الجندي في "ولد القصور"-20-: حررني الفنّ من "المعلم بُوعلام"

الجندي في "ولد القصور"-20-: حررني الفنّ من "المعلم بُوعلام"
الأحد 26 يونيو 2016 - 17:27

20
فجأة أشار “المعلم” إلى الزاوية التي وضعت فيها الشاي والإسفنج والزبدة داخل الدكان، والتفت إليّ مع ابتسامة مازلت أذكرها إلى اليوم، وقال: “السي محمد، السفنج إلى زاد برد كثر من هكا ماغادي يبقى فيه ما يتكال..قرب داك الشي نفطروا”.

فعلت ما أمرت به، وجلسنا أنا ومعلمي نأكل. كانت الأحداث المتسارعة كفيلة بأن تفقدني كل شهية، وما كنت أقدر على إخفاء ما أشعر به من ترقب، فمعرفتي بـ”المعلم” بوعلام تجعلني أوقن بأنه ليس أبدا ممن يتركون أمرا جللا كالذي كنت أنا بطله ذلك الصباح دون استفسار. كنت أضع اللقمة في فمي وأصب عليها الشاي حتى يسهل بلعها، وأنا كمن يحشو الشيء أو يملؤه دون رغبة أو شهية تُذكر.. كَسَّرَ “المعلم” الصمت وأخذ يتفنن في الخروج من موضوع والدخول في آخر، مبتعدا تدريجيا عن حدث اليوم، حتى كدت لوهلة أن أنسى أو أتناسى ما حدث، مطمئنا نفسي بأن العرسان ربما لم يخبراه عن الثمن الذي دفعوه مقابل الملابس. ووسوس لي شيطاني أنني قد أفلت بأعجوبة من مطب مؤكد. “لعله دعاء الوالدة “وقف معاك””، قلت لنفسي. دخل زبائن جدد، فأخرجوني من أحلام يقظتي، ووقفت أنا ومعلمي لنستأنف نشاطنا التجاري كسائر الأيام.

مر الأسبوع في هدوء تام دون أي حدث يذكر، في آخره سلمني معلمي أجرتي الأسبوعية كالعادة دون زيادة أو نقصان، وعلى وجهه ابتسامته المعهودة التي لا تفارقه. أردت أن أخرج فاستوقفني معلمي، وأكدّ عليّ ألا أنسى موعد غد الجمعة، قبل الشروق، حتى أرافقه إلى بساتين ابن الحداد والكحيلي، وآتي للوالدة كما العادة ببعض الخضار والفواكه. وأذكر أن موسم الرُمّان كان على الأبواب.

اِنصرف “المعلم” تلك الليلة، وتركني كالعادة لأتولى مهمة إقفال البابين والاحتفاظ بالمفاتيح. فتأكد لي أن ثقته في مازالت مستمرة؛ غير أنني ورغم تعامله الاعتيادي معي طيلة الأسبوع، كنت أقضي الليالي وأنا أتساءل عن سر تجاهله لما حدث.

في تلك الليلة التي سبقت الرحلة إلى بساتين ابن حداد، ظلت الأسئلة تطرق خلدي، ولا أجد لها في كل مرة غير جواب واحد: ضعف الأجرة، هو الذي دفعني للطمع في ما زاد عن الربح. وتقلبت في ليلتي تلك على الجمر، وأنا ألوم النفس أنني لم أترك العمل مبكرا احتجاجا على الأجرة الهزيلة التي لا تتناسب ومجهودي، دون أن أزل وأُلطخ سلوكي بطمع في ما هو ليس لي، وإن زينه الشيطان وألبسه ثوب الحلال.

خلقت الألف فرنك في نفس ابن الأربع عشرة سنة أزمة ضمير حقيقية..وإن كنت اليوم أحمد الله على هذه التجربة التي أدبتني مُبكرا، وجعلتني أضرب ألف حساب وحساب للأمانة، والتي تعتبر خيانتها واحدة من آيات المُنافق.. “الذي إذا اؤتمن خان” كما قال صلوات الله عليه.

قضيت ليلتي أتألم وأنا أفكر في كيفية التصرف إذا فاتحني المعلم في الموضوع غدا.. أأرجع تلك الألف فرنك وأطلب الصفح معتذرا من “المعلم” عن قلة عقلي وخفة يدي الطارئة؟.. وما إن أعزم أمري على فكرة مكاشفة “المعلم” حتى يأتيني وسواس معاكس يحذرني وينذرني ويَشْحَنُنِي غيظا عليه.

وما زاد الطين بلة أن “المعلم” نفسه لم يشر إلى الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، ولعله لم ينتبه للأمر أصلا، فإنْ أنا سَلَكْتُ طريق الاعتذار، جلبت على نفسي المصائب. وأخيرا اقتنعت وسلمت أمري للقدر، وأقنعت نفسي بأن شأني مع الألف فرنك، كالصائم الناسي الذي أطعمه الله، أو الشارب الذي سقاه المولى في عز صيف رمضان. واستسلمت لنوم عميق، إلى أن جاءني صوت لالّة رقية تهمس في ركوعها وسجودها لصلاة الصبح، وكم كنت أحب أن أصارحها بما حدث، ولكني خفت أن أهوي من المكانة التي وضعتني فيها تلك الأم الحبيبة.

بعد أن تناولت بعض ما تفضلت به علي من فطور الصباح من تحت القَصْرِيّة، توجهت للقاء “المعلم”، وسرنا معا إلى مربط عربته التي دأبنا على ركوبها مرة في الأسبوع للتوجه إلى بستان “ابن الحداد والكحيلي”.

ألجم الحارس الحصان وربطه بالعربة، وصعد “المعلم” وهو ممسك باللجام، وأنا إلى جانبه، واتجهنا إلى باب الخميس.

كان بُستان بن الحداد وجاره بالكحيلي كثيفَ الأشجار، دفِيق المياه، يحظى بعناية وترتيب للسواقي التي تصب في الأحواض المزهرة. تقدم “الخماس” المكلف عند وصولنا، وسلم علينا، ثم حمل السلال وانطلق ينفذ ما تعود أن يفعله من قطف للبواكير وقلع للخضار؛ ثم أمسك “المعلم” بيدي اليمنى ومشينا بين الظلال ليُنهي انتظاري الطويل، ويفرج أخيرا عما في صدره، قال:

-“السي محمد.. عمرني حرمتك من شي حاجة؟ عمرني فصلت قاميجة بلا مانفصلك قاميجة بحالها؟ عمرني سولتك بشحال بعتي هذا وهديك؟ عمرني جبت شي خضرة للدار من الجنان بلا ما تدي منها نصيبك؟ عمرني شكيت فيك؟ عمرني راقبت ليك الكناش اش قيدتي فيه؟”..

خرجت من بين شفاهي كلمة واحدة: “لاّ”

لم أشعر إلا وقد سطت يده اليسرى على يدي اليمنى بقوة لتشل حركتي وتمنعني من الإفلات، بينما يده اليمنى كانت تحت جلبابه تفك حزامه الجلدي ثم تخرجه بسرعة فائقة ليهوي به عليّ جلدًا، وهو يصيح “وعلاش تخون الأمانة.. علاش تطول يديك على اللي ماشي ليك.. علاش .. علاش.. علاش؟”

كنت أصرخ وأستغيث، وأحاول أن أبرر فعلتي بضعف أجرتي.. دام الضرب أو قل إن شئت التأديب، بضع لحظات، قبل أن يتوقف “المعلم” أخيرا، ربما لكلل السّاعد أو لعطف من جراء توسلاتي، وختم كلامه بجملة وهو لا يكاد يقوى على الحديث لكثرة عيائه وانقطاع نفسه: “مازدتليكش في الأجرة، حيث كنت كنقلب ليك على حانوت باش تدير راس مالك”.. فك يسراه عن يمناي، وبقيت أنا أغالب دموعي، وأنا كالغائب عن الوعي.

ركبنا العربة عائدين، وتحرك الحصان الأبيض..وعيني لم تجف بعد من دموعها، وقد سرى الخَدَرُ في كل جسدي من كثرة الضرب. لفت انتباهي وقع حوافر الخيل، فاستأنست بها..وذكرتني بمشهد من آخر فيلم رأيته لمحمد عبد الوهاب في السينما، وهو “يوم سعيد”. كان عبد الوهاب في الفيلم قد هرب من مختطفيه ليركب عربة شبيهة بهذه التي أركبها، وبدأ يغني للحصان “إجري.. إجري.. وديني أوام وصلني”..

ما عاد جسمي يؤلمني، وتوقفت دموعي عن الانهمار، وحده عبد الوهاب في عالم الأبيض والأسود الذي يسمونه السينما يؤثث اللحظة.. حررني الخيال من آلام اللحظة.. حررني الفن.

يتبع..

* سيرة ذاتية للفنان المغربي الكبير محمد حسن الجندي، بعنوان “ولد القصور”، تنشرها هسبريس مُنَجمة على حلقات يومية في شهر رمضان الكريم

‫تعليقات الزوار

10
  • Gyyfdfyuygf
    الأحد 26 يونيو 2016 - 18:02

    تبارك الله عليك سيف دو يزال في ايام رمضان

  • عبد الرحيم فتح الخير
    الأحد 26 يونيو 2016 - 18:18

    منتهى الاستغلال لايريد ان يزيد من اجره حتى لايستقل بداته اعرف ابناء اصحاب محلات كبيرة يشحتون الان لان اباءهم عاملوهم بنفس المنطق جوع كلبك يتبعك وبعد وفاتهم ظهر الورثة وبيع الدكان اخد نصيبه كغيره من الورثة اللدين اسسو حياتهم بعيدا عن ارتبطهم بالدكان سنة بعد دالك او اقل كان صاحبنا في نفس السوق الدي كان ابوه احد تجاره يمد يده للمارة

  • مواطنة
    الأحد 26 يونيو 2016 - 20:04

    اعجبتني القصة واتابعها باستمرار.

  • اديب
    الأحد 26 يونيو 2016 - 20:07

    ماادهشني هو اسلوب الكتابة والسرد تبارك الله عليك

  • حسن شكير
    الأحد 26 يونيو 2016 - 22:14

    أسلوب الكتابة راءع ،فالكل يعلم ان الاستاذ الجندي جبل من جبال الأطلس الشامخة كممثل سينمائي ،تلفزي و مسرحي،اليوم نكتشف لك موهبة رائعة اخرى ،موهبة الكتابة وكأننا نقرا لنجيب محفوظ ،او احسان عبد القدوس بدون مبالغة وتبارك الله عليك يا أستاذنا الكبير٠

  • محمد ب ع
    الأحد 26 يونيو 2016 - 22:29

    لم يكتف محمد حسن الجندي بالريادة في فن المسرح بالمغرب وهاهو الآن يشق طريقه نحو فن السرد بكفاءة واقتدار تذكرنا بعمالقة هذا الفن أمثال نجيب محفظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وبعض الكتاب الغربيين الذين برعوا في هذا الفن.
    حقا انه مفخرة بلاد المغرب أمد الله في عمره.

  • الوطن لا يعني دائماً الوطن
    الأحد 26 يونيو 2016 - 22:44

    للأسف لم أتابع هذه السيرة الشيقة من البداية. سأكون شاكرة لو أعدتم نشرها مرة اخرى. ألف شكر

  • حميد الزموري
    الإثنين 27 يونيو 2016 - 00:33

    الى الساءلة رقم 7

    باستطاعتك ذالك بنفسك ، عليك الزجوع الى ارشيف هيسبريس
    في اسفل الصفحة.

  • احمد
    الإثنين 27 يونيو 2016 - 01:08

    تبارك الله على استادنا الجليل السي محمد حسن الجندي عشنا مع فنه مند نعومة اظفارنا أطال آلله عمره ورزقه الصحة والعافية.

  • محمد ب ع
    الإثنين 27 يونيو 2016 - 03:21

    عند قراءة هذه السيرة تعود بنا الذاكرة الى المدينة الحمراء زمن الأربعينات والخمسينات من القرن الفارط ،بكل تداعيتها حيث نتعرف من خلالها على الأزقة بأسمائها القديمة والدروب والمقاهي والأشخاص والتقاليد والأعراف والعلاقات التي تربط بين مختلف النسيج المشكل للمجتمع المراكشي آنذاك وهي كلها أمور أوردها المؤف في قالب قصصي سمته المتعة والتشويق والفكاهة في بعض الأحيان مما يجعل هذه السيرة مصدرا مهما لمعرفة تاريخ هذه المدينة قبيل الاستقلال ،فعلى يد مؤلفها نشد بحرارة كما شددنا أيام السبعينات حينما كان يشد أنفاس المغاربة من خلال المسلسل الاذاعي الرمضاني الأزلية.

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس