وما العمر إلاّ لحظة..

وما العمر إلاّ لحظة..
الأحد 16 دجنبر 2012 - 18:04

تغيب عن سمائنا شموس كثيرة وتنسحب من تحت أقدامنا السنوات تلو السنوات، فيمررّ الزمن يده الخشنة على أجسادنا و يسكب في أرواحنا مذاقه المرّ، لكن هل يحدث لنا أن نتوقف لحظة و لو وجيزة لننظر داخل أعماقنا بحثا عن تلك الحقيقة المنفلتة التي اسمها العمر؟ … كيف نعيشها وهل نشعر بتلك الحركة البطيئة غير المرئية التي اسمها الزمن؟ كيف نكبر؟ و هل نستطيع أن نحدد حجم التحوّل الذي حلّ بنا؟ ماذا يتغير فينا بالتحديد؟ متى نشعر أننا أصبحنا “كبار” ولم نعد أطفالا؟ ما هو السن الذي “نحسّه” هل هو سننا في بطاقة التعريف أم سنّ أصغر أو ربّما أكبر؟ باستثناء شيخوخة أجسادنا و حاجتنا المتزايدة للمراهم المضادة للتجاعيد و الأصباغ التي تستر الشعر الأبيض، ماذا يحدث فينا أيضا؟؟؟؟

تحدث أمور كثيرة.. بالتأكيد .. و”ما العمر إلاّ لحظة ” قالها الشاعر.

العمر هذه البوصلة السرّية التي توجّه الأجساد يوما بعد يوم رأسا نحو النهاية، نحن لا نعيه بنفس الحدّة ولا نولي له جميعا نفس الانتباه.

أعرف الكثير من الشيوخ في عمر الزهور كما أعرف الكثير من الشباب في سنّ الشيخوخة. محظوظ بالتأكيد من استطاع أن يحافظ على وهج الشباب داخل قلبه.

لكنّ محظوظي الشباب الدائم في بلدي ليسوا كثيرين للأسف،هذا من جهة و من جهة أخرى يظل المغرب مثله مثل جميع البلدان حديثة العهد بالنمط العصري، بعيدا عن الوضوح العلمي في تصنيف الأجيال. المغاربة مثلا، و حتّى وقت قريب لم يكونوا لينجحوا في تحديد العمر الذي يدخل فيه أبناءهم سنّ المراهقة و العمر الذي “يخرجون” فيه من هذه المرحلة. فالمراهقون الذين ينتشرون حولنا اليوم ككائنات مشوشة تغطي وجوهها البثور و تنزلق سراويلها نحو الأسفل، لم يكن لها وجود قبل اليوم، فحتى زمن غير بعيد كان المراهقون في المجتمع التقليدي هم أنفسهم الآباء والأمهات و كانوا مثل جميع الآباء غارقين في هموم اليومي و احتياجات الأبناء، الأمر الذي كان يصرفهم عما يعتمل في أجسادهم و أنفسهم من اضطرابات و حروب ضارية.

ثمّ لنتأمّل قليلا طفل اليوم، هذا الكائن العجيب الذي أصبح يصول و يجول داخل الأسرة الحديثة، مهيمنا على فضائها و موجّها كلّ اختيارات و قرارات الأبوين، هذا الشخص الصغير المحبوب من الجميع لم يكن دائما متربّعا على عرش الأسرة كما هو حاله اليوم، بل كان وكما نعرف جميعا أحد أهمّ “المشاريع” الاستثمارية للآباء حيث كان يساهم بدوره في اقتصاد القبيلة، (لا بأس أن نتذكر هنا آباءنا الذين لم يكونوا “أطفالا” تماما أو بما يكفي..) كان الطفل في الماضي مسؤولا عن نفسه بل وأحيانا عن غيره.

إنها بطبيعة الحال العادات والتقاليد التي تتدخل في عملية ترتيب المراحل العمرية، القفز عليها أو حتى إلغاؤها، الوضع الاقتصادي أيضا “تدخل” و لا زال يتدخل في تحديد السنّ ليس فقط من خلال زحف الشيخوخة المبكّرة على وجوه الفقراء بل حتّى على مستوى تصنيف الناس داخل المجتمع. سنّ الشباب مثلا، قد يتوقّف عند عتبة الباب المؤدي للحياة الزوجية و همومها، فكثير من المتزوجين “يتنصّلون” من شبابهم لينضموا إلى عالم الكهول للاستفادة من امتيازاته الاجتماعية. أمّا تأخر فرصة الحصول على عمل فتؤخر بالضرورة سنّ الشباب. سمعت أحد السوسيولوجيين سابقا يتحدّث عن سنّ الشباب الذي يطول ويتمدّد كلّما طالت و تمدّدت فترة البطالة، هذا ما يفسر لماذا يظلّ عاطلو الحي مثلا “دراري” في عرف سكانه حتى و لو تجاوزوا الخمسين من عمرهم.

هي أوضاع اعتبارية متحرّكة في الزمان و المكان، لا تقف عند سنّ بعينه أو عند جنس دون آخر، فالشيخوخة عند النساء عادة ما تبدأ مع انقطاع الطمث (انتهاء الوظيفة البيولوجية). وقد اعتدنا أن نجري تلك المقارنات بين “عجائزنا” العربيات والعجائز الغربيات ونلاحظ الفرق الشاسع بينهن. ظلّت النساء في النمط التقليديّ المهيمن في بلداننا ينتقلن مباشرة إلى السنّ الأخيرة في الترتيب العمري أحيانا قبل انقطاع الطمث. فكبار السنّ في المجتمع لهم وضع اعتباري، إذ لا تزال كفّة التقليد راجحة في ميزان القيم، لهذا السبب نجد أنّ مقاومة مظاهر التقدم في السن لم تكن أبدا انشغالا أساسيا، بحيث لن يثير دهشتنا أن نسمع سيدة في الأربعين مثلا تتحدث بصيغة الماضي عن اهتمامها بأناقتها وعنايتها بجمالها “عشنا و لبسنا وتمتعنا و دابا نتسناو حسن الختام”.

حسن الختام قد يبدأ قبل وقته القانوني بسنوات و ليس في الأمر زهد في الحياة بقدر ما له علاقة بعودة قيم القبيلة وعودة سلطة الجدات( الحاجات الوقورات) إلى واقعنا الحالي في ظلّ مقاومة كلّ مظاهر العصرنة و التقدم.

ومن كلّ هذا التحليل، يظلّ العمر مجرد لحظة على رأي الشاعر .. مهما طالت فهي قصيرة.

‫تعليقات الزوار

14
  • taounati
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 21:22

    تحليل جيد وقراءة صحيحة وتشخيص اكثر من واقعي للمراحل العمرية داخل كل المجتمعات وخصوصا المجتمع العربي والمغربي بالتحديد.. لكن في نظري وزيادة على دور العامل الاقتصادي والموروث الديني والثقافي في تحديد مراحل العمر.. يبقى الواقع كدلك العنصر الاهم في هدا التحديد ولا يمكن تجاوزه الى واقع اخر له ظروفه وثقافته وبيئته المختلفة عن واقعنا.. فالواقع يحدد الفكر ومن هنا لا يمكن الحديث عن فكر شاب داخل مجتمع مترهل والعكس صحيح.. ومرة اخرى تحية للاستادة المحترمة ومزيدا من المثابرة والتالق والسلام.

  • هدى
    الأحد 16 دجنبر 2012 - 22:11

    مقال رائع و أسلوب جميل
    فعلا السن لا يتحدد بسنة الإزدياد ، السن هو ما نحسه داخلنا ، شيئ نسبي يختلف باختلاف الأشخاص ، وما أحلى شباب القلب حتى لو كان الجسد كهلا
    بالتوفيق لطيفة باقا

  • bouih mohamed
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 00:10

    تعب كلها الحياة ,استاذة لطيفة ولقد وقفت وقفة ذلك المحارب ,حيث تاملت ما يسمى بالعمر او الزمان وهذه الارض التي نتناسل فوقها والمراحل التي يمر منها هذا الكاءن (البشري)الغريب الطباع منذ نعومة اظافره والمراحل التي يمر منها ولا مقارنة بين الاجيال ووجهة نظرك تحترم خصوصا فيما يتعلق بطريقة اللباس الحالية للمراهقين هذا عصر (التيكنولوجيا وما سوقيش)ولكل زمان بشره في عدة اشياء لا تنسي اختي انه عصر السرعة وهذا ينطبق على العالم باسره بالرغم من الاختلاف في الاقتصاد والدين وعدة اشياء ولا مجال للمقارنة بين عجاءزنا و عجاءزهم لان عامل الوعي والثقافة والامية والجهل لهم دورهم في كل مجتمعات الدنيا وبامكاني الجزم ان اكثر من 90%من النساء العربيات والمسلمات لهن اقتناع على ان مهمتهن تنتهي بتزويج ابناءهن وبناتهن والحج بالرغم من سنهن الاربعيني وكما تفضلت بالقول بالعودة الى سلطة الجدات وهذا ارث لابد للاعتراف به ويصعب التماس تغيير في على المدى القصير من جيل تشبع بثقافة الجدات مع العلم ان هناك دول لا زالت تتذخل في لباس المراة وتمنعها حتى سياقة السيارة مع العلم "ما العمر مجرد لحظة" مهما طالت فهي قصيرة .

  • عبد الرحمن ابن عبد الله
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 11:18

    موضوع له اهميته اد لو أن كل شخص يستحضر طفولته لصار العالم طاهرا بريئا ولتبرأ من الوحشية والدناءات – الانسان دكرا أو أنثى عندما يتدكر طفولته – فانه يسترجع في واقعه حالة باطنية هي نفسها البراءة التي يراها في صوره الدهنية وعندما يتدكر هدا فانه يرفض كل ما هو غير فطري فيه من – جبروت وافساد – فكل واحد منا يسكن داخله طفل فطري والعيب أو التقص الأكبر هو عدم محاولة استدكار تلك الطفولة الطاهرة – اد لو أن مثلا الطغاة تدكروا طفولتهم – ما قتلوا الأطفال وما أفسدوا في الأرض لكن حبهم للدنيا يعمي قلوبهم فيوهم المستقبل ويطنون أنهم غير ميتين بل خالدين – ان هي الا حياتنا — — — وما يهلكنا الا الدهر – صدق الله العظيم- في المقابل الدي أو التي تتدكر طفولته البريئة يرى في كل من يصادفهم أومن يتعامل معهم على أنهم أطفال فيتدكر أن في حال الطفولة لا شيء الا الطهر فلا يملك الا أن يعامل بالطهر – فالأطفال عندما يلعبون فكل لعبهم طهارة لا يشىبه افساد أو ضر وأدية – فكلما رجع الانسان بنفسه الى عمر طفل لا وتخلص من المكتسب الدي ينافي الفطرة – شكرا على اثارة الموضوع

  • محمد
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 11:30

    استمتعت بقراءة مقالك وتذكرت يوم حضرت الى كلية الاداب والعلوم الانسانية باكادير في التسعينات….
    الايام والسنون تمضي و الكيس من انتبه لذلك واستعد للرحيل الى حيث الحياة الابدية
    تحياتي

  • أكادير
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 19:10

    مقال رائع شكلا ومضمونا فعلا فالعمر يمضي وليست الحياة بعدد السنين ولكن بعدد المشاعر وحجمها،،وعلينا ألانشغل البال بماضي الزمان -صخرة سيزيفـ ـ ولا بآتي العيش قبل الأوان وأ ن نغتنم الحاضر بما يرضي الله

  • Malak
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 21:51

    الزمن هو ساحل الحياة ، كلنا نمر أمامه ، ونتوهم أنه هو الذي يمر ….. مشيناها خطى كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطى مشاها …..وتبقى الحياة جميلة ، وتستحق أن نعيشها .. لكنها مجرد سراب ، قد يتلاشى في أي لحظة …..

  • ام عمر
    الإثنين 17 دجنبر 2012 - 22:43

    العمر مزرعة مباركة من لدن الكريم الجواد

    إن كانت اللحظة كفسيلة تستثمر فنعم العمر لحظة،و إلا فالعمر مزرعة فليتخير كل منا المزرعة التي يشتهي أهي تلك الموسمية أو الاصطناعية أو أو المباركة من لدن الكريم الجواد
    نعم استحضار النية في كل عمل لله يرشحك أي الإنسان الضيف ، اللحظة إلى التنعم بعمر مديد ،مبارك يمتد في الآفاق و لا ينقطع
    فاللهم استخلصنا لما يحيينا و يرضييك عنا

  • محمد
    الثلاثاء 18 دجنبر 2012 - 00:09

    من أراد أن يستمتع أكثر برثاء الشباب و سرعة فوات العمر فليقرأ شعر أبي العتاهية

  • فيلسوف مجهول
    الثلاثاء 18 دجنبر 2012 - 00:31

    مو ضوع جميل لكن حري بكل انسان ان يتوقف لحظة ولوطو يلة من حياته للبحت عن سر وجوده ومصير روحه بعد موته المرتقب في كل لحظة قبل ان يتخد اي مسار فى هاته الحياة الزائلة التي لا تستحق ولوطالت ظلم واستغلال الا خر والجري وراء السلطةوتكديس الثروة علىحساب معانة المستضعفين.

  • farisse
    الثلاثاء 18 دجنبر 2012 - 11:18

    االشيخوخة عند النساء عادة ما تبدأ مع انقطاع الطمث (انتهاء الوظيفة البيولوجية). اعاتب عليك انك امراة وتتبنين هذه الفكرة الخاطئة فلم لم تضيفي لها ان الشيخوخة عند الرجل تبدا حينما يفقد قدرته الجنسية والرجل العاجز جنسيا شيخ وانتهت وظيفته فليرمى لانه لن ينجب
    فالعطاء حسب تصنيفك مرتبط بالقدرة على الانجاب الا تعلمين ان العطاء مرتبط بالعقل فالانسان يظل يعطي حتى اخر يوم في حياته ويظل شابا فالشباب شباب الروح فالعديد من الشباب مكتئبون يائسون لان ارواحهم شاخت اتمنى ان تراجعي فكرتك فحتى العديدد من العربيات غيرن هذه الفكرة لانها خاطئة

  • عابر سبيل
    الثلاثاء 18 دجنبر 2012 - 15:11

    كم هي رائعة هذه الأسطر
    تغيب عن سمائنا شموس كثيرة وتنسحب من تحت أقدامنا السنوات تلو السنوات، فيمررّ الزمن يده الخشنة على أجسادنا و يسكب في أرواحنا مذاقه المرّ، لكن هل يحدث لنا أن نتوقف لحظة و لو وجيزة لننظر داخل أعماقنا بحثا عن تلك الحقيقة المنفلتة التي اسمها العمر؟
    ياااااااه
    آمنت بالله.

  • عبد الله اشتوكي
    الثلاثاء 18 دجنبر 2012 - 17:25

    قال الشاعر:
    نعيـــــــــب على زماننا والعيب فيــــــــنا ** وما لزماننا عيــــــــب سوانـــــــــا
    "إن الزمان شيء محايد" كما وصفه بذلك الأديب الفرنسي ERIC PIGANI
    لكن الذي يجب أن نعيب هو لماذا لم نكتشف السنن الكونية ونستثمرها لصالحنا
    يقولون "رجل واحد يوقد شمعة خير من ألف يسبون الظلام"..لا أحب أن أطيل لأن اللبيب بالإشارة يفهم..لكن الذي ينبغي أن نضع في أدمغتنا جيدا أن الأستاذ في الغرب ليس هو أستاذ العرب..الغرب اكتشف السنن واستثمرها لصالحه..فهمه الكبير هو النجاح في مهمته الرسالية التي يقوم بها ليخرج أجيال.. لكن للأسف أننا نحن العرب نريد أن نخرج أجيالا عبر مقالات في الجرائد
    أو في جرائد الإلكترونية..وننسى الأهم الأكبر وهو تربية النشأ الصاعد وتخريج قيادات الزمان..وبدائع الزمان..وأجيال الزمان والمكان…

  • أحمق بمنطق لصوص المال العام
    الأربعاء 19 دجنبر 2012 - 01:40

    بقا،اسم على مسمى،باقة ورد.أعتقد أنه بدل من النقد الغبي،تأملوا الخطاب وسياقه والذات القائلة،ثم قلوا ما شئتم.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة