داود يؤرخ "النْزاهة" في تطوان .. أغراس وطرب و"حلويات بأتاي"

داود يؤرخ "النْزاهة" في تطوان .. أغراس وطرب و"حلويات بأتاي"
الثلاثاء 12 مارس 2019 - 07:00

بأسلوب سردي شيّق وسلس يشعّ عاطفة وحسّا، ما زالت مذكرات “على رأس الأربعين” (الجزء الأول)، للأديب والمؤرخ الراحل، محمد داود، الذي قامت بتقديمه والتعليق عليه كريمته الأستاذة حسناء، تستقرئ زوايا الذكريات والامتدادات التاريخية، وترحل بالقارئ في عوالم مدينة تطوان، في الأحداث والرموز والشخصيات، وفي العادات والتقاليد، لتقف به بين الصّلات والرّوابط وبين الماضي كقوة فاعلة لا تنمحي.

في هذه الزاوية وضمن صفحات: 21، 22، 23، 24 و25 من المذكرات ذاتها، يستعيد الأديب محمد داود ببوحه الشّفيف عنفوان مدينة تطوان ومحيطها وكوامن الذكرى، مسجّلا لحظات نابضة داخل مجتمع إنساني تعدّدت عاداته واغتنت ثقافته. ولعلّ المدينة بكل جنباتها وضواحيها وأشجارها وبساتينها وظلالها وسواقيها صارت ملاذا متناغما نحو طقس “النْزاهة” في أبعاده النفسية الفسيحة والمريحة، وفي هذا يقول الرجل: “ونزهة الأسبوع وما أدراك ما نزهة الأسبوع لدى السيّدات والأطفال. لقد كان ظهر الخميس لدينا كأنه عيد من الأعياد، وكانت غرسة العقلة في نظرنا كأنها جنّة من الجنان، ورد وياسمين وزهر ونسرين وقيقلان وفل وسوسان وقرنفل، إلى أزهار بيضاء أو زرقاء وأخرى حمراء أو صفراء، طرق منظمة وأشجار باسقة وظلال وريفة.. وقد أحاطت بتطوان غروس وبساتين من ثلاث جهات، وما من أحد من أغنيائها أو متوسطي الحال بها إلا وله غرسة أو جنان”.

ويزيد داود، كمتمّمات على هذه المشاهد والعادات، أن المدينة كانت تقضي ستة أيام من الأسبوع في شغل شاغل، ليحل يوم الخميس، فيشتغل الناس في نصفه الأول، ويستريح جلهم في نصفه الثاني. وكان هو يذهب صباح الخميس إلى المسيد، فيقضي به ساعتين أو ثلاث ساعات، ثم يطلق سراحه مع أترابه وكأنهم كانوا في سجن ضيق، فيخرجون إلى ميدان الحرية الفسيح، فيفطرون بالخبز والجبن أو الزبدة والقهوة بدون لبن، أو يشربون الحريرة بالتين اليابس أو الزبيب، ثم ينطلق كل واحد منهم إلى بيت من بيوت العائلة ليذكّرها بالاستعداد لنزهة الأسبوع، والموعد غرسة العقلة.

ما احْلى النْزاهة مع الناس لقْدام..

في هذه الالتفاتات والالتماعات يضيف داود، وهو يتعثّر بطريق الطفولة ويستنشق نكهات الحلويات والأطعمة، “فهذه الدار تهيئ القْراشل أو القْفافل، وتلك تصنع الرغائف في الدار أو في الفران، وأخرى تحضر البشْكتّو أو بويوات الذرة بالإدام والخْليع، ومن لم يسمح لها الحال بشيء من ذلك، تأتي بالخبز وجبن الغنم الطري اللذيذ أو القشْقْشَة المتنوعة الأشكال والألوان.

ونتغذى نحن الأطفال في الزّوال ونسرع لدار جدتنا فنأتي بمفتاح الغرسة، ولا تمر ساعة حتى تكون الجلسة بها مرشوشة مفروشة، وقد أتت خادمة كل واحدة من الحاضرات بزربية أو تسريح أو لبدة، مع سبنية فيها سكر وأتاي، مع ما حضرته من أكل خفيف ظريف، فتجمع كبيرة الحاضرات ذلك كله، وتضم بعضه إلى بعض، وتنظمه وتنسقه لساعة الحاجة إليه. وتوضع في وسط الحاضرات مبخرة تعبق منها رائحة العود القماري الممتاز، وتنحاز العجائز إلى إحدى جوانب الجلسة وقد غطيت حجورهنّ بمناديل الصوف المخطوطة بالأبيض والأحمر. ثم تأتي الخادمة لهذه السيدة بالطار، ولتلك بالدربوكة، ولأخرى بأكوال (التّعريجة )، فتوزّع آلات الطرب على الحاضرات وتسرع الأوانس في الغناء والطرب” .

وقبيل المغرب يكون الرجال قد انتهوا من شرب الأتاي وملؤوا سبانيهم بالنعناع، لهم ولرفقائهم وأصحابهم، فينطلقون إلى حال سبيلهم استعدادا للصلاة مع جماعة المسلمين، وتنطلق النّساء بين الأشجار والأزهار يقطفن من زهورها وفواكهها.

أغراس وعطل ولباس وطني..

ومرة أخرى يلامس محمد داود حيرة الطّفل فيه بين البراءة والحنين والذكريات وروح الأشياء، إذ يروي: “كنت إذا مررت بالطرق القريبة من أبواب تطوان، ظهر الخميس أو عشيته، تجد النساء أسرابا، وكلهنّ لابسات الثياب الوطنية البيضاء، لا فرق في ذلك بين الغنيّات والفقيرات، ولا بين المثقّفات والجاهلات. وكانت غراسي زيّانة أكثر البساتين موافقة لتلك النزه الأسبوعية – ظهريات الخميس -، تليها أجنة الطويلع والغراسي القريبة من بابي التوت والنوادر، وكل قوم بناحيتهم معتزون ولها مفضلون، وتلك سنة الله، كل حزب بما لديهم فرحون. أما الغراسي والبساتين البعيدة ككيتان وبوجرّاح والعدوة.. فكان الناس في الغالب يتهيؤون لها يوم الأربعاء، ويبكّرون لها على البهائم صباح الخميس، حيث يقضون النهار كله، ويسمّى ذلك بالقيّولي”.

وكانت عائلة الأديب محمد داود تقضي قيُولياتها في غرسة والده بكيتان، وكانت تلك القيوليات تاريخية بالنسبة إلى عقله ومحيطه، لأن غراسي تلك الناحية يدخلها جزء من نهر كيتان، فكان رفقة الأطفال يسبحون في تلك السواقي. والأطفال حينما يجدون المياه المأمونة يفعلون ما يغيظ الأمهات والآباء، إلا أن آباء الأطفال ما كانوا يغتاظون من ألعابهم وسباحتهم، لأنها كانت هادئة وديعة مأمونة.. كما أن فواكه كيتان من لشّين وإجّاص وتفاح كانت مضرب المثل في الجودة والمذاق.

‫تعليقات الزوار

20
  • زرادشت
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 07:45

    ياحسرة ! على العباد. ما من شيء كان جميلا وممتعا في هذه البلاد. إلا أعدموه وحلوا مجله نشر البشاعة والقبح.فعوض ثقافة الورود والأزهار والطرب والترفيه.سادت الأزبال والأوساخ والتشرد والجنون والعدوانية. تقدم الحجر نسبيا وتخلف البشر عجبا !!

  • Rida mostfa
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 08:02

    رحمة الله عليك ياتطاوين. ..رحمة الله عليه ارخ النزاهة في تطاوين لا لتطوان

  • حضارة
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 08:07

    من يعيد لنا الماضي الجميل لمدينة تطوان مدينة الحضارة ……….

  • مصطفى الحميمدي
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 08:17

    فعلا لا زلت أتذكر بكل حنين وإشتياق إلى عمتي وجدتي وأمي وأبي رحمهم الله وهم يتحدثون عن تلك الأيام الخالدة أما جيلي فلم نتذكر سوى بعض الخرجات إلى بعنان والعاقبة دالحلوف ووأد كويلما والمحنش. أما هذا الجيل فلم نترك لهم سوى البناء العشوائ والمطارح العشوائية و المخدرات السامة والمنحرفين من كل صوب لماذا ماضينا أحسن من حاضرنا????

  • بائع القصص
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 08:45

    من يتأمل الصورة اعلاه يلاحظ كيف كان النساء يلبسن المنديل ويهتمن بجمالهن بينما نساء اليوم جلهم يحشون رؤوسهن في الخناشي والاكياس البيضاء والسوداء، المناديل المزخرفة واشكالها كانت في ذلك الوقت سائدة في أوروبا وشمال إفريقيا.
    إلا أن الفكر المتزمت الوهابي بدء يكتسح شيئا فشيئا ويكرس تشويه المرأة واعتبارها فقط عورة.

  • محمد
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 09:18

    الاسمنت زحف على كل شيء في تطوان واباد الاغراس والغطاء الاخضر

  • ت.ف
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 09:38

    منذ فرنسة شمال المغرب فقد المغرب روحه و ذاكرته العربية الاندلسية و عم الخراب و قل التحضر…بينما كان الشمال راقي و عالى في ثقافته و ذوقه و موسيقاه و لغته العربية الرائعة لان اهل الشمال متوسطييون على اتصال دائم باسبانيا المجاورة لهم و التي لهم معها علاقات معقدة ثقافية عرقية مصاهرة الخ…مستوى شمال المغرب هبط حين تم تعميم الفرنسية الركيكة فرنسية البونيول و التي يرفضها اهل شمال المغرب المتحضرين

  • محمد شكري
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 09:39

    تحية عالية للكاتب الكبير و العظيم و العالمي محمد شكري الذي كتب بكل صدق و جرأة عن تطوان الحقيقي : تطوان الفقراء و المعدومين و الكادحين … تطوان الخضارة و بائعي الكيف و بائعي الخمر خلسة و النشالين و اللصوص و العاهرات و النادلين و سماسرة الجنس و كل أطياف المجتمع … أنه جعل العالم يعيش في تطوان الحقيقي بدون زواق و لا نفاق و بدون غض البصر عن اﻷمرض و الواقع اﻷسود الذي كان يعيشه تطوان

  • ياحسرة
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 09:52

    ياحسرة على ذلك التاريخ . كانت تطوان في اوجها الحضاري

  • سناء
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 10:23

    كانت تطوان محافظة على حضارتها وعاداتها . اما اليوم فالكل يعيش الغربة في مدينته

  • مواطنة
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 10:26

    الزمن الجميل لما كانت تطوات بأهلها قمة في الذوق الرفيع و الحضارة..تحكي لي جدتي التطوانية كيف كانت المرأة التطوانية تهتم بفنون التطريز ..و تقطير ماء الزهر و العطرشة ..حيث كانت لذلك طقوس..وكيف كانوا يقضون العشية بإستدعاء (العوادة) أي عازفة العود ..أما اليوم فتطوان كفاس و غيرها من المدن اخلط الحابل بالنابل و لم تبقى سوى الذكرى

  • ahmad alhasani
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 10:32

    تقريبا كل المدن المغربية عاشت هذه المظاهر الحضارية، مثلا في مدينتي طنجة يتحدث كتاب لمستشرق فرنسي عاش بها في أواخر القرن التاسع عشر، عن خروج كل الطنجاويين رجالا ونساءا وأطفالا ظهيرة يوم الخميس لنزاهة بمنطقة جبل الكبير والتي كانت منطقة غابات وبساتين وعيون ماء والأن غزها التتار من الخليج وأغنياء السياسة وتجارة المحرمات ، فبنيت قصورا وفيلات واختفت الغابات التي كانت رئة المدينة ومعها ضحكات الأطفال وأحلامهم ……

  • عمر
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 10:40

    المعلق محمد شكري، تعليق في الصميم، والذين كانت لديهم الغراسي والجنانات، تحولت إلى سيما واسمنت، وعشوائية البناء، فالذي حدث لتلك المساحات الخضراء هو الذي اتعب تطوان وادخلها في متاهات البؤس والفقر والعشوائية،،

  • سليمان
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 11:12

    الفكر الوهابي اخرج على الامة المغربية.

  • adam
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 13:50

    كل المدن التاريخية عاشت نفس العادات والتقاليد في زمن البساطة والغنى عن الناس . للاسف ضاعت كل هذه الامور مع الوقت واصبح الكل يلهث وراء المال والربح السريع

  • alpha
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 13:51

    شوقي لهاته الحقبة من الزهن ولكن الصورة الرئيسية ليست لنزاهة انه فيلم دلخلعة ههههههههه اش هاد الشوفات ديال ريا و سكينة

  • تطواني
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 14:20

    تطوان او تطاون الاندلسية العامرة ضاعت بها عادات كثيرة ونهبت منها اشياء واشياء نتمنى السلامة لها من ايدي السوء

  • وليد موحن
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 14:31

    ان كتابات محمد داود لها مشارب ومراقي عدة ينهل منها الاديب ،ومن رحيقها المؤرخ ،ومن زبدتها المفكر .

  • مدينة الاسماء والاعلام
    الثلاثاء 12 مارس 2019 - 17:16

    تطاون اعطت اسماء كبيرة ومهمة في الثقافة والفن . داود الفقيه الرهوني مغارة حسن المفتي بن تاويت الخ …..

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال