شقير يناقش تطور الدولة بين المقاربة الانقسامية والمعالجة الاجتماعية

شقير يناقش تطور الدولة بين المقاربة الانقسامية والمعالجة الاجتماعية
الأحد 24 دجنبر 2017 - 04:00

شكلت الدولة في المغرب موضوعا لأغلب الكتابات التي بحثت وتبحث في إشكالية تطور الدولة بالمغرب. ويمكن أن نصنف هذه الكتابات إلى ثلاث مقاربات أساسية:

أولا: المقاربة التاريخية

ثانيا: المقاربة السوسيولوجية

ثالثا: المقاربة الاقتصادية

وقد انبثقت المقاربة السوسيولوجية من خلال الدراسات الأجنبية التي اهتمت برصد البنيات الاجتماعية لمغرب ما قبل الاستعمار وبالأخص مفهوم القبيلة، الزوايا، أو المخزن أو الدولة بصفة عامة. ويمكن أن نصنف هذه الدراسات إلى الاتجاهات التالية:

– المدرسة الفرنسية التي تزعمها كل من روبير مونتاني وجاك بيرك وميشو بيلار.

– المدرسة الانجلو-ساكسونية التي تجسدت من خلال أعمال كل من جيلز وواتربوري.

– المـدرسـة الـمـغـربـية التي بدأت معالمها تتضح من خلال بعض المنشورات الدورية (النشرة الاقتصادية والاجتماعية المغربية ومجلة أبحاث) وكذا من خلال إشراف بعض الأكاديميين على بـض الأعمال الجامعية التي تصب في الميدان السوسيولوجي.

وقد أخذت هذه الأخيرة على عاتقها في البداية انتقاد المرتكزات النظرية التي استندت إليها المدرستان السابقـتان؛ وذلك لسببين رئيسين: أولهما ظاهر يتجلى في فضح “الخلفية الاستعمارية” لهاتـيـن الـمـدرسـتـين، وخاصة الفرنسيـة، والثاني يكمن في رغبة السوسيـولوجيين الجدد في إثـبات ذاتـهـم وطموحهم إلى “مـغـربـة” القطاع السوسيولوجي بالمغرب.

لكن إلى جانب ذلك، اهتمت هذه المدرسة أيضا بملامسة البنيات السياسية المغربية، وخاصة تطور الدولة بالمغرب. ويمكن أن نحدد الكتابات التي اهتمت بهذه الاشكالية في اتجاهين اثنين: الطرح التصنيفي والطرح الترصيفي.

1 – الطرح التصنيفي

يـرتـكـز هـذا الـطـرح عـلـى إشـكـالـيـة رئـيـسـية تتمحور حول التساؤل التالي: ما هو الشكل والمضمون الذي اتخذه الحكم السلالي في المغرب؟

وللإجابة عن هـذا التساؤل، يـتـم تـحـديـد الإطـار الـمـعـرفـي الذي سيبحث من خلاله عن إجابة عملية لهذه الاشكالية، حيث تستدعي الاجابة على هذا السؤال محاولة رصد مفهوم الدولة عبر التاريخ السياسي المغربي ابتداء من دولة البرغواطيين والأدارسة وانتهاء بدولة العلويين.

أما مسلمات هذا الطرح فـقـد تـم تحديدهما في معطيين اثنين: الواقع القبلي والميراث السياسي الاسلامي. وهكذا يشير صاحب هذا الطرح إلى ما يلي:

“إن الحكم السلالي في المغرب كواقع اجـتـمـاعي وسيـاسي يـجـد جذوره الاجتماعية في تواجد عاملين أساسيين: الواقع القـبلـي الـذي يـميـز ويـتـمـيز به المغرب، وكذا الميراث السياسي الاسلامي كفقه وكتاريخ”.

مـن هـنا خـلـص صاحب هـذا الطـرح إلـى وضـع تـصنـيف لمختلف الدول التي عرفها المغرب من خلال الاستناد إلى معيارين أساسيين: العصبية والشرف.

أ – الدولة والعصبية

من خلال هذا المنظور، عرف صاحب هذا الطرح الدولة القبلية بأنها تـلـك الدولة التي “تنبثـق عن حركة قبلية تتجسد في المطالبة بالسلطة السياسية من طرف قبيلة أو اتحاد قبلي؛ وذلك عبر عصبية بدوية تطعمها دعوة دينية تنادي بإصلاح ديني-سياسي-اجتماعي وتطعن في الشرعية السياسية للدولة القائمة”.

ومن أهم مميزات هذه الدولة القبلية ما يلي:

– تكون هذه الدولة عبارة عن مطالبة إحدى الاتحاديات القبلية الكبرى بدورها في ممارسة السلطة.

– تكون هذه الدولة تعبيرا عن الخصوصيات البربرية وعن الإدارة في الاستقلال السياسي-الديني.

– تكون العلاقة بين السلطان والفقهاء والزوايا شبه متساوية.

– طابع هذه الدولة هو الجهاد الخارجي.

ورغم أن هذه الـخـصـائـص تتميز بها مختلف الدول القبلية، إلا أن هناك خاصية معينة استند إليها صاحب هذا الطرح ليضع تصنيفا آخر لهذه الدولة. ويتجلى هذا المعيار في مسألة التبعية؛ فهناك دول تميزت بطابعها الانفصالي وتتحدد في: دولة برغواطة، ودولة الأدارسة.

ودول تميزت بطابعها التبعي وتتحدد في: دولة بني أبي العافية، ودولة بني يفرن، والدولة المغراوية.

ودول استقلت نهائيا عن الخلافة المشرقية وتتجلى في: دولة المرابطين، ودولة الموحدين، ودولة المرينيين.

وقـد تـم تـحـديـد فـتـرة امـتـداد الـدولـة الـقـبـلـيـة ما بـيـن الـفـتح العربي للمغرب وانقراض الدولة المرينية. لكن “هذا لا يعني أن الدولة القبلية لم تكن معروفة قبل الفتح العربي-الإسلامي؛ فتجارب ماسينسا وجوغورتا كانت تجارب سياسية قبلية…”.

كما يؤكد هذا الطرح على أهمية الدعوة إلى قيام واستمرارية الدولة القبلية المغربية؛ حيث تجلت هذه الدعوة السياسية في ترسيخ المذهب المالكي في المغرب؛ وذلك منذ المراحل الأولى لقيام هذه الدولة “فتبعية الدول الزناتية للخلافة الأموية مهدت الطريق أمام ترسيخ المذهب المالكي في المغرب، والذي سوف يكرس مع وصول المرابطين إلى الحكم”.

ووفق هذا الطرح، فـإن ارتـكـاز الـدولـة القبلية على الدعوة سيؤدي إلى إعطاء مكانة سياسية متميزة للفقهاء؛ وذلك للأسباب التالية:

– احتكار الفقهاء لمعرفة اللغة العربية.

– إضفاء الشرعية السياسية على الحكم.

وفي هذا يقول اكنوش: “لفهم دور الفقهاء في الدولة المرابطية، لا بد من ضبط المعالم النظرية للإسلام المرابطي. فـمـنذ دعوة عبد الله بن ياسين، ونـظرا لقلة أو لعدم معرفة برابرة الصحراء باللغة العربية، جاء إسلاما بسيطا يعتمد بالأساس على الفروع من صلاة وصوم وزكاة، وينفي الأصول وكل ما يتصل بالإيمانيات وعلم الكلام. فكان بـذلـك مـشـجـعـا لـلـفـقهاء على أن يلعبوا دورا كبيرا في المجتمع المرابطي قصد تدبير شؤون العبادات بين الجمهور. بل تعدوا ذلك وأصبح لهم تأثير بالغ في الأمور السياسية العامة…”.

ولم يـقـتـصر هـذا الأمـر عـلى المرابـطـين فـقـط، بل اسـتمر أيضا مع الموحدين وكذا مع المرينيين الذين عملوا على تكريس المذهب المالكي من خلال عدة إجراءات رسمية، من أهمها:

– بناء المدارس

– وضع برامج دراسية إجبارية تحرص على دراسة كتب الخليل ومالك

– الإشراف على حج المغاربة للديار المقدسة

وفي هذا الإطار يشير اكنوش إلى ما يلي:

“قـام الـسـلطـان أبو سعيد عثمان المريني سنة 1321 بإعطاء نقطة الانطلاقة ببنائه لمدرسة البيضاء بفاس الـجـديـدة ثم بنيت فـيما بعد مدارس الصهريج والعطارين والطالعة بسلا وكذلك مدارس المصباحية والبوعنانية. وقد كان يصرف على هذه المدارس انطلاقا من عائدات الأملاك المحبسية… بالإضـافـة إلى هذا وضـعت السلطات المرينية برامـج دراسية إجبارية داخل هذه المدارس. كما جعلت مـن كـتـب الـخلـيل ومالـك كتبا رسمية وإجبارية في دراسة الفقه الإسلامي. ومن النتائج الأساسية التعليمية الانتاج الهائل للكتب الفقهية التي تتطرق أساسا للفروع لا للأصول إلى درجة أن المغرب صار يـصـدر لـلخـارج وخـاصة إلـى الشرق فقهاء مالكـيـين لا معين كبرهان الدين الصنهاجي وبدر الدين الغماري وأحمد بن يعقوب الغماري”.

ب – الدولة والشرف

بالموازاة مع الخـصـائـص الـتي تتميز بها الدولة القبلية، يحدد اكنوش سمات معينة تتميز بها الدولة الشريفية، وتتمثل فيما يلي:

– عدم الانتماء إلى قبيلة أو اتـحاد قـبلـي مـعـيـن، فـهدفها هو التعالي على القبائل ومحاولة إخضاعها لسلطة موحدة.

– ظـهـور الـسلـطـان الشريفي، بخلاف السلطان العصبوي، بمظهر الحكم الأجنبـي الذي لا يـخـوض في غمار الصراع العصبي.

– الدولة الشريفية لا ترتبط في شرعيتها بمركز خلافي معين.

– عـلاقـة الـسلطان بالفقهاء وأرباب الزوايا علاقة متمايزة ومتفاوتة؛ فالسلطان يظهر بمظهر المحتكر للإنتاج الرمزي، ويبقى مدبرو المقدس اليومي الآخرون في موقع التبعية والولاء.

– طابع هذه الدولة يبقى الجهاد الدفـاعي ضـد الغـزو الأوروبـي وإعـادة إحياء السنة السياسية الدينية الاسلامية، وكذا تقوية الجبهة الداخلية وخلق شروط بناء الدولة الأمة.

من خلال هذه الخصائص، يتضح أن الباحث رسم حدودا فاصلة بين الدولة القبلية والدولة الشريفية. ومما يؤكد ذلك إشارته التالية:

“إن السـلـطـة السـيـاسية الـمعـتمـدة على مـفهوم الشرفاوية لم تظهر في المغرب إلا خلال نهاية القرن الخامس عـشـر وبداية القرن السادس عشر الميلادي، فهو يعني نهاية الدوران السلالي حول الحكم والمنبعث من أصل قبلي. وهذه القطيعة السياسية التي حققتها الدولة الشريفية مع الدولة القبلية أفضت، حسب الباحث، إلى تغيير شامل، في بنية السلطة سواء من حيث ركائزها أو وسائلها أو أهدافها.

– فـفـيما يـخـص ركائـز السـلـطة؛ فـالـدولة الـشريفية أصـبحـت تـعـتمـد في جـوهرها على الانتماء للبيت النبوي، وعلى الدور الذي يقوم به الشرفاء كنخبة اجتماعية وسياسية”.

– أما وسائل الـسلطة، فإنـها تـقـوم بالأسـاس عـلى إنتاج سياسة دينية ترمي إلى احتكار الخطاب الديـني والسياسي فـي الـبلاد، مـما يـفـسـر بالطـبـع كـل الاجراءات الـتي اتـخـذها الـسـلاطـين، من مختلف الأسر الحاكمة، ضد كل منافس أو معارض للسياسية الرسمية. كقتل محمد الشيخ للونشريسي والزقاق والخطيب أبي علي حرزوز، وإعدام السلطان محمد المتوكل للفقيه عبد الله محمد الأندلسي، وسجن السلطان المنصور الذهبي لأحمد بابا السوداني، وسجن المولى إسماعيل لقضاة بمكناس وإعدام بعـضهم ثم امتحانه للفقهاء في مسألة تملك عبيد البخاري.

– ويكمن هـدف السلطة في خـلـق وترسـيخ دولة مركزية تتجاوز كل الخصوصيات القبلية وتحاول تـفـكيك كل الفعاليات الجهوية؛ ذلك أن “هدف الدولة الشريفية التعالي على القبائل ومحاولة إخضاع هذه الأخيرة لسلطة موحدة ومحايدة بالنسبة للنزاعات القبلية. وخلق شروط الدولة-القومية”.

وعـموما، فإن مـيـزة هـذا الطرح تـكمن في الطـمـوح إلـى تـحديـد ورصد التطور الذي عرفته المؤسسات السياسية بالمغرب. ويتجلى هذا بوضوح من خلال إشارة الباحـث التالـيـة: “نـخـص الـتاريخ السياسي والـمؤسساتي المغربي بالأولوية الأولى؛ وذلك مـن الفـتـح العربي الاسلامي إلى يـومـنا الحاضر مـتـتـبـعين في ذلك كل التغيرات والتطورات التي عرفها المغرب في الميدان المؤسساتي”.

كما تكمن الميزة الـثـانـية لـهـذا الـطـرح من خلال محاولة تفسير العملية السياسية التي كانت وراء إحياء المؤسسات التراثية منذ منتصف الثمانينات والعمل على إدماجها في مؤسسات الدولة العصرية المغربية. بالإضافة إلى ذلك، هناك ميزة ثالثة يتضمنها هذا الطرح، تتجلى على الخصوص في محاولة تفكيك الخطاب الايديولوجي للـنـظـام السـيـاسـي الـقـائم على اعتبار “العرش العلوي نفسه الوريث الوحيد لأربعة عشر قرنا من التاريخ السياسي السلالي المغربي، كما يعتبر نفسه ضامن هذه الاستمرارية السلالية. فالخطاب السياسي للملكية حول ذاتها يتمحور باستمرار حول كون هذه المؤسسة وريثة المملكة الإدريسية الفاسية. بالإضافة إلى هذا يربط الخطاب الايديولوجي المؤسسة الملكية بالدين الاسلامي، ويجعل من الإثنين -الملكية والإسلام-رمز الوحدة المغربية…”.

كما تتجلى الميزة الـرابـعة لهذا الطرح في اهتمامه منذ البداية بانتقاد الكتابات السوسيولوجية والانثربولوجية التي أغفلت ربط الواقع القبلي المغربي بالسياق التاريخي والسياسي، على عكس الاخباريين والمؤرخين الذين كانت لهم “نظرة مزدوجة للقبيلة، عرقية وسياسية. فهم لا ينظرون إليها إلا كوحدة سلالية لها علاقة متينة بإشكالية السلطة والدولة”.

غـير أن حـدود هـذا الطرح تـتـجـسـد مـن خـلال مـنـطلقاته الفكرية والمنهجية. فهذا الطرح يرتكز بالأساس على الـبحـث فـي تـطـور الـحـكـم الـسـلالـي بالـمـغـرب. لكن مـا هـو الحكم السلالي؟ في الـحـقـيقـة، لا يوجد ضمن هذا الطرح أي تـعـريـف مـحـدد لمـاهية الحكم السلالي. هناك فقط تشخيص لهذا الحكم الذي اعتبر واقـعا اجتماعيا وسياسيا مرتبطا بتواجد النظام القبلي والميراث الاسلامي. لذا فالحكم السلالي، وفق هذا المنظور، يعتبر ماهية سياسية متعالية “لا يمكن أن نرصد تطورها إلا من خلال الأشكال السياسية التي تتخذها. وتكمن هذه الأشكال بالطبع في مفهوم الدولة”. لكن مفهوم الدولة يبقى غـامـضا وغير محدد. ويتجلى ذلك من خلال التصنيف الذي تم به تحديد أشكال الحكم السلالي:

– فهناك دولة قبلية مقابل دولة شريفية

– لـكـن ضـمـن كـل دولـة مـن هـاتـيـن الـدولــتـيـن هـنـاك دول: فـالــدولة القـبـليـة تـتـضمن دولة برغـواطة، دولة الأدارسـة، دولـة مـغـراوة، دولة المرابطين… في حين إن الدولة الشريفية تتضمن دولة السعديـيـن ودولة العلويـين.

مما يجعل المرء يتساءل عن حدود التـمـيـيـز بين الدولة القبلية وتفريعاتها (دولة برغواطة مثلا)، ما دمنا نطلق التسمية نفسها على كلتا الدولتين.

وإذا اعتبرنا أن معيار العصبية قد يشكل معيارا مقبولا للتمييز بين الدولة القبلية والدولة الشريفية، فمعيار الـشـرف يـبـقـى مـع ذلـك غـير مـقـنع بدليل أن الدولة الإدريسية، التي تم اعتبارها ضمن نموذج الدولة القبلية، هي في إحدى خصائصها دولة ينتمي مؤسسوها إلى السلالة النبوية.

بالإضافة إلى ذلك، فالشرف كان مثار جدل بين الأسر التي تدخل ضمن نموذج الدولة الشريفية، مما يفضي إلى القول بأن الشرف لم يكن أبدا عنصرا حاسما في الوصول إلى سدة الحكم، وهذه هي النتيجة التي تم التوصل إليها ضمن هذا الطرح؛ حيث تمت الإشارة إلى ذلك من خلال ما يلي:

“عـلـى كـل حـال، فـإن الـطعن في النسب الشريف للسعديين، يعني سياسيا واجتماعيا أن موضوع الانتساب للشجرة النبوية لعب دورا متواضعا في وصولهم للحكم”.

ويبلغ التناقض مداه، حينما يتم ربط نشأة دولة السعديين والعلويين بظروف سياسية بعيدة عن معطى الشرف. ويظهر ذلك من خلال ما يلي:

“تـخـتلف ظروف ظهور الشرفاء السعديين عن ظروف ظهور الشرفاء العلويين، فإذا كانت ظروف ظهور الأولين تـتـعـلـق أسـاسـا بـظـاهـرة الاحـتلال الأجنبي للساحل المغربي، فإن ظروف ظهور الآخرين تمحورت بالأساس حول إعادة توحيد البلاد وإنعاش الجنوب المغربي اقتصاديا”.

2 – الـطـرح الـتـرصـيـفـي

يدخل هذا الطرح ضمن منظومة الأبحاث التي اهتمت برصد التطور الذي عرفته الدولة العربية المعاصرة، سواء في بعدها القومي أو بعدها القطري. فعلى المستوى القومي، يميز العروي بين نوعين من الدول: الدولة السلطانية ودولة التنظيمات. وعلى المستوى القطري، يرصد الهرماسي انتقال الدولة المغاربية من دولة مخزنية إلى دولة باترمونيالية.

وفي هذا السياق، يأتي كتاب بلمليح (البنيات السياسية للمغرب في عهد الاستعمار) ليطرح منظورا جديدا في تحديد التطور الذي عرفته الدولة المغربية عبر تاريخها. وتتجلى جدة هذا الطرح في البعد الديناميكي الذي يميزه؛ وذلك من خلال رصد حثيث لعملية تطور الدولة المغربية من دولة سلطانية إلى دولة تراصفية أو سديمية (Etat sedimental).

وهكذا حدد صاحب هذا الطرح عملية التطور هذه من خلال ثلاث مراحل أساسية:

– المسار التاريخي للدولة السلطانية

– تكون الدولة التراصفية

– مأسسة النظام التراصفي.

أولا: المسار التاريخي للدولة السلطانية

ينـطـلـق هـذا الـطرح مـن مسلمة أساسية تتلخص في هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية منذ مراحل تكونها الأولى. وتتجسد هذه الهشاشة في التشرذم السياسي الذي كان يعرفه المغرب، سواء قبل الاحتلال الروماني أو بعده. فالاحتلال الروماني للمغرب، نتيجة لطبيعة هذا الاحتلال وأهدافه الاستراتيجية، لم يستطع تغيير هـذه الـوضـعـيـة؛ حـيـث بـقـي الـمـغـرب حتى بداية الفتح العربي “مجالا سياسيا متشرذما وتعدديا”، بل إن طبيعة التقسيم الإداري الروماني للمغرب قد زادت من حدة هذا التشرذم.

ورغم المنظور السياسي الجديد الذي حمله الفاتحون العرب إلى المغرب، والذي يقوم بالأساس على ضرورة تبني مفهوم الوحدة السياسية، ورغم المحاولات التي قام بها الأدارسة لتكريس هذا المفهوم وتكوين معالم مركز سياسي يتجلى في بناء عاصمة سياسية للبلاد، فإن هشاشة البنيان السياسي للدولة السلطانية بقي مستمرا حتى في عهد الأسر الحاكمة التي أتت بعد الأدارسة.

وقد حاول بلمليح أن يرصد عوامل هذه الهشاشة السياسية من خلال الأسر الحاكمة التي تعاقبت على عرش المغرب؛ حـيـث خـلـص إلـى أن كـل واحـدة مـن هذه الأسر قد عانت من هذه الهشاشة، ولم تتمكن، رغم كل الجهود السياسية التي بذلتها، من إيجاد حل لهذا المشكل:

– فالحكم المرابطي لم ينجح في إقامة جهاز حكومي مستقر، ولم يـسـتـطـع حـل لا الـمشكل العسكري ولا التنظيمي ولا الايديولوجي. ويفسر الباحث هشاشة الحكم المرابطي بطـبـيـعـة الـبـنـيـات الاجـتـماعية القائمة والمضمون الإيديولوجي للمشروع السياسي المرابطي. “ففي مجال ذي طابع انقسامي، تقوم السلطة المركزية بالأساس على القوة العسكرية؛ إذ إن مجموعة ذات طابع انقسامي تنفصل عن البنية القبلية العامة لتفرض سلطتها. وبالتالي ففرض الطاعة يرتبط بالأساس بميزان القوى. أما على المستوى الايديولوجي، فالاستناد إلى الدين يقوم بوظيفة إدماجية تسهل عملية الاستيلاء على السلطة. لكن ثبت أن أي حكم ينزلق إلى المجال الاصلاحي عادة ما يضعف نفسه؛ بحيث يكثر من منافسيه السياسيين ويجعل من الحاكمين هدفا سهلا للمناوئين”.

– أما الحكم الـموحـدي فـرغـم تـشدده الايديولوجي وبنيته التنظيمية المتطورة نسبيا، فقد بقي يعاني من تناقضات على المستوى الضرائبي والعسكري وكذا على مستوى سياسته الخارجية؛ الشيء الذي فسره الباحث بما يلي:

“إن هشاشة الدولة الموحدية تكمن في ثلاثة عوامل: مضمون المشروع السياسي، وطبيعة القوة الاجتماعية التي اعتمد عليها، وأهمية العامل الخارجي”.

– فـي حين إن الحكم المريني، الذي ظهر في خضم تحولات اجتماعية وسياسية داخلية ودولية عميقة، تميز على الخصوص بمحاولته الاستقلال عن المجتمع القبلي؛ وذلك من خلال الاعتماد على موارد خارجية وتـكـويـن جـيـش مـن بـنـي هلال كلف بجمع الضرائب. أما على المستوى الايديولوجي، فقد ساعد على ترسيخ المذهب المالكي.

ورغم كل ذلـك، فإن الـحكم الـمريني لم يسلـم من التشرذم السـياسي وظـهـور قـوى سيـاسية معارضة عملت على الاطاحة به. وبحلول القرن 16 الميلادي، واجه المغرب عدة تـغيرات سياسية داخلية وخارجية حـددت شكل الحكم المركزي وطبيعة أسـس الشـرعنـة الـتي سـيـسـتـند إلـيها. كـما واجـه الـمغرب تـهديدات خارجية تمثلت بالأساس في الامبريالية الايبرية والتركية وتحول طرق التجارة.

– ولـلـتـأقـلـم مـع هـذه المستجدات، ظهر الحكم السعدي معتمدا على الشريفية كأساس جديد للشرعية السياسية، وعـى نظام مخزني متطور يتجاوز النخب القبلية، وعلى جيش يتكون من عناصر أجنبية. وقد تطلب كل ذلك مـوارد مـالـيـة ضخمة حاول السعديون أن يستخلصوها من الحملات الخارجية واحتكار بعض النشاطات التجارية بـعـدما أثـقلوا كاهل الشعب المغربي بالضرائب. لكن رغم كل هذه التجديدات السياسية والتطويرات التنظيمية، فـقـد “بقي مشكل الهشاشة السياسية مطروحا، الشيء الذي أدى إلى انهيار الدولة كما ينهار قصر من الورق”.

ويفسر الباحث هشاشة الحكم السعدي بالعوامل التالية:

– فشل الحملات الخارجية في تأمين الموارد المالية للدولة.

– اضطرار الحكم السعدي للتعامل مع قوى سياسية داخلية، سواء عبر التحالف أو عبر الحرب.

– اعتماد الـحـكـم الــســعـدي عـلـى الـشـرف جعله يواجه عدة معارضين للسلطة وطامحين للاستيلاء على الحكم بدعوى انتمائهم للبيت النبوي.

من هنا ظهرت الدولة الـعـلـويـة في إطار السيرورة السياسية المعادة نفسها، التي تقضي بإعادة توطيد السلطة المركزية لكن في مناخ سياسي داخلي خاص يتميز بظهور الزوايا كمراكز لسلطة موازية. لذا فإن المـشروع العلوي قـد تـحقـق فـي إطـار تـشـرذم سياسي اضطر معه الحكام إلى اللجوء إلى سياسة تخلط بين الدبلوماسية والقوة والتحكيم. ومع ذلك فـقـد حـاول بـعـض الـسلاطين أن يقووا من استقلالية الدولة عن المجتمع القبـلـي وذلـك بإنشاء جيش من العبيد يعمل على ضمان استقرار الدولة والبحث عن موارد مالية خارجية من خلال التعامل التجاري مع أوروبا. غير أن هذا التعامل سيرهن موارد الدولة بالتجارة الأوربية؛ الشيء الذي ستستغله القوى الأوروبية للتدخل في المصير السياسي للمغرب.

بعدما رصد الباحث مظاهر الهشاشة السياسية للدولة السلطانية والعوامل التي كانت وراء ذلك، حاول رصد التهديدات الخارجية التي بدأت تواجهها منذ منتصف القرن 19. وقد تمثلت هذه التهديدات في التدخل الأوروبي مستخدما في ذلك عدة أساليب تمثلت على الخصوص في:

– أساليب تجارية (تكثيف التجارة مع المغرب وعقد اتفاقيات تجارية معه)

– أساليب قانونية تمثلت في الشبكات القنصلية ونظام الحماية

– أساليب دعائية تجسدت في البعثات التبشيرية والتطبيب.

وأمام هذا الخطر الذي بدأ يتهدد الحكم السلطاني، والذي تمثل على الخصوص في تقليص مظاهر سيادة الايالة الشريفة، عمد السلاطين إلى تدشين مجموعة من الاصلاحات شملت عدة ميادين من أهمها:

– الميدان العسكري؛ وذلك من خلال تكوين نواة لجيش نظامي.

– الـمـجـال الإداري؛ وذلـك مـن خـلال خـلـق بعض الأجهزة وبعث بعض الأطر للتكوين سواء في مصر أو أوروبا.

– المجال الضرائبي؛ وذلك بفرض ما يسمى بالمؤونة التي أثارت حفيظة العلماء والشرائح الحضرية.

لكن كل هـذه الإصلاحات بـاءت بالـفـشـل-نـتـيـجـة لـيـس فــقــط لــغـيـاب اتـفـاق حـولـهـا-بين المخزن وأوروبا والشعب، ولكن أيضا لأسباب عميقة فسرها الباحث بما يلي:

أولا: إن المجتمع المغربي في القرن 19 لم يكن مـتوفـرا على الشروط التي تسمح بقيام طبقة اجتماعية تشكل عنصر تغيير وتكون صاحبة مشروع اجتماعي على شاكلة البرجوازية الأوروبية.

ثانيا: إن الإصـلاحـات الـتي كانـت تـنـادي بها النـخبة المغربية كانت ترتكن إما إلى منظور سلفي أو منظور تقني.

ثالثا. كان الـهدف من هـذه الإصلاحات هـو إنـقـاذ الدولة السلطانية أو تقويتها، في حين تم تغييب المجتمع المدني.

رابعا: كانـت الاصـلاحات الـتي تـطـالـب بـها الـقــوى الأوروبـيـة تـسـتـهـدف بالأساس إضـعـاف الـدولة السـلطـانية ولـيـس توطيدها، بالإضافة إلى ذلك كان منطق الاصلاحات التي تطالب بها لا يتلاءم ومنطق الدولة السلطانية.

وقد تمثل فشل هذه الإصلاحات في المصير المحتوم الذي انتهت إليه الدولة السلطانية المغربية؛ بحيث أرغمت على التنازل عن سيادتها لكل من فرنسا وإسبانيا.

ثانيا: تكون الدولة التراصفية

يعتبر الباحث أن إدخال المؤسسات الاستعمارية يشكل منعطفا هاما في تاريخ الدولة بالمغرب. فتلاقي شكلين لـلـدولـة ومـنـطـقـين سـياسيـين ونوعـين مـن الهـيكلة السيـاسية يـشكـل ما يطـلـق علـيه الـباحـث عـمـلـيـة “ترصيف سياسي”، أو ما سماه بالدولة التراصفية (Etat sédimental). وقـد تـكـونـت هذه الدولة-في نظر الباحث-انطلاقا من 1912، حيث إنه في الوقت الذي كانت فيه الدولة السلطانية في مرحلة احتضار، تسرب الحكم الاسـتـعـمـاري، لا لـكـي يـقـضي عـلـى هـذه الـدولـة، بـل لـكي يـحافـظ عـلــيـها مـن خـلال مـنـحـهـا وظائـف خاصة في سير النظام التراصفي système sédimental)).

وقد تم إرساء هذه الدولة من خلال ثلاث مراحل أساسية:

1 – فرض الحماية على المغرب

يعتبر الباحث أن الـحـمـايـة الـتي فـرضـت عـلـى المغرب ترتبط بالأساس، وبشكل وثيق، بالجنرال ليوطي. فهذا الأخير هو الذي أعطى لهذا المفهوم “معنى مغربيا بحتا”.

بالإضافة إلى الجـوانـب الـقـانـونـيـة التي يتضمنها هذا المفهوم والانعكاسات السياسية الداخلية والخارجية التي ترتبت عنها، فالحماية شكلت مرحلة لتطبيق أفكار ليوطي التي أثرت بشكل كبير في التاريخ الاستعماري للمغرب؛ وذلك للأسباب التالية:

– السبب الأول: يتجلى في أن ليوطي يعتبر أول من أدخل الإصلاحات على المجال المؤسسي بالمغرب؛ حيث مر مسلسل هذه الإصلاحات من مراحل ستة:

– 1914-1912 التي تميزت بتحويل سلطة القرار من القصر إلى الإقامة العامة ومركزة المخزن بالرباط.

– 1917-1920 التي تميزت بإنشاء مديريات تقنية كمديرية الأشغال العمومية ومديرية الفلاحة.

– 1926-1927 التي تميزت بتوسيع المشاركة في مجلس الحكومة.

– 1944-1947 التي تميزت بخلق مجلس للوزراء.

– 1952-1953 التي تميزت بإدخال عدة تعديلات على الجوانب التشريعية والتقريرية لمجلس الوزراء وتقوية صلاحياته.

– السبب الثاني: يـتـلـخـص فـي أن لـيـوطـي قـد كـون جـيلا من الرجال الذين استمروا في التأثير على الميكانيزمات المؤسسية في المغرب.

2- التحكم في المجال القبلي

بالإضـافـة إلـى هـذا، شـكـلـت الإصـلاحـات أداة لـتـقـويـة الـدولة في مواجهة المجتمع القبلي؛ بحيث لجأت هذه الأخيرة إلى عدة أساليب لتفكيك البنية القبلية من أهمها:

أولا: الأساليب الردعية وتتمثل في:

– استخدام العنف أو ما كانت تسميه الأدبيات الاستعمارية بعمليات التهدئة.

– الاستخبار عن القبائل المتمردة؛ وذلك من خلال القيام بدراسات ومونوغرافيات سوسيولوجية واقتصادية وجغرافية حولها.

– اللجوء إلى الحصار لخنق القبائل اقتصاديا وإجبارها على التسليم والطاعة.

ثانيا: الأساليب الإدارية وتتجسد في:

– التأطير الإداري

– التطبيب

– بناء الطرق والمدارس.

وبهذه الوسائـل اسـتـطـاعـت الدولة أن تقتحم المجال القبلي وتسيطر عليه، لتشرع بعد ذلك في تقطيعه إداريا. وقد تجلت فعالية التأطير الإداري الاستعماري في ضبط المجال القبلي والتحكم فيه نتيجة لاعتماده على نظام مركزي صارم يقوم بالأساس على ضرب الأسس التنظيمية للقبائل التي تتمثل في الجماعة، وكذا التكريس القانوني لنظام القايدية.

وباستخدام مختلف هذه الأساليب استطاعت الدولة التراصفية أن تقيم في قلب المجتمع القبلي المغربي وأن تحطم قواه التنظيمية التـقـليـدية، وبالتالي داوم الحكم الاستعماري على فرض رقابة على المجتمع المستعمر وتأطير مجاله ومتابعة تحركاته.

لذا فقد تميزت الـدولـة الـتـراصـفـيـة بـخـاصية انفردت بها عن الدول المركزية الأخرى، وتتمثل هذه الخاصية في “الحرص الدائم على التقسيم في بحثها المستمر عن التوحيد”.

ثالثا -مأسسة النظام التراصفي

إن النظام التراصفي الذي تم تدشينه في المغرب من خلال إرساء المؤسسات الاستعمارية بدأ يتمأسس بشكل حثيث منذ عشرينات هذا القرن. وقد تم اللجوء في مأسسة هذا النظام إلى الدعائم التالية:

1 – الدعائم السياسية:

انطلاقا من بـعـض الـتـصـورات الـمحددة للمجتمع المغربي، وضعت السلطات الاستعمارية سياسة للتعامل بها مع مـكـونات هذا الـمجتـمع والـتحـكم فـيه. وقـد انـطـلـقـت هـذه الـسياسية الاستعمارية من مبادئ سياسية محورية تتلخص في:

أ – مـبـدأ الأصـالـة أو الـمحافـظة الـذي يـقـوم بالأساس عـلى الـحفاظ على البنية السلطانية؛ الشيء الـذي أتـاح لـســلـطـات الـحماية أن تـعـتـمد على النخب الـتقليدية المحلية وفي الوقت نفسه إضفاء الشرعية على السياسة الاستعمارية.

ب – الـنـزعة البربرية الـتي كانـت تـقـوم عـلـى محـاولة إدمـاج جزء من المجتمع المستعمر ثم العمل على التفريق بين شرائح هذا المجتمع لمواجهة الأفكار القومية والسلفية.

ج – الـتقسيم سواء على المستوى الـترابي (3 مراكز نـفـوذ) أو الـمؤسسي (أجـهـزة فرنسـية وأجهزة مـغـربــية) أو القـضائي (محاكم فرنـسـية، مـحـاكـم إسـلامـية، محاكم يهودية، محاكم عرفية) أو علـى الـمسـتوى الـتعـليمي (مـدارس إسـلامـيـة، مـدارس بـربـريـة) وحـتى عـلـى المـستوى العمراني (مدن جديدة -مدن قديمة).

د – مـراقـبـة الـعالم الـقـروي؛ بـحـيـث فـرضت السلطات الاستعمارية مراقـبـة مشددة عـلى الـوسط الـقـروي حـتـى لا تــتــســرب إلـيـه الـحركة الوطـنيـة. فـقـوت الـجـهـاز القايـدي، وفرضت رخص التنقل وواجهت الدعاية الوطنية في الأسواق.

2 – الدعائم الاجتماعية:

تم الاعتماد في هذا الإطار على دعامتين أساسيتين: الجهاز الإداري والنخب الاستعمارية.

أ – الجهاز الإداري كوسيلة للمأسسة:

شـكـلـت الإدارة أهـم مــؤسـسـة فـي الـنـظـام الـتراصـفـي بـوصـفهـا كانت عاملا منظما ومنسقا وضامنا للمشروع الاستعماري. وهـكـذا تـفـرعـت الإدارة فـي مـخـتـلـف جـوانب ومـكونات الـمـجـال الـمـغـربـي مــعـتـمـدة في ذلـك عـلـى الــمـراقــب الــعـسكـري والـمراقـب الـمـدني الـلــذين كـانـا يــجـســدان الإدارة على الصعيد المحلي، ورئيس الجهة الذي كان يمثلها على الصعيد الإقليمي.

أما من ناحية الصلاحيات، فقد توفرت الإدارة على اختصاصات واسعة وامـتد نشاطها إلى عدة ميادين. “فالنظام التراصفي هيمنت عليه الإدارة التي تعتبر بمثابة جهاز لاتخاذ وتنفيذ القرارات. وبالتالي فهي محرك النظام السياسي”. وترجع هيمنة الإدارة الاستعمارية داخل النظام التراصفي إلى عدة عوامل من أهمها:

– طبيعة النشاطات التي تقوم بها وكذا الوسائل التقنية التي اعتمدت عليها.

– الثقافة السياسية المحلية التقليدية المرتكزة على أسس شمولية.

– عدم وجود قوة مضادة تحد من سلطة الإدارة، فلم تكن هناك أية مؤسسة أو قوة اجتماعية منظمة تستطيع مواجهة المنطق السلطوي للإدارة.

ب – النخب الاستعمارية:

عملت الـسـلـطـات الاسـتـعـمـارية على خـلـق الـشـروط الاجـتـماعـية المـواتية لإعادة إنتاج النموذج الاستعماري؛ وذلك من خلال التشجيع على ظهور شرائح اجتماعية تحافظ على استقرار النظام التراصفي.

وقد تشكلت هذه الشرائح من نوعين من الفئات:

– الفئات الاستعمارية:

وقـد تـكـونـت هـذه الـفـئات خـاصـة مـن المعمرين والباطرونا الذين كانوا يشكلون جماعات ضغط تهتم بالتأثير على أجهزة الإقامة العامة أو على مستوى سلطات الميتروبول.

وبالإضافة إلى هاتـين الفئتين، كانت هناك فئة من التجار والموظفين والعمال الأوربيين التي كانت حريصة على تكريس إيديولوجية النظام الاستعماري وضمان استقراره السياسي.

كما لعبت الـجـالية الجزائـريـة دور الوسيط بين الفرنسيين ومسلمي المغرب؛ حيث تمثل هذا الدور بالخصوص في اشتغال الجزائريين في قطاع التعليم والترجمة.

– الفـئات المحلية:

اعـتمـد الـنظـام الاسـتـعـمـاري عـلى شريحـتـيـن اجتماعيتين محليـتـين تـتمـثـلان فـي القواد والزوايا. فاختيار الـحـكـم الاسـتـعـماري القواد كحلفاء في البداية يرجع إلى طبيعة المنطق التراصفي للنظام وكذا لاعتبارات سياسية وتكتيكية. وقد تم توظيفهم فيما بعد لاستكمال مأسسة النظام والتحكم في المجال القروي. لذا فقد وجد فيهم النظام حليفا استراتيجيا أثناء صراعه مع القصر والحركة الوطنية، وتمثل ذلك على الخصوص في تزعم بعض القواد حركة الاطاحة بالسلطان محمد الخامس.

كـما اعـتـمـد الـحكـم الاسـتـعـماري على الـزوايـا كـوسـيـلة لـلـتحكم والمراقبة نظرا للوظائف التي كانت تلعبها داخل المجتمع المغربي، والتي تجسدت على الخصوص في الوساطة والتنشئة السياسية وكمركز للمراقبة.

لذا فـقـد وجـدت السـلـطات الاستعمارية في الزوايا حليفا أساسيا منذ بداية التدخل الاستعماري في شمال المغرب؛ وذلـك عـن طريـق الـشريف الـوزاني الذي قام بتسهيل مرور القوات الفرنسية، في حين وجدت ضالتها المنشودة في شيخ الكتانيين عبد الحي الذي لعب دورا أساسيا في عملية الانقلاب ضد العرش.

وعموما، فإن هذا الطرح يرتكز على مفاهيم متقدمة جدا في تناولها لتطور الدولة في المغرب. فهو يضع هذا التطور في إطار إشكالية ديناميكية وأكثر شمولية.

– فـمـن الـناحـية الشـمـولـية، اهـتـم هذا الطرح برصـد البـنـيـان السـياسـي الـمغـربـي مـنذ ملامحه السياسية الأولى إلى مراحله الأكثر تقدما من ناحية التنظيم والتأسيس. وبالتالي، فإن هذا الطرح يسائل تاريخا سياسيا أكثر طولا وامتدادا. بالإضافة إلى ذلـك، تـبـنى هـذا الـطرح تـصورا أكثر اتساعا لمفهوم الدولة، حيث اعتبر الدولة المغربية كيانا سياسيا يتطور بشكل حـثيث ومـتـواصل ابـتداء من تبلوره كمركز سياسي، فتدرجه إلى دولة سلطانية ثم دولة تـراصـفـيـة. وتـكـمـن أهمية هذا التصور في تجنبه للتصنيف التقليدي الذي كان يقرن ظهور أية أسرة حاكمة بدولة ما (الدولة الإدريسية، الدولة المرابطية… الدولة العلوية…).

– أما من الناحية الديـنـامـيـكـيـة، فـقـد اعتمد هذا الطرح على عدة مؤشرات كان الهدف منها رصد تطور الدولة بالمغرب وتحديد عناصر القطيعة والاستمرارية فيها.

وتتمثل هذه المؤشرات في ما يلي:

– مؤشرات ثـقـافـيـة حاول من خلالها الباحث أن يـرصد الانـعكاس الإيديولوجي للتدخلات الخارجية على تـطـور الدولة بالـمغرب، وخاصة تأثير النموذج السياسي الاسـلامي والنموذج السياسي الأوروبي على التغيرات التي لحقت بالدولة المغربية.

– مؤشرات اجتماعية اهـتـمـت بالأساس بـرصـد ديـالكـتـيـكـيـة الدولة والـمـجتمع بالمغرب، والكيفية التي حاولت بـها الـدولة السـيـطرة على مجالها الاجتماعي، سواء من خلال اعتماد السلطة على البنى القبلية أو من خلال تجاوز الدولة هذه البنى وتحقيق استقلاليتها.

– مؤشـرات تـنـظـيـمية، تركز فيها الاهتمام على رصد تطور الأسس التنظيمية التي قامت عليها السلطة، سواء في إطار الدولة السلطانية أو الدولة التراصفية.

وقـد أدت مختلف هذه الجوانب إلى إغناء التصور الذي انتهجه بلمليح في تعامله مع إشكالية تطور الدولة بالمغرب. فـقـد نظر إلى هذا التطور كسيرورة استيعابية وليس كسيرورة إقصائية. فالدولة المغربية، عبر تاريخها، كانت عبارة عن حلقات تندمج فيما بينها؛ بحيث إن كل تجديد كان يندرج في إطار ما هو قائم لـيتولد عنه نموذج سياسي. وأحسن مـثـال عـلى ذلك الاندماج الذي وقع بين العنصر السلطاني والعنصر الأوروبي في فترة الحماية.

إن مثل هذا التصور قد شكل قفزة نوعية في الدراسات التي تناولت هذه الاشكالية (سواء كانت في منظورها التاريخي أو السوسيولوجي أو حتى الاقتصادي)؛ إذ لأول مرة يتم تجاوز النظرة الشكلية في التعاطي مع الدولة المغربية في سيرورتها، والتي كانت تـكـتـفـي بـدراسـة الأسر الحاكمة وكأنها دول قـائـمة بذاتها ومنفصلة عن بعضها البعض، وتعويضها بنظرة أكثر عمقا تقوم بالأساس على اعتبار الدولة المغربية عبارة عن تراكمات سياسية قد تعرف بعض القفزات النوعية التي تغير من مضمونها وأشكالها لكن في إطار سيرورة سياسية مستمرة.

وقد أدى هذا التصور إلى اختزال الكثير من الأشكال السياسية (أدارسة، مرابطون، سعديون، علويون) في إطار نموذج سياسيي موحد (الدولة السلطانية)، وبالتالي تحولت كل هذه الأسر التي جعل منها الإخباريون والمؤرخون والسوسيولوجيون المغاربة مـحـطـات رئيسية للتحقيب والتصنيف السياسي عبارة فقط عن مشاريع تصب كلها في إطار تكوين وتدعـيــم وتوطيد الدولة السلطانية.

كما أن هذا التصور سلط الضوء أيضا، بـشكل أكثر موضوعية، على عـمـلـيـة الـتـلاقـي بين الدولة السلطانية والنموذج الأوروبي (الدولة -الأمة) والانعكاسات التي ترتبت عن ذلك. فالدولة الأمة لم تقص الدولة السلطانية، بل عملت على توظيفها واستيعابها لتولد نموذجا سياسيا جديدا سماه الباحث بالدولة التراصفية.

ومع كل هذه المزايا، فإن هذا الطرح تعتوره بعض النقائص التي ترجع إلى الأسباب التالية:

أولا: الانطلاق من المرجـعـيـة الأوروبـيـة؛ حـيـث تـم تـبـنـي نموذج الدولة-الأمة في صفائها المفاهيـمـي والسياسي ومحاولة تطبيق ذلك على التاريخ السيـاسي الـمغربي، الشيء الذي أدى إلى الخروج بعدة استنتاجات خاطـئـة. فـعـلى سبـيـل الـمثـال حاول الباحـث منذ بداية طرحه رصد جوانب الهشاشة السياسية للدولة السلطانية بالمغرب، وأرجع ذلك إلى التشتت السياسي الذي كان يعرفه المـغرب ما قبل الاسلام وعدم تأثير الاحـتـلال الروماني في البـنـيـان السياسي المغربي. بالإضافة إلـى ضعـف كـل الأسـر الـحـاكـمـة الـتي تـعـاقـبـت عـلـى ســدة الـحكم بالمغرب، وعدم قدرتها على جعل الدولة تتحكم في مجالها السياسي.

وهـكـذا، فـإن الانطلاق من هذه المسلمة أوقـع الباحث في مزالـق علمية قاتـلة، يكمن أهمها في عـدم مراعـاة الـخصـوصيـة السياسية والاجـتمـاعيـة والـثـقـافـية الـتي تميز الدولة بالمغرب. كـمـا أنه أغـفـل أن نـمـوذج الـدولة-الأمة، حـتى فـي تـربـته الأوروبية، لم يكتمل إلا بالتدريج، وأن كل بلد أوروبي عرف فترات هـشاشته السياسية تجسدت عي عدم اختراق الدولة لمجالها السياسي، فالدولة المركزية في فرنسا مثلا لم تـتـحقـق إلا مع لويس14.

ثانيا: إن اخـتـزال تـطـورات الكيـان السـياسي في الـمغرب في نموذجين رئيسين: دولة سلطانية ودولة تراصـفيـة قـلـص من حيـويـة هـذا التطورات؛ إذ من حق المرء أن يتساءل: ألم يعرف المغرب نماذج أخرى غـير النموذج السلطاني والنموذج التراصفي؟ ولعل وعي الباحث بهذا المعطى جعله يعمد إلـى تـصنـيف الـنموذج السـلطاني إلـى نـموذجين فرعيين: النموذج شبه الامبراطوري والنموذج الباترمونيالي.

ثالثا: الـتـناقض والغموض الذي يكتنف استخدام مصطلح الدولة التراصفية؛ فالتراصف هو عملية وصف لســيرورة سياسية وليس تجسيدا لهذه السيرورة. فإذا حق لنا أن نستخدم هذا المصطلح في تحليل عــمـلـيـة انـدمـاج الـمؤسـسـات الاستعمارية بالمؤسسات السلطانية، أو ما سماه الباحث بالنظام الـتراصفي، فـيـبـقى مـن غير الجائز استخدام المصطلح نفسه لتعيـين الدولة التي تولدت عن هذه الـعـمـلـيـة نـظـرا لأن هذا المصطلح لم يتضمنه بعد القاموس السياسي المغربي، وكذا لأن المصطلح لا يتماهى والتربة السياسية التي انغرس فيها.

‫تعليقات الزوار

2
  • جمال
    الأحد 24 دجنبر 2017 - 12:28

    الونشريسي لم يقتل بفاس، بل مات بعد أن بلغ حوالي الثمانين من عمره بتلمسان، لا اعرف لماذا اعتمد شقير مؤرخ مجهول ، ولم يعتمد على المؤرخين الغير المجهولين الذين أثبتوا بان الونشريسي رحمه الله توفي بتلمسان ولم يقتل بفاس.

  • مغربي
    الأحد 24 دجنبر 2017 - 17:53

    الجميل في تاريخ هذه الأمّ انها لم تستسلم للغزوات الإيبيرية و الفرنسية منذ سنة 789 حتى سنة 1912 كان اول مرة تطأ اقدام المستعمر الفرنسي والإسباني داخل العواصم الإمبريالية المغربية لكن لم يدم إلا حولي 40سنة وكذلك المحافظة على التسلسل السلطاني الذي استفادة من التطوّر الاوروبي في تكوين دولة عصرية توحّد الأمة المغربية ضد الأجانب ربما أكثر من الماضي و وضع رموز كالإسلام و الملكية كرموز تجمعنا وتميّزنا على دول أخرى .

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال