سيرة "والآن أتحدث" ـ 2 ـ .. بلمودن يستحضر الرحلة الملكية إلى طنجة

سيرة "والآن أتحدث" ـ 2 ـ .. بلمودن يستحضر الرحلة الملكية إلى طنجة
الأربعاء 8 ماي 2019 - 06:30

عندما قررت الحكومة الفرنسية تعيين إريك لابون مقيما عاما جديدا على المغرب، وصل خبر تعيينه إلى علم بوكريم الروداني، أحد المتعاونين مع القصر الملكي، من طرف أحد أصدقائه وهو الحسين الدمناتي، الذي كانت تربطه بالمقيم العام الجديد زمالة دراسة، فأخبر السلطان محمد بن يوسف بذلك، فطلب السلطان من بوكريم الروداني أن يتصل به ويخبره بأن السلطان يريد رؤيته عاجلا.

وعندما حظي الحسين الدمناتي بلقاء السلطان محمد بن يوسف طلب منه أن يحدثه عن إريك لأبون، فأخبره بكل ما يعرفه عنه، وأضاف بأنه نشأ نشأة فرنسية متحررة تؤمن بتساوي الأفراد والجماعات في الحقوق والواجبات.

فسأله السلطان: “هل أنت على استعداد للسفر إلى فرنسا لزيارته، ومعرفة نواياه تجاه المغرب…؟”.

فأبدى الحسين الدمناتي استعداده للقيام بهذه المهمة، فودعه السلطان بعدما طلب منه أن لا يخبر أيا كان عن سبب زيارته لفرنسا.

سافر الحسين الدمناتي إلى فرنسا والتقى بإريك لابون، وهنأه بالمنصب الجديد، وسأله عن موقفه من القضية المغربية، وعن نواياه تجاه الشعب المغربي وملكه…

فأخبره إريك لابون بأنه لم يوافق بعد على المنصب الجديد، لأنه اشترط أن تكون له كامل الصلاحيات في اتخاذ كل القرارات والإصلاحات التي ستساعده على النجاح في مهمته الجديدة.

فسأله الحسين الدمناتي: “وما هي هذه القرارات والإصلاحات؟”.

فأجابه إريك لآبون: “سأقوم بإجراء إصلاحات جذرية إدارية واقتصادية، وسأشجع الفرنسيين على الاستثمار في المغرب لتنميته، وسأسمح باستئناف الأحزاب السياسية لأنشطتها، وسأمكن المغرب من الحصول على استقلاله الداخلي، خصوصا أنه سبق لي العمل في المغرب بالإقامة العامة وأعرف سكانه حق المعرفة”.

ودع الحسين الدمناتي إريك لابون، وتمنى له التوفيق في مهامه الجديدة، ورجع إلى المغرب وأخبر السلطان بالحوار الذي جرى بينهما.

وعندما عينت الحكومة الفرنسية إريك لابون أصدر السلطان محمد بن يوسف أوامره بأن يخصص للمقيم العام الجديد عند وصوله إلى المغرب استقبالا حاشدا.

ويوم وصول إريك لأبون إلى ميناء مدينة الدار البيضاء خصص له استقبال منقطع النظير شارك فيه الآلاف من السكان، وكنت من بينهم، إذ اصطفت الخيول بفرسانها وكذلك الجماهير ابتداء من الرصيف الذي رست فيه الباخرة بميناء الدار البيضاء، وعلى طول جانبي شارع “الزوف الرابع” (هوفويت بواني حاليا)، مرورا بشارع “فرنسا” (الحسن الثاني حاليا) إلى المكان الذي توجد به الآن القنصلية الفرنسية.

لم تكن الزيارة الملكية إلى مدينة طنجة مجرد زيارة عادية من أجل الاستجمام أو إلقاء خطاب… ولكن مغزاها العميق كان يتجلى في أن السلطان محمد بن يوسف كان يريد أن يبرهن للعالم وللفرنسيين والإسبانيين على وحدة البلاد، وليبطل كل ترهات وأحلام الاستعمار، وليعلن للعالم أجمع أنه سلطان على المغرب كله، وليس فقط على المنطقة التي تحتلها فرنسا، وفي الحقيقة كانت الرحلة لتوحيد جنوب المغرب وشماله تحت ظل المملكة العلوية الشريفة، والمطالبة باستقلال المغرب.

وقد شجع السلطان محمد بن يوسف على القيام بهذه الرحلة قدوم المقيم العام الجديد إيريك لابون، فتنفس المغاربة الصعداء بعد إطلاقه سراح جميع المعتقلين السياسيين، وأعاد من المنفى كلا من الأساتذة علال الفاسي، وأحمد بلافريج، ومحمد بلحسن الوزاني، والعلامة محمد بن العربي العلوي، وسمح لهم بمزاولة السياسة علانية، وبتنظيم حفلات عيد العرش، فنظم الوطنيون الحفلات، كما تم تأسيس فرق الكشفية.

وأجرى العديد من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية، وسمح بفتح المدارس الحرة، وإصدار الجرائد الوطنية، وفتح أبواب المغرب أمام رؤوس الأموال الأجنبية، التي أنجزت العديد من المشاريع الاقتصادية الهامة.

لهذا فكرت عصابة الوجود الفرنسي وبعض المتواطئين معها من الإقامة العامة في إفشال هذه الرحلة، بافتعال أحداث دموية للحيلولة دون قيام جلالته بها، فتفتقت الأفكار الخبيثة لغلاة المستعمرين الفرنسيين وعصابة الوجود الفرنسي، التي كان يترأسها الدكتور إيميل إيرو، وفليب بونيفاص، رئيس ناحية مدينة الدار البيضاء والشاوية، الذي يعد في الحقيقة الممثل الحقيقي للحماية الفرنسية بالمغرب، إذ كان مسيطرا على جميع أعضاء عصابة منظمة الوجود الفرنسي وغلاة المعمرين الفرنسيين الذين كانوا يعارضون هذه الزيارة، فعملوا على إشعال نار الفتنة بين الجنود السنغاليين، المنضوين ضمن جنود اللفيف الأجنبي المعسكر بثكنة “عين البرجة ” بطريق أولاد زيان بالدار البيضاء، وبعض المواطنين قبل انطلاق الرحلة الملكية يوم 7 أبريل سنة 1947، والتي بسببها انطلقت حملة مسعورة من تلك الثكنة، فهاجموا سكان أحياء “درب الكبير وكراج علال ودرب السادني ودرب ميلان وبنمسيك”، وانطلق الرصاص الغادر يحصد أرواح المئات من الشهداء الأبرياء.

بعد انتهاء هذه المجزرة الرهيبة التي قام بها الجنود السنغاليون، بتحريض من عصابة الوجود الفرنسي وغلاة المعمرين وبتواطؤ مع الإقامة العامة، خرجنا في فجر غد ذلك اليوم المشؤوم، رفقة العديد من المواطنين في مقدمتهم أحميدو الوطني رحمه الله، لنجمع رفات الشهداء من وسط الأحياء، وكذلك من وسط الأعشاب في المكان الذي يعرف اليوم بـ”مقبرة أغبيلة، وحي الفرح”، وكان أحميدو الوطني يأخذ صورة لجثة كل شهيد، واستغرق عملنا من الفجر إلى غروب الشمس، فدفنا أكثر من 185 شهيدا رحمهم الله في المقبرة القديمة بطريق أولاد زيان.

وتحديا من جلالته للسلطات الاستعمارية، قام بزيارة مدينة الدار البيضاء قبل توجهه إلى مدينة طنجة، تفقد فيها أحوال الجرحى لمواساتهم والتخفيف عنهم والتضامن معهم وللترحم على الشهداء، ومواساة عائلات ضحايا المجزرة الرهيبة، وأمر بتقديم الإعانات والاسعافات لهم، وعلى الرغم من مظاهر الحزن فقد كان موقف السلطان بزيارته لمدينة الدار البيضاء أسمى من كل الأحزان والآلام.

وعلى الرغم من هذه الأحداث الإجرامية التي خلفت المئات من الشهداء، لم تنجح المؤامرة، وسافر السلطان محمد بن يوسف إلى مدينة طنجة للقاء أبناء شعبه في الشمال، مخلفا وراءه أبناء شعبه في الجنوب، يسطرون بالدم والنار مباركتهم خطوات ملكهم لتوحيد المغرب جنوبا وشمالا. ونجحت الرحلة، وحققت أهدافها، وألقى السلطان خطابه التاريخي، وشارك الأمير مولاي الحسن والأميرة لالة عائشة والدهما في هذا الحدث بإلقاء خطابين هامين.

وقبل مغادرته مدينة طنجة تسلمت الصحافة الوطنية والدولية بلاغا أعلن فيه السلطان أن “المغرب مصر على استرجاع حريته واستقلاله، وأنه بصفته دولة عربية يرغب في الانخراط في جامعة الدول العربية”. ووصلت الرسالة الملكية إلى أسماع كل الدول، وأصبحت القضية المغربية محط أنظار العالم، وتعاطف معنا كل الشرفاء الأحرار، وكل المنادين بتحرير الشعوب والمنددين بالاستعمار.

كان للزيارة الملكية لمدينة طنجة وأحداث الدار البيضاء الأثر العظيم في نفوس المغاربة، فقد بدأ المواطنون يفكرون في الكيفية التي تخلصهم من الاستعمار الفرنسي، ونشطت الحركة الوطنية في التعبير عن سخطها، واستيقظ الوعي الوطني بقضية تحرير المغرب من براثن الاستعمار، وأصبح المغاربة قاطبة يتابعون الإذاعات العالمية التي تبرز في نشراتها الأحداث التي تجرى بالمغرب.

ألفونسو جوان مقيما عاما

بعد الزيارة الملكية لمدينة طنجة قررت الحكومة الفرنسية نهج سياسة الشدة والعنف، فتم عزل إريك لابون الرجل التحرري، وتعيين مقيم عام جديد من أعتى قوادها، ولا يتقن سوی لغة العنف. إنه الجنرال ألفونسو جوان، الذي قام بدور كبير في خلع باي تونس سنة 1943. كانت مهمته الأساسية تقتضي القضاء في المهد على الصحوة الوطنية والمد التحرري الذي بدأ يشغل بال المغاربة وأن المطالبة بالاستقلال مسألة ضرورية، وقد عقدت الحكومة الفرنسية على تعيينه كثيرا من الآمال ليظل المغرب تحت قبضة أيديها، لأنها كانت تعتبره اللؤلؤة النفيسة في عقد محمياتها ومستعمراتها الفرنسية كلها، لذا يجب الحفاظ عليه والقضاء على الحركة التحررية به، قبل أن يستفحل الأمر، خصوصا أن أصداء الخطاب الملكي وصلت إلى القطر الجزائري، والاستعمار يعلم جيدا أن الجغرافية والسياسة تتواصلان، وأن هناك ارتباطا متينا بين الشعبين، وأن تغيير الأوضاع في المغرب ستكون له تبعات وانعكاسات على الجزائريين.

وكان من مبررات الحكومة الفرنسية لتعيين ألفونسو جوان مقيما عاما بالمغرب أن محمد بن يوسف له ماض صعب، وهو يعادي فرنسا، لذا يجب تحجيمه وإيقافه عند حده، والخطاب الذي ألقاه بطنجة في غفلة منا، هو خطاب سيئ، فيجب اتخاذ إجراءات علنية، حتى يتيقن الجميع بموقفنا الحازم تجاه السلطان، وبما أنه سياسي ماهر سيفهم وسيدرك أن فرنسا بفضل أصدقائها في المغرب، من المغاربة وغيرهم، بإمكانها خلعه وتعيين سلطان آخر، لذا يجب تعيين عسكري حازم لهذه المرحلة الحاسمة. فقام المقيم العام الجديد بتسطير برنامج يحمل مخططات خطيرة ترمي إلى تحقيق أهدافهم الاستعمارية، ومنها:

• التضييق على حرية السلطان والحد من نفوذه.

• القضاء على المد التحرري.

• إدراج المغرب ضمن الاتحاد الفرنسي.

• القضاء على شخصية المغرب الدولية والحاقه بفرنسا نهائيا.

دخل المغرب في معركة جديدة مع المستعمر، أبدى فيها السلطان محمد بن يوسف ضروبا من المقاومة والنضال، ولم يرضخ لرغبات وضغوط وابتزاز المقيم العام، وتوترت العلاقات بين القصر والإقامة العامة، مما دفع بالحكومة الفرنسية في الأخير إلى البحث عن مخرج لهذه الأزمة الخطيرة، فقررت دعوة السلطان للقيام بزيارة فرنسا.

الرحلة الملكية إلى فرنسا

في شهر أكتوبر سنة 1950م قام السلطان محمد بن يوسف برحلة إلى الديار الفرنسية، استجابة لدعوة رئيس الجمهورية فانسان أريول، من أجل التشاور وإجراء مفاوضات سياسية لإيجاد حل للأزمة التي وصلت إليها العلاقات بين القصر والإقامة العامة.

عند نزول السلطان من الباخرة بمدينة بوردو خصصت له الجالية المغربية المقيمة بالديار الفرنسية، والجالية العربية، وخصوصا أبناء المغرب العربي، استقبالا حماسيا منقطع النظير. وعند وصول السلطان إلى مدينة باريس قام وفد يمثل جمعية العمال المغاربة بفرنسا بزيارته في مقر إقامته، وإهدائه سيارة من نوع “سيتروين تراكسيون أفون” ذات الدفع الأمامي، كتعبير عن ولائهم وإخلاصهم لملكهم وتشبثهم بوطنهم، ودعمهم ومساندتهم لمواقفه الداعية إلى تحرير بلادهم.

وعند بداية المحادثات الرسمية قدم السلطان محمد بن يوسف إلى الحكومة الفرنسية مذكرة تتضمن العديد من الإصلاحات، من أبرزها: مراجعة عقد الحماية في شقه المتعلق بالحياة السياسية والنقابية، وحذف الرقابة على النشر وغيرها. لكن الحكومة الفرنسية رفضت في ردها كل ما يتعلق بمعاهدة الحماية والحياة السياسية، واقترحت إصلاحات محدودة تهم الحياة النقابية وحذف الرقابة على النشر. ورأت أن المطالب الأخرى يجب أن تدرس ضمن عقد الحماية دراسة وافية من طرف لجان مختلطة فرنسية مغربية يعينها المقيم العام، ويختار من بين أعضائها شخصية فرنسية لرئاستها، وجاء هذا الرد مخيبا لآمال جلالته وتكريسا لهيمنة الإقامة العامة، مما دفع السلطان إلى تقديم مذكرة ثانية تعزز المذكرة الأولى، مطالبا بمراجعة معاهدة الحماية ودراستها من جديد دراسة وافية للوصول إلى حل وسط يرضي الطرفين للوصول إلى الاستقلال التام؛ ورجع السلطان إلى المغرب.

وعند وصول الباخرة الملكية إلى ميناء الدار البيضاء خصص له سكانها استقبالا حافلا ابتهاجا برجوعه، ونصبوا له قوسا للنصر بحي الأحباس. ويعد هذا القوس أول قوس للنصر يقام في المغرب تخليدا للنصر الذي أحرزه السلطان محمد بن يوسف عند زيارته لمدينة طنجة، بخطابه التاريخي، ومواقفه الشجاعة والصريحة عند زيارته لفرنسا.

في التوقيت نفسه كان الباشا التهامي لكلاوي رفقة أذنابه وبعض العملاء، يجرون محادثات سرية في باريس مع الحكومة الفرنسية، وأعلن معارضته للخطة الملكية، بدعوى أن كل المطالب التي تقدم بها السلطان للحكومة الفرنسية لم تكن تعبر إلا عن طموحات الشخصيات السياسية والحزبية المحيطة بالسلطان، ولا تعبر عن مطالب كل المغاربة، وأنها تسعى بالأساس إلى إلغاء امتيازات الأعيان الكبار. وبعد ذلك استغلها الباشا التهامي لكلاوي فرصة للسفر إلى بريطانيا في محاولة لكسب التأييد لأطروحته الكاذبة، وتصدى كل المغاربة لهذه المؤامرة الدنيئة وأرسلوا رسائل وبرقيات توضيحية إلى ملكة بريطانيا ورئيس وزرائها يناشدونهما رفض استقبال هذا الخائن لملكه ولوطنه والمتمرد عن الشرعية.

وبعد رجوعه من رحلته لفرنسا وبريطانيا کشف الباشا التهامي لكلاوي وأذنابه عن وجوههم القبيحة بعداوتها المبيتة، وشرع يجمع حوله باشاوات وقياد القبائل للتشكيك في شرعية السلطان محمد بن يوسف.

‫تعليقات الزوار

2
  • كريم
    الأربعاء 8 ماي 2019 - 18:08

    بصفتي أستاذ التاريخ،أود أن أشكر جريدتنا هسبريس على تناول هذا الموضوع الهام في تاريخ المغرب لتنوير الرأي العام ومساعدتنا على فهم مراحل هذه الفترة خصوصا من طرف أشخاص عايشوها وكانوا من صناعها وشهداء عليها.

  • محمد اللغافي
    الخميس 9 ماي 2019 - 00:23

    موفق صديقي وعضو جامعة المبدعين المغاربة التهامي النجار على سرد هذه النبذة من حياة مناضل / وسبق لي قراءة هذه السيرة التي تؤرخ لحقبة من زمننا المنسي

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة