تاريخ أسياد وعبيد المغرب .. رقصة الأفعى وعرائس المطر

تاريخ أسياد وعبيد المغرب .. رقصة الأفعى وعرائس المطر
الثلاثاء 23 غشت 2016 - 08:51

لا تخضع كتابة تاريخ البلدان والأقاليم لتدوينات المؤرخين ومنقولات كُتّابِ الملوك والوزراء فقط، بل إنّها واقعة أساساً على طرفي تلك السلط التأريخية، تهادنها وتتحايل عليها، على طرفيها تماماً، أي أنّها تُطوّقها وتخنقها مع الزمن بأدواتها الخاصة. الحرب تبدأ وتنتهي، بتواريخ مضبوطة وتحديات معلومة، لكن القصص المجهولة للمحاربين، المنتصرين والمنهزمين، هي الغالبة والممتدة مع أثير الأدب وخرافات المنسيّين. كيف تتداخل، على ضوء ما سبق، هيمنة الأسياد وخضوع العبيد، حتى أنّهما قد يختلطان وتنقلب الأدوار، فيصير الأسد المتشبث بأهداب العرش أفعى راقصة، جاحظة العينين ملتوية عند بوّابة الحكم؟ هل يجوز للعاهل، حامل مفاتيح المدينة ومرسي ميزان العدل، صاحب المدد الإلهي وسليل الشّجرة المباركة، أن يصير لاعباً، شاطحا وضابط إيقاعات، بمجرد ما يركع له الرّعايا بعد كلّ حفل ولاء إلى أن يختفي داخل القصر المنيع؟

لقد كان الحسن بن محمد، ثاني ملوك الدّولة العلوية بعد استقلال المغرب عن الحماية الفرنسية، مولعا بالموسيقى، إلى جانب ولعه بالتشريح والغولف. يُصرّح في حوار صحفي لمجلة “Class” الإيطالية بتاريخ 31 مارس 1987: “لمّا بلغت العاشرة من عمري، أمر والدي بتعليمي البيانو والصولفيج، ثم سرعان ما منعني عن ذلك عندما استشعر شغفي (…) لم يكن جائزا أن أجمع بين الحكم والموسيقى. منذ ذلك الحين، حُرِّم العزف عليّ”. كيف يمكن فهم قرار السلطان محمد الخامس، وهو يصادر رغبة وليّ العهد آنذاك؟ هل تفسد الموسيقى إتزان الحكم كما قد يُخرج الشِّعر الحقيقة عن قِوامها؟ لعلّ الأب خاف على ابنه أن يصير ثعبانا، فتأكله الجوارح أو ترميه القردة بالعصي. أو لعلّ الابن ابتغى ولوج بريّة الحُكم وفي يده صولجان وبندير.

سيادة الأفعى

المحرار يشير إلى 45 درجة. يفترش المُروّض الخمسينيّ سجّادته وسط ساحة الهديم بمكناس (المغرب)، يضع صناديق الثعابين والحيّات، الواحد جنب الآخر، ويُخرج نايه. على مقربة منه، رجلان ذوا ذقن وشعر طويلين، رثا الملابس، نقول عنهما “هدّاويان” أو “بوهاليّان”، حسب الانتماء للطائفة الصوفية. يوقدان نارا ويُحرّكان دفّيهما المصنوعين من جلد الماعز فوقها، ثم يشربان الماء السّاخن وينفثانه صوب الفضاء، وهما يُتمتمان بعبارات غامضة، فيلتفّ حولهما جمهور غفير. تشرع الجوقة في دقّ الدفوف وضرب الطبلة ونفخ النفير، فتخرج الأفاعي مختالة من قلب الخشب، مائسة بين المتفرجين. يزحف الحيوان ويتلوّى، ويجعلنا نعتقد إنّ أصوات الآلات الموسيقية تهيّجه وتستفز حواسّه. وما تلك بيمينك يا موسى. الأفعى في حقيقة الأمر هي من يضبط المقام ويسوّي النغّمة، فهي رمز الصحة والجبروت، وعلامة كلّ التحولات السّلطوية. لا يمكن للناي إلا أن يكون خاضعاً لسيادتها اللاّسعة.

يتشكّل الشّعار السياديّ للمغرب الحديث، بالإضافة إلى القمة المتوجة بالزخارف والجواهر والدرع المُرصّع بالشّمس والجبال والحقول والقاعدة المضروبة بـ”إن تنصروا الله ينصركم”، من دعامتين سياديّتين يُرمز لهما بأسدين أطلسيين: أسد اليمين ينظر إلينا، نحونا نحن الرّعايا، فاتحا فاه كأنه يزأر فينا، وأسد اليسار متنمّر يدير وجهه نحو التّاج. أسد لنا وأسد علينا، وحيّات ملقاة في السّاحات. يورد التوحيدي في أخلاق الوزيرين ما يلي: “وقلتَ والعامة تقول: من جعل نفسه شاة دق عنقه الذئب، ومن صيّر نفسه نخالة أكله الدجاج، ومن نام على قارعة الطريق دقته الحوافر دقا”. إنّ عهد الأفعى غير مأمون له، وإنْ أحسن إليها الأسد، فإنّ لدغتها منشطرة، مثل لسانها، إلى غايتين اثنتين: حماية الوادي واسترداد الغابة.

عرائس المطر

لم يكن للمغاربة القدامى، كشعب يقطن أرض مغيب الشّمس الممزقة بالمعارك والأوبئة، دور بالغ في تشكيل رصيد علمي كبير، واكتفى السكان لقرون طويلة بمزاولة أنشطة زراعية وعبادات وثنية مطبوعة بالكتابة على كلّ من الجسد والتربة، والرقص لهطول الغيث. يكتب الخطيبي في النقد المزدوج: “المغرب القديم لا أبجدية له، يدخل في جسم الشعب. في جوف الطغيان التاريخي. وهو دخول مجيد أحياناً: في الأدب العربي (الدنيوي والروحي)، في الوشم والزخرفة، في بهاء الغناء والرقص. ذلك مشهد يكشف عن ديونيزية مغربية تنحدر، دفعتها النشوى نحو المحيط”. علامة فارقة لهذا “الشعب”، أصبحت هي الأخرى مدحورة ومهدّدة بالاضمحلال، فما يسمّيه الخطيبي “ديونيزية مغربية” تعني حفاوة روحية واستقلالية سياسية متحرّرة في حركاتها الجمالية عن أي سلطة مركزية، لا رومانية ولا فرعونية ولا عربية.

مع قدوم الجيوش الإسلامية، التي عانت كثيرا من شراسة الوثنية المتأصلة في طباع القبائل وعاداتها، اضطر الطرفان للتنازل والمساومة من أجل تحقيق توافقات سيادية: نجد مثلا أنّ من كان يعرف بالوثنيين الكبشيين قد تخلوا شيئا فشيئا عن تقديس الخروف الأقرن، الذي كان يمثّل الصّيغة الأوحد للعبادة لديهم، لصالح شعيرة التضحية الإبراهيمية. في المقابل، “تسامح” العرب مع طقوس “تاغنجا” القائمة على التقرب من السماء بعرائس أنثوية، مصنوعة من شجر العود والأثواب الملونة، بغية سقي الأرض. كذلك تمّت مقايضات رمزية أخرى، حيوان بحيوان وأغنية بأغنية ورقصة برقصة ودم بدم، فقد صار الدّيك (إسَرْدُوكْ) أعطية الوثنيين للإله محلّ الكبش (أكْرَارْ)، وعوَّض الأسد (أَزّمْ) لاحقا الأفعى (تلافسي)، مجرّدا إيّاها من سُمّها واسمها، فاعتلى هو عرش القصر واحتلّت هي فضاءات الحضرة.

تروي الأسطورة إنّ أفعى سكنت السّبيل الوحيد الذي يربط منطقة هوّارة بالعالم، وقطعته على العابرين. اضطر هؤلاء الهوّاريون الهلاليون، الذين قدِموا الغرب الإسلامي على عهد إمبراطورية الموحدين، الدّفع بثلاثة من فرسانهم لمواجهة الحيّة، لكنها دحرتهم جميعاً؛ فأقاموا للذكرى طقسا احتفاليا/جنائزيا سُمّي بـ”رقصة الأفعى”، ما تزال الفرق تؤديها في المهرجانات والسّهرات التلفزيونية… على هذا النحو، صارت الأشكال الفرجوية فلكلوراً صرفا، بل أداءً متحفيّاً فارغا من أي قدرة ميثولوجية على استخلاص أسباب القوّة من التراث؛ إنّه شكل من أشكال الحداد على سلطة ضائعة تارة، ونوع من التحالف الخاضع للسلالات الحاكمة منذ الأدارسة وحتى العلويين تارة أخرى، عن طريق تطويع الفنون الشعبية والزوايا الدينية، وجعلها مرتعا للّهو والجنون. إنّ التقانة هي نفسها الأفعى التي يظن السّادة أنهم أحاطوا بها، ويعتقد العبيد أّنها سلعة للبيع. الأفعى تأكل الغزلان والأرانب والأسود، تشرب من النّهر وهي تغيّر جلدها، ثم تُعاد سيرتها الأولى، إلى يد النبي. دون خوف ولا رهبة، عصا تتكئ عليها الأجيال لتسحر الفرعون السّكران.


‫تعليقات الزوار

12
  • ساخط
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 09:09

    بفضل البندير والكمنجة اصبحنا دولة يحسب لها الف حساب هزلتم

  • لا للشعودة والشركيات
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 09:19

    السلام عليكم ،،، مقال مهم جدا يسلط الضوء على خرافات لازالت موجودة في المجتمع المغربي المحب لكل ماهو استعراضي وفرجوي ،لكن وجب التحذي أن هته الموروتات تجسد الشرك بالله واتصديق العرافين والمشعوذين والخرافات ، وذلك كله ما أكبر الذنوب ومما يفسد العقيدة والدين .
    علينا طمس هذا التاريخ البائس ، المنحرف ، المليئ بالخرافات والشعوذة والاعتزاز بالدين الحق والعلم النافع ، فقد خرج من بطون امهات المغاربة علماء توحيد وعقيدة وحفظة قرآن وحديث يجب تمجيد تاريخهم واحياء سيرتهم وليس سيرت الحلايقية وبوهالا ….. وندعوا الله أن يصلح البلاد من بقايا الاضرحة والزوايا والقبب ومايروج فيها من منكرات وفساد وبدع وشركيات …اللهم إني بلغت

  • الله يستر وصافي
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 09:49

    ديك لوقية لعاطينها الناس لخدمة فكوريا و اليابان و المانيا والعالم كيتبنا من جديد ودول كتطور فسنوات السبعينيات واتمانينيات حن بقي عايشين ايام الجهل وعطينها لطبل و البندير

  • ja wad
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 09:51

    Beau discution , bravo hespress ,, et vive le roi sidi mohammed

  • جزائري
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 09:53

    إلى المعلق رقم 2، لا يجب طمس التاريخ بالعكس، يجب أخذ العبرة منه و تدوينه كما هو بحلوه و مره و متفق معك أنها شركيات و يجب أن لا نحيد على القرأن و السنة و السلام عليكم

  • twadoh
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 12:34

    الله على ليام كانت زوينة مكرهناش تزيد ترجع اهاديك ليام كلها انشا الله

  • ابن سوس المروكي
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 14:43

    الخرفات الجهل و التخلف و هناك يريد ان يبقى الشعب غائب عن الوعي و سياسة الأضرحة و تجهيل الشعب من لا يسعد لتقدم الشعب و الخروج من هذه الخزعبلات و التطبيل و التزمير المغرب يجيب ان يقطع مع عهد الجهل و يسير في طريق العلم و المعرفة على الشعب المغربي الثورة على الجهل و التخلف والأمية و السير في طريق التعليم التكوين

  • YOUSSEF
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 15:32

    طبيعة المغرب وجغرافيته جعلته مستقرا لعدة قباءل، مارسوا شعائرهم التي كانت ثمارا لتجاربهم وحياتهم البدائية، يجب علينا ان نفتخر بهده الشعائر مهما كانت طبيعتها لأنها تجسد فترات تاريخية عريقة ووسيلة عاشها اجدادنا بكل عفوية وفطرة نابغة من علاقتهم بالطبيعة والحياة والأرض.
    شكرا الكاتب ايوب المزين على هدا المقال النموذجي وتفاصيل.

  • ابو انس
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 16:11

    مرة اخرى سيخرج بعض المتشدديين والوهابيين والسلفيين خدام الفكر الشرقي سيخرجون في تعاليقهم ليحرموا كل هذه الثقافة ويرونها شركا وكفرا ويتمنون ولو كانت لهم السلطة ان يفخخوا ويفجروا اضرحة اولياء الله الصالحين ويدمروا الاثار وكل ارث ثقافي وحضاري مغربي جليل.. لكن هيهات انتم في المغرب ونحن لكم بالمرصاد والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

  • أدربال
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 18:09

    تاغنجا هي كلمة مركبة بالامازيغية
    الاسم الحقيقي هو
    تل غنجا
    تل
    معناها لف بالعربية
    أغانجا تعني بالمغربية
    لمغرف او ملعقة كبيرة دات مقبض طويل تصنع عادة من الخشب
    النساء يقمن بلف أغنجا بملابس نساءية على شكل عروس بعدما يضيفوا اليه عصا في الوسط او مافوق الوسط
    على شكل صليب .
    يرفعنه ثم يقمن بالتجوال في الازقة يرددن شعارت يطلبن من خلالها المطر في سنوات الجفاف .
    باركا من تحريف الامازيغية

  • maghribiya man canada
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 18:22

    فعلا تاريخنا خاصنا نحافضو عليه ونستافدو منه بسلبياته وايجابياته والحاجة المهمة فالمقال ولي عجبتني بزاف هي:"مع قدوم الجيوش الإسلامية، التي عانت كثيرا من شراسة الوثنية المتأصلة في طباع القبائل وعاداتها، اضطر الطرفان للتنازل والمساومة من أجل تحقيق توافقات سيادية"
    يعني كل طرف يتنازل ويتاقلم لخلق مجتمع متحد باختلاف ثقافاته وعاداته واجناسه ولي مع الوقت انصهرت مع بعضها لتعطينا المغرب الحالي. وجدير بالذكر انه فديك الفترة كان سر نجاح الفتوحات الاسلامية انها كانت تحتوي وتتاقلم مع عادات الشعوب المختلفة ماشي تتقمعها يعني الشعوب ملي ما تتحسش بالخطر على موروثها تنصهر مع القادم الجديد بسرعة اكبر

  • choufou
    الثلاثاء 23 غشت 2016 - 18:46

    الكلام اكثير.وحتى ابلاد ما اخطا ها التاريخ الثقافي بالسلبيات والايجابيات.الحمد لله بفضل العقل يمكن للانسان ان يغربل.اللهم نور عقولنا لما فيه خيرنا امين.

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد