سيرة "والآن أتحدث" - 1 - .. بلمودن وبداية الحلم في تحرير الوطن

سيرة "والآن أتحدث" - 1 - .. بلمودن وبداية الحلم في تحرير الوطن
الثلاثاء 7 ماي 2019 - 07:00

سنوات التكوين

أعتبر سنة 1946 منعطفا هاما في تاريخ حياتي فكأنني ولدت من جديد. وبقلب جديد وعقل جديد، فمن مجرد عامل بسيط تقلقه أحوال المعيشة إلى إنسان منفتح على العالم.

حسن بلمودن بن ابراهيم بن مسعود بن امحند بن احماد بن بلمودن بن عبد الله بن مسعود بن منصور. من مواليد سنة 1924. (توفي رحمه الله في 9 ماي 2016)

والدتي زاينة بنت محماد بن امبارك بن أحماد بن امحند، مسقط رأسي قبيلة هارغانا الخمس الأعلى، دوار إمي أم غاز، إقليم تارودنت، وهذه القبيلة هي مسقط رأس المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، إذن فأنا من أحفاده.

بعد بلوغي سن العاشرة، اشتغلت راعيا للغنم مدة ست أعوام، وفي سنة 1940 رحلت إلى مدينة الدار البيضاء وعمري لا يتجاوز 16سنة لألتحق بوالدي، الذي كان يومئذ يعمل في مختبر المستشفى العسكري ” مستشفى 20 غشت” حاليا.

الدار البيضاء

عندما وصلت إلى مدينة الدار البيضاء انبهرت بها واكتشفت أن المدينة تعيش ظروفا اقتصادية حرجة وأزمة بطالة حادة ونقص في المواد الغذائية، التي توزع حصصها بالبطاقة التموينية، أو “البون ” وهو ما أصبح مشهورا بعام “البون “.

فاضطررت للعمل في المقاهي والمطاعم والمخابز وتنقلت بين عدة حرف لمدة ست سنوات إلى أن اشتغلت في مستهل سنة 1946 بالميناء في شركة اسمها ” الشركة الشريفة ” المتخصصة في سحب وإصلاح البواخر التي كان يتم انتشالها من البحر بعد تعرضها للغرق على إثر الحرب العالمية الثانية، والاجتياح الأمريكي لبعض الشواطئ المغربية، وقنبلة الطيران الألماني لمدينة الدار البيضاء.

وشاءت الأقدار الإلهية بأن أتعرف على شاب ساهم بشكل كبير في تطوير تفكيري السياسي لأنني كنت أميا، إنه ” الحريشي محمد بن المختار العرائشي”، شقيق “حسن العرائشي” الرجل الوطني وأحد مؤسسي ” المنظمة السرية” للمقاومة.

وأعتبر سنة 1946 منعطفا هاما في تاريخ حياتي فكأنني ولدت من جديد، وبقلب جديد وعقل جديد، فمن مجرد عامل بسيط تقلقه أحوال المعيشة إلى إنسان منفتح على العالم، فانخرطت في العمل النقابي ضمن نقابة “س.ج. ت” “CGT” وبدأت أهتم بالأحداث العالمية والسياسية وهموم الوطن، ومآسي الانسان في البؤر المتوترة من أشقائي العرب في المشرق العربي وإخواني المسلمين في آسيا، وغيرهم وهكذا كنت أتابع مجريات الصراع في كل من مصر ولبنان وسوريا إلى أن تم تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة.

وأعتبر قرار اغتصاب الأراضي الفلسطينية هو الشرارة التي أججت في كياني نار الغضب ضد كل المعتدين، فكرهت الفرنسيين والإسبانيين الذين يحتلون بلادي، واخترت في علاقتي الشخصية فقط المواطنيين الذين يهتمون بالسياسة ويتذمرون من المستعمر.

وعلى الرغم من أنني و”محمد بن المختار العرائشي ” طردنا من عملنا بالشركة الشريفة لدواع نقابية، إذ كنت مندوبا بنقابة “س ج ت “” C GT” وعمري لا يتجاوز 24 سنة، بعد وقوع نزاع بيني وبين أحد المسؤولين عن تسيير الشركة الشريفة عندما طالبت منه الأجرة الكاملة ل 8 ساعات التي كنا نشتغلها بدلا من 7 ساعات، وتضامن معنا كل العمال فتم طردي رفقة “محمد بن المختار العرائشي” الذي اشتغل بشركة السجائر واشتغلت أنا في مخبز لصنع الحلويات.

وتوطدت علاقتنا واستفدت منه كثيرا في تطوير تفكيري السياسي من خلال ما كان يقرأه لي من المقالات المنشورة على أعمدة الصحف والمجلات الصادرة باللغات العربية والفرنسية والإسبانية والتي تتناول الأحداث العالمية، وبالأخص “المشاهد التي كانت تصل إلى المغرب من باكستان عن طريق لبنان، وكان يصدرها شيخ الإسلام الإمام أبو الأعلى المودودي، وكذلك “البصائر” التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحت رئاسة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي وعبد الحميد بن باديس ، ومجلة ” الهلال المصرية والمصور”، وكنت من جهتي أتابع ما يحدث في العالم معتمدا على المذياع، وأحرص على الاستماع إلى نشرات الأخبار، ولا أنسى تعلقي بإذاعة صوت العرب واستماعي الدائم لنشراتها الإخبارية.

ولابد أن أشير هنا إلى أن الشعب المغربي لم يكن بمعزل عما كان يحدث في العالم، فقد كان المغاربة يتابعون عن كثب أحداث التاريخ الحديث، وانتهاء الحرب العالمية الثانية بانهزام ألمانيا وايطاليا واستسلام اليابان بعد إلقاء القنبلة الذرية الأولى على مدينة ” هيروشيما “، وحركة تحرر الأمم فكنت أتابع مثلهم ما كان يجري في آسيا ما بين الهند والمستعمر البريطاني.

وكذلك ما كان يجري ما بين الزعيم غاندي ومحمد علي جناح في قضية باكستان من أجل انفصال المسلمين عن الهندوس، وكنت معجبا بالزعيم المسلم محمد علي جناح، الذي اتصل بالبريطانيين وقال لهم “لا تمنحوا الهنود الاستقلال قبل أن تفصلوا بيننا، فهم يعبدون البقر ونحن نأكل البقر” وكذلك بالشاعر الإسلامي الباكستاني محمد إقبال، إلى أن نجحا في تأسيس دولة باكستان الإسلامية الحديثة حرة مستقلة عن الهند.

كما كنت أتابع أحداث إندونيسيا عندما أعلن الزعيم أحمد سوکارنو ورفقاؤه الاستقلال من جانب واحد متحديا المستعمر الهولندي، وأحداث الثورة الإسلامية الأولى في إيران تحت إشراف أية الله أبي القاسم كاشاني، وحزب ” تودة ” اللذان كان لهما دورا أساسيا في مساندة محمد مصدق والحركة الوطنية، عندما نظم الإيرانيون مسيرات وصل عدد المشتركين فيها 500.000، متطوع ومتطوعة لبسوا كلهم أكفانهم معبرين عن صمودهم واستهانتهم بالموت، واستطاعوا فرض عودة محمد مصدق، الذي كان يرأس “حزب الجبهة الوطنية” رئيسا للوزراء من جديد وهرب الشاه إلى إيطاليا.

وأدخلت إدارته إصلاحات اجتماعية وسياسية واسعة، مثل الضمان الاجتماعي، وتنظيم الإيجارات، واستصلاح الأراضي، وبعد يومين من استلامه السلطة قام محمد مصدق بتأميم النفط الإيراني وألغي الامتياز الممنوح لشركة النفط الإيرانية البريطانية وتأميم مصفاة بترول “عبدان”.

إلغاء اتفاقية النفط مع بريطانيا وتأميم مصفاة بترول “عبدان”، كان هذا دافعا قويا لجهازي المخابرات الأمريكية والبريطانية إلى التدخل وتنظيم انقلاب عسكري، مما عجل بفشل الثورة الإسلامية الأولى في المهد ورجع الشاه إلى إيران، ثم جاءت الثورة المصرية سنة 1952 متزامنة مع نضج حركة المقاومة في المغرب العربي ضد الاستعمار.

” بداية الحلم بتحرير الوطن”

بالنسبة لي ففي هذه السنة بالذات، تعمقت أفكاري السياسية من خلال متابعتي لما تكتبه الجرائد والمجلات وما تبثه الإذاعات العالمية، وبدأت أهتم بأخبار الحركة الوطنية المغربية، وكانت لي فراسة لا تخطئ في معرفة حقيقة الناس، فعندما كنت ألتقي بإنسان وارتاح إليه أتبادل معه أطراف الحديث عن الأوضاع السياسية الوطنية والدولية، لأعرف رأيه فيها ومن خلال المناقشة أستنتج هل هو إنسان واع وناضج سياسيا، وأجاريه في الحديث لأعرف رأيه في الاستعمار الذي يجثم على ربوع الوطن هل هو معه أم ضده، وعندما أتأكد من حبه لوطنه وملكه أحبه وأتقرب إليه وهكذا توطدت صداقتي مع حسن العرائشي الذي كان يعمل آنذاك بالمطابع المتحدة التي كانت تطبع كل من جريدتي ” لوبوتي ماروكان” و”لافيجي ماروكان “، وقدم إلى مدينة الدار البيضاء سنة 1946.

وكانت لي صداقة مع أخيه محمد بن المختار العرائشي الذي كان يشتغل معي في الميناء، كما ربطتني صداقة العمل والمصاهرة بعرشي بوعزة الذي كان يشتغـل في الميناء، بشركة ” كادي نارو” ثم تعرفت على محمد الرحموني الذي قدم من مدينة العرائش سنة 1948، بواسطة حسن العرائشي، الذي كان السبب في قدومه لمدينة الدار البيضاء وتوسط له ليسكن معي مجانا في الدار التي كنت أكتريها بزنقة تادلة بدرب بوشنتوف، والمشهورة بدار “مولات الحليب”، ريثما يجد له عملا في مطبعة الأطلس ؛ وبعد ذلك تعرفت على سليمان العرائشي الذي حل بالدار البيضاء سنة 1949، واشتغل في المطابع المتحدة ، وقد عرفني به كذلك حسن العرائشي فجعلت تحت تصرفه الغرفة التي كنت أقطن بها سابقا بدرب ” اليهودي ” بدرب السلطان.

كان سليمان العرائشي يجلب معه بعض الأوراق من المطبعة ويشتغل عليها إلى وقت متأخر من الليل، في رسم وإنجاز خريطة للدول العربية ليعرضها في الحفلة المزمع تنظيمها بمناسبة العيد الفضي، وكان يشاركه الغرفة أحد معارفي الذي كان يشتغل في مقهى ويريد أن ينام ليصحو مبكرا، ولكن سليمان العرائشي كان يزعجه، فلم ينسجما فاضطر سليمان العرائشي للبحث عن مكان آخر ليستقربه وليتم رسم الخريطة، فتوجه عند حسن العرائشي في دار عمر الباعمراني الملقب ” أبا عمر أو مول الحليب “.

واستقر بها وفيها أكمل رسم خريطة الوطن العربي التي تم عرضها في الحفل الذي أقيم بساحة “درب الصوفي” بالمدينة القديمة للتأكيد على انتماء المغرب للوطن العربي، وذلك في إطار الحفلات الشعبية التي أقيمت تخليدا للذكرى الفضية لجلوس السلطان محمد بن يوسف على عرش أسلافه، هؤلاء الإخوان القادمون من مدينة العرائش إضافة إلى محمد كوفية السرغني وعرشي بوعزة، وحدت بيننا الأفكار الوطنية التي كانت تتكون وتتمخض عن رؤية تحلم بالوسائل التي يجب توفيرها لتحرير الوطن من المستعمر الفرنسي قبل نفي السلطان محمد بن يوسف؛ وهؤلاء الشباب رافقتهم وكانوا يزورونني في منزلي جماعة وأفرادا.

كنا في البداية أربعة أفراد فقط حسن العرائشي ومحمد بن المختار العرائشي وعرشي بوعزة ربطت بيننا الصداقة وحب الوطن منذ سنة 1946، قبل أن ينضم إلينا محمد كوفية السرغني ومحمد الرحموني وسليمان العرائشي، فكنا نلتقي في منزلي أو في منزل حسن العرائشي وفي كثير من الأحيان يكون لقاؤنا في مقهى بنعلال التي كانت توجد بزنقة” أيت إيفلمان ” في درب السلطان أمام المسرح الملكي، والتي كانت الملتقى المحبب للرياضيين والوطنيين، على حد سواء، فكنا نلتقي فيها ونناقش في جلساتنا قضية استقلال المغرب، ونستحضر كفاح الشعوب الأخرى والكيفية التي تحررت بها من نير الاستعمار، ونتدارس الكيفية التي ننشئ بها خلايا للمقاومة، وهكذا بدأت تتمخض في أذهاننا الإرهاصات الأولى للتفكير في مقاومة الاستعمار الفرنسي، والحلم بتحرير الوطن.

‫تعليقات الزوار

3
  • محمد
    الثلاثاء 7 ماي 2019 - 10:07

    أين هم الآن أمثال هؤلاء الرجال الاشاوس؟

  • المختار
    الثلاثاء 7 ماي 2019 - 11:50

    الصورة توضح ان المراة لما سترت جسمها و حفظت عفتها احترمها الرجل.تسير وسطهم بكل اطمئنان كانها بين اخوتها واقاربها عكس ما نراه اليوم من ميوعة وقلة ادب .الله يرحم زمن العفةوالاخلاق الفاضلة

  • تايكة غرماد
    الثلاثاء 7 ماي 2019 - 16:01

    مع الأسف الوضعية الحالية للبلد لم ترق الى مستوى تضحيات الآباء والأجداد لانه من تسلم من بعد عبث بشكل رهيب بمستقبل البلد وكانت النتيجة كارثية في الزمن الحالي

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين

صوت وصورة
الماء يخرج محتجين في أزيلال
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:30

الماء يخرج محتجين في أزيلال