحريته بسبب صراحته .

  • واحد من البشر
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 04:31

    لا زالت ذاكرتي الضعيفة تحتفظ بإحدى العبارات لرئيس الحكومة الحالي السيد عبد الإله بن كيران في إحدى خطبه قبل الفوز في الإنتخابات حيث قال صراحة أنه ليس على على كل الشباب العاطل الحامل للشهادات العليا أن ينتظروأ كلهم الوظيفة…و قد أدرجت الصحيفة الإلكترونية هسبريس شريطا مصوراً للسيد بنكيران يؤكد ذلك…فلماذا تكذبون على الرجل و تقولونه عكس ما قاله؟
    أتمنى أن تحترموا ذكاء المواطن المغربي، و تنشدوا مصلحته حقا بتقييم و انتقاد أعمال و مبادرات و أنشطة الحكومة الحالية عوض إقحام المواطن المغربي في حسابات حزبية لكم زحدكم و لأوليائكم المصلحة فيها.

  • اعوذ بالله من االكذب
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 08:38

    حاشا و كلا فنحن نصدق في بيعنا و شرائنا و معاملاتنا الا ما اقتضت فيه الظروف ربما قد تكون قصد الاصلاح بين ذواتنا و اذا استعملنا الكذب حتما سيتحالف معنا الشيطان بزبانيته و لربما ما مارسناه من تجربة سابقة في شتى انواع الكذب المقرف ان تم تطبيقها على ارض الدنيا حتما ايضا لن تقف امامها اعتى الدواهي فنعوذ بالله من الكذب فالمؤمن لا يكذب

  • Moroki
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 17:40

    عدم الافصاح عن السعر الحقيقي للسلعة ليس بكذب. الكذب هو ان يُسأل البائع عن التمن الاصلي لسلعته ويقول انه اشتراها بأكثر او اقل مما دفع ثمناً لها. ثم ان التاجر غير مرغم على التفوه بالسعر الاصلي للسلعة لان بعض التجار افلح من تجار آخرين فبعضهم يشتري من محل تجاري كبير ويريد تحقيق ربح خفيف وسريع وبعضهم يكد ويجتهد لاقتناء سلعه من المعمل او المصنع بثمن بخس يمكنه من ربح اكبر والتجارة شطارة والتاجر مطالب فقط باشهار الثمن اللدي يطلبه مقابل السلعة.

    كلمة كذب معروفة ومعروف معناها ولا داعي لتوضيح الواضح.

    يا اخي تكلم عن نفسك, ادا كنت تكذب كل يوم فذاك شأنك, اما عامة الناس فيذهبون للسوق بنية التسوق ويسألون عن ثمن بيع السلع لا ثمنها الاصلي ولا احد يسأل التاجر بكم اقتدى سلعته وكم يريد ان يربح فيها, الا ادا كان التاجر كذاباً وبدأ بتاليف القصص فذلك شانه ولا يمكنك ان تعمم هده التصرفات.

    اول جملة في مقالك منطقها خطأ وبذلك فمقالك مبني على خطأ.
    واستنتاجه حتماً خطأ.
    انشر واقبل الانتقاد بروح رياضية.

  • هوري
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 20:07

    كل هذه المقدمة الطللية لتقول ان الاسلاميين كذبهم يغطون عليه بالدين هذا منطقك وتحليلك،،،هل حقيقته مطلقة،ام نسبية؟واذا صرحت بانك تكذب،،،فتكون استنتاجاتك،،،،

  • حكيم
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 20:40

    اخي هشام شكرا على مجهودك

    انت دائما متالق كالعادة.

    موضوع الكذب موضوع مهم وشاسع.

    نحن تربينا لى النفاق والكذب نحن الامة الاكثر كذبا في العالم بدون منازع .

    قلت : كل الأديان السماوية والأرضية ترفض الكذ ب.

    لست متفقا معك فالاديان بنيت على الكذب كمبدا التقية مثلا .

    اجمل التحيات.

  • bèrbère
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 21:29

    الكدب في التجارة .هو ان تحلف وتشكر في السلعة وانت لست سواء مشتري وتعيد بيعها .اما السعر فكل حر في الثمن وكيف يكسب ماله بالحلال والمشتري لايشتري حتى يستفسر عن ثمنها في اكثر من مكان.
    والناس عندما تكتشف ان التاجر يبيعها سلعة فاسدة تستبدله ولاتعودعنده.وعندما تكتشف ان هناك تاجر يبيع ما تريد بالمواصفات التي تريدها وبثمن يريحها تضل تشتري عنده.

  • عبد الرحملن بلحداد
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 23:36

    حينما لا تجد الحرية الفردية لنفسها مجالا وفسحة كما يحدث في بلادنا الإسلامية فهل ستنتظر من الفرد أن يكون صادقا وهو مطالب بالكذب حتى لا ينال جزاءه من المجتمع ومن الإدارات الحكومية بشتى تلاوينها؟ فالمرأة تكذب على زوجها لأنها تعرف رد فعله وهو يقوم بالشيء ذاته للسبب ذاته أو لغيره ويشمل هذا كل أنواع الروابط العائلية. لا يمكن أن تتغير أحوالنا للأفضل إذا لم ندافع عن الحريات الفردية، حيث بعد ذلك، فقط، سوف تكون العلاقات بيننا شفافة ولن تكون أنت مطالب أماني ولا أنا أمامك بأن يكون ذوقنا وفكرنا وميولانا متشابهة فيما بينها أو مشابهة للذوق العام. من ليس حرا في ذاته ومع ذاته وأمام غيره لن يكون صادقا مع نفسه ومع غيره.

  • عبد الرحمان المراكشي
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 23:47

    في أول يوم وصلت فيه إلى البرازيل أحسست أننا لم نكن ننافق فقط بل نكذب كثيرا، نعم كلنا ودون استثناء. كل عربي تعرفت عليه في البرازيل قال لي ما يلي: أفضل أن أتعامل مع برازيلي وأنا أصادقه على مصادقة عربي يراقبني و يلومني على فعل يفعل مثله وإذا أردت السلامة أتبادل وإياه مجاملات وأكاذيب ويرضي بعضنا بعضا، بينما البرازيلي لا يهمه موقفك منه ولا أحد منهم يعيب على الآخر ما يفعله أو يقوله. حقيقة من ليس حرا، والأدهى من هذا، من لا يعرف أنه ليس حرا فهو يكذب في أشياء وأمور كثيرة. ذلك أن الخوف من الناس يجعل بعضهم يساير البعض ولا يفشي بحقيقة نفسه وفكره وذوقه حتى لا يسقط من أعينهم وبهذا نبدأ مسلسلا غير منتهي من الكذب.

  • amine
    الأربعاء 23 ماي 2012 - 23:48

    il faut contextualiser le modernisme.ce concept est apparue en occident quand l'église avait le monopole de la vie economique.spirituelle et politique.certains philosophes se sont révoltés contre cette situation.les conséquences de cette révolte a donné naissance aux états laiques en occident.séparation de la religion de la vie politique et renègation du passé.les pays musulmans ne seront jamais ni laiques ni modernistes.la religion fait partie intérgante de notre vie quotidienne.meme en occident on ne parle plus de modernisme mais de post-modernisme c'est à dire le retour aux valeurs du passé.

  • kaoutar
    الخميس 24 ماي 2012 - 09:20

    !merci hicham excellent article

  • بلقاسم
    الخميس 24 ماي 2012 - 16:28

    فهل كذب عبد الاله بنكيران على المعطّلين، عندما وعدهم بحلّ كل مشاكلهم قبل صعوده لرئاسة الحكومة؟
    سيدي راجع كل تصريحات وخطب السيد بن كيران قبل وبعد الانتخابات واتيني بدليل واحد على انه وعد المعطلين جميعهم بالتوظيف
    ثم انك من خلال تعميم الاحكام قد خرجت من دائرة الناقذ الى دائرة المتحامل فكيف يروق لك ان تتحدث عن الاسلاميين جميعا وما يضيرك ان وصل الاسلاميون الى الحكم اليسوا مغاربة مالك تحكم بهداالمنطق المزدوج . الحكم للاصلح وليس لمن هب ودب. ومن قال لك ان تعيش في الماضي واي اسلامي يقول ذالك؟؟ لقد يئستم معشر العلمانيين الحداثيين ولم يعد بايديكم الاسياط السب والقذف والكذب على الناس والتزليف.
    ان من حسن الاخلاق الصدق مع النفس قبل الاخر والتريت في الاحكام. ومن تمام المروءة الاعتراف بالتقصير او عدم فهم لقضية ما او وضع ما
    اتركوا الاسلاميين وشأنهم ودعوكم من المناورات السياسية فالشعب قال كلمته وانتم بقيتم على هامش التاريخ ولن يرحمكم دارسوه

  • TAWNA NABIL
    الخميس 24 ماي 2012 - 18:07

    Il faut critiquer les idées et non les personnes. vas y méditer un peu et faites travailler votre raisonnement afin d'exprimer des idées bien fondés et raisonnables, apprenez a faire du critique constructive

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة