مرجعيات الفلسفة الغربية - 2 - .. ميلاد مذاهب ونظريات العقلانية

مرجعيات الفلسفة الغربية - 2 - .. ميلاد مذاهب ونظريات العقلانية
الأربعاء 8 ماي 2019 - 03:00

نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات.

إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة.

28/2 – ميلاد العقلانية

منذ أمد بعيد انكب رجال الفكر على إيجاد علاقة بين تصورات الإنسان لمحيطه الطبيعي وواقعه الاجتماعي، وذلك من خلال تعامله مع قوى الطبيعة من جهة، وعبر الأنظمة والضوابط الاجتماعية التي يؤسسها هو نفسه من جهة ثانية.

ويرى ألبير بريمو، أستاذ فلسفة القانون بجامعة باريس، أن المذاهب العقلانية تشمل كل النظريات التي تتخذ من العقل محورا لعناصر أطروحاتها، معتبرة إياه كسلطة بيد الإنسان تمكنه من التنظيم الممنهج لمعارفه وسلوكياته، وتساعده في نفس الوقت على بناء علاقة رشيدة مع الطبيعة.

بمعنى آخر، تؤكد هذه المذاهب على أن البشرية قد وصلت إلى مستوى من الوعي والإدراك انبثقت عنه نظرة خاصة إلى الإنسان، ذلك المخلوق الذي يتميز عن الحيوان بالعقل. وهذه الخاصية هي التي تؤهله لاكتشاف قوانين الطبيعة بهدف تلبية حب استطلاعه الغريزي وتسخير تلك القوانين لفائدته.

وبالطبع لم تقف المسألة عند حد الملاحظة المجردة التي قد تبدو بسيطة وربما سطحية، وإنما تمخضت عنها تأويلات تكاد تكون متضاربة وفي بعض الأحيان غامضة، حتى وإن بقيت العقلانية قاسمها المشترك.

فبعض المذاهب تعتبر العقل بمثابة نسق من المبادئ يتحرك بموجبها وعي الإنسان بنفسه في علاقته مع العالم، وتشكل لديه نموذجا معرفيا شاملا. بينما ترى مذاهب أخرى أن العقل نظام متكامل يتولد عن طبيعة الإنسان، وهو الذي يمكنه من الوصول إلى معرفة الحقيقة ويساعده على التمييز بين الخير والشر.

وبالتالي يدفعه إلى تنظيم المجتمع بصفة إرادية وليس عن طريق الصدفة التلقائية. وهناك من يرى أن العقل هو القدرة على التفكير حسب قوانين تهدف إلى تكييف السلوك الإنساني. وفيها يبرز العقل في إشكاليته الإدراكية بين ما هو ضروري وما هو كلي، أي أنه عبارة عن قوانين فكرية ضرورية وكلية، البعض منها مكتسب وناتج عن التجربة، والبعض الآخر متأصل في العقل بشكل طبيعي ومستقل عن العالم المادي.

ويطلق أرسطو مصطلح «النفس الناطقة» على العقل، باعتباره موجها ومنظما لقوى الذات البشرية. وهذه النظرة المتسامية للعقل هي التي تطفو على السطح عند إيمانويل كانط حين يقول: «كل معرفتنا تبدأ من الحواس، ومن ثم تنتقل إلى الذهن، وتنتهي في العقل. وليس فينا ما هو أسمى من العقل لمعالجة مادة العيان أو الحدس وردها إلى الوحدة العليا للفكر».

إلا أن الإشكالية تزداد تعقيدا عندما يستعمل مفهوم العقل ومفهوم الطبيعة بشكل يلفه الغموض. فتارة الطبيعة تعني الاستسلام للغائية التي تتحكم في صيرورة الكون، وتارة أخرى الطبيعة تعني مبدأ لكل الأحكام المعيارية، وتلجأ للتعبير عن نفسها من خلال حقائق يتوصل إليها العقل الطبيعي الذي يكشف، حسب أفلاطون، عن الانطباعات الذهنية وخصوصياتها.

وقد يشار إلى الطبيعة على أساس كونها حتمية تفرضها قوى مادية. وتزداد هذه الإشكالية تعقيدا عندما نستحضر النظرية القائلة بموافقة مفهوم الطبيعة للحالة الطبيعية التي لا تشكل الأخلاق والقوانين الإنسانية بالنسبة لها سوى تقليد منقوص. ولذلك على الإنسان وفقا لهذا المنظور الرجوع إلى الحالة الطبيعية ليسترد ما ضاع من إنسانيته الحقة.

العقلانية ما قبل سقراط

لم تكن الساحة الفلسفية اليونانية خالية قبل سقراط، بل عرفت زخما من الأفكار يرجع إليها الفضل في إعطاء دفعة قوية للفكر اليوناني في مجالات متعددة، وخاصة منها تلك التي اهتمت بالمنهاج العلمي والتوظيف الإمبريقي أو التجريبي للملاحظة الأولية.

فبعض المصطلحات مثل الطبيعة (فيزيس) والنظام الطبيعي (كوسموس) والقانون الطبيعي (نوموس) تم استعمالها قبل سقراط، وكانت بحق آليات ضرورية ساهمت في إعطاء الانطلاقة الفعلية لبلورة الفكر الفلسفي والنظريات العلمية في بداياتها التقعيدية.

لكن النسق الأسطوري سيظل قائما لردح من الزمن، وهكذا في مرحلة سماها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بالمرحلة الكاريزمية، لم يعمد المفكرون خلالها إلى تصور نظام لشرح العالم أو تبرير وجود السلطة، لأنهم بكل بساطة وجدوا ذلك التصور في الميثولوجيا القديمة. لقد كانت المؤسسات الاجتماعية تسعى إلى التماهي مع الأنساق الطبيعية.

وعليه، فإن الملك-الكاهن كان يجسد مبدأ اندماج الأنشطة الاجتماعية في المواسم الطبيعية المتعاقبة، بحيث كان مفهوم المجتمع لا يتميز عن مفهوم الطبيعة. ويبقى السؤال مطروحا: متى حدث ذلك التحول العميق وتلك النقلة النوعية التي ظهرت العقلانية على إثرها إلى الوجود؟

يبدو أن أحد عناصر هذا التحول يكمن في بروز ما سمي ب «حضارة المدن»، ومرد ذلك إلى أنه عندما دخل المجتمع اليوناني عهد «الدولة-المدينة» بدأت الطقوس الملكية في التراجع، وبدأ النظام السياسي يتطور تدريجيا على حساب النظام الطبيعي. ومما نتج عن هذا التحول، قطيعة فكرية تمثلت في فك الارتباط بين الميثولوجيا والطبيعة. وبالتالي في فصل وظيفة الملك العمومية والقانونية عن النظام الطبيعي.

وهكذا جاء الفكر الفلسفي الجديد لقطع الحبل السري الذي كان يربط الطبيعة بالسياسة، لتصبح المدينة بعد ذلك مثارا لمناقشات وجدالات دائمة ومتجددة. وترتب عن ذلك أن أصبحت الكوزمولوجيا ترجمة للطبيعة، ولم يعد تاريخ الكون ينحصر في أسطورة إله الميثولوجيا المسمى كرونوس. وحتى آلهة الميثولوجيا نفسها أصبحت موضوعا لتصور مغاير تماما لما كان سائدا، وبدأ التفكير فيها ينحو منحى ما وراء الطبيعة، وهذه الأخيرة كانت تعتبر حركة وهي بالتالي تعنى بالضرورة وجود محرك أول لها.

وكان كل من بارمينيد وبروتاكوراس في القرن الخامس قبل الميلاد قد عبرا عن هذا الاتجاه الجديد. فالأول يرى أن الكون أبدى، في حالة استقرار، ومتصل. وأما الثاني، فإنه يعتبر الأحاسيس مصدرا لكل معارف الإنسان. وفي ذلك إشارة واضحة للصراع بين الفكر العقلاني والفكر الخرافي.

ولم يعد مفهوم المدنية ملازما للمفهوم الكوني البدائي، وذلك راجع لكون المدينة فضاء من صنع الإنسان في المقام الأول، وثانيا لأنه كان يبدو جليا أن في داخل هذا الفضاء يتحقق مصير هذا الإنسان نفسه. ومما ساعد على بلورة هذا الاتجاه النقاشات الواسعة والمثمرة التي كانت تطبع الانشغالات الفكرية آنذاك، فهي التي أدت إلى إحداث إصلاحات قام بها كليستان في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، وكلسيتان هذا يعتبر المؤسس الأول للديمقراطية الأثينية.

لقد أعطت إصلاحات كليستان الانطلاقة العلمية لمفهوم جديد تحددت في إطاره علاقة الإنسان بالمدينة. ولقد أدى تلازم فكرتي العقل والطبيعة إلى ثنائية الوجود، بمعنى أن الإنسان هو صورة للكون تتركب من عنصر غير مادي هو العقل، وآخر مادي هو الجسد. وأن الإنسان يسير جسده، كما يسير الله الطبيعة. وتبقى وحدة الكينونة متجلية في العقل: هكذا ظهر الفكر التجريدي. وعلى شاكلة النظام الكوني، فإن النظام السياسي كان يخضع في آن واحد لقوالب الفكر التجريدي النظري ولاستخلاصات الفكر المادي العلمي.

ومن نتائج تلك التحولات الفكرية أنه تم تعريف الإنسان بالاستناد إلى “مواطنته” في المقام الأول، وليس بالنظر إلى نسبه. وهوما يعني أن الروابط السياسية والاجتماعية أصبحت من ذلك الزمن فصاعدا مبنية على مبدأ المساواة القانونية، وهكذا اقتحم الفكر العقلاني مجال القانون المؤسسي، وهو إعلان صريح لبداية تراجع الفكر الغيبي الخرافي.

حدث ذلك قبل مجيء سقراط، ومما يعاب على الفكر الفلسفي الذي ساد قبله هو كونه أدى إلى ظهور مادية مبنية على التماهي بين الواقع والمحسوسات. ويرجع الفضل إلى سقراط وأفلاطون ومن تتلمذ على أيديهما في توسيع دائرة الفكر العقلاني ليشمل الأبعاد المثالية، وقد تزامنت هذه المرحلة مع فترة زاهرة من النمو الاقتصادي والفني والفكري عرفتها بلاد اليونان مباشرة بعد انتصار قواتها في معركة سلامين عام 480 قبل الميلاد.

*أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة

[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • رأي
    الأربعاء 8 ماي 2019 - 05:15

    التدرج الفكري في الفلسفة يمكن من إدراك المستتر فيصبح ماكان مسلم به حقيقة موضع شك ومن تم تبدأ الفرضيات والتحاليل التي بشكل تدريجي تمكن من التوصل نسبيا إلى القوانين التي تخضع لها الضواهر المادية والاجتماعية
    فتدريس الفلسفة لها تأثير مباشر على المتلقي فتجعل منه إنسان مفكر ومتسائل وباحث في نفس الوقت عن مسببات الاشياء فيكون أكثر عقلانية وبالتالي يصعب تطويع فكره.

  • المسعودي
    الأربعاء 8 ماي 2019 - 06:27

    و كعاشقة للفلسفة منذ الصغر اقولها بحزن :لا جدوى من الفلسفة بعد تطور العلم و بعد ان انفصلت العلوم عن الفلسفة لم يعد للمعرفة الفلسفية دور في الحياة الإنسانية بعد ظهور تعقيدات الفيزياء الكمية والحيوية التي تحتاج مجهودا اكثر من التفلسف امام فنجان شاي.
    اصبحث الفلسفة بحث عبثي لا يصل إلى نتائج نهائية ، تتعدد فيه الإجابات المتناقضة بل نظرتها الميتافيزيقية تبعدها عن الدقة الموضوعية التي يتصف بها الخطاب العلمي هذا الذي جعل أوجست كنت يعتبرها حالة من الحالات الثلاث التي حان للفكر البشري أن يتخلص منها حتى يترك للمرحلة الوضعية وهي المرحلة العلمية ذاتها . وهذا الذي دفع غوبلو يقول : ” المعرفة التي ليست معرفة علمية معرفة بل جهلا ”،على عكس العلم لا تقوم الفلسفة على امتلاك الحقيقة بل تقوم على مبدأ البحث عن الحقيقة، فامتلاكها هو نقيض للفلسفة لأنها تقوم على الشك والنقد، حيث يؤكد جون لاكروا على أن الفلسفة ترجمة فكرية لتجربة روحية. ما يمكن استنتاجه أن العلم تغلب على الفلسفة فالعلم تقدم وقدم الكثير للإنسان فيما أن الفلسفة لم تقدم الإضافة رغم عصارة ألاف السنين. و تبقى الرياضيات هي كلام الله الذي لايحرف

  • Salam Younes
    الأربعاء 8 ماي 2019 - 09:12

    Les philosophes occidentaux ont raison.
    Quant aux philosophes musulmans,ils ont totalement tort…

  • كريم
    الأربعاء 8 ماي 2019 - 19:31

    السياسة ، الفكر السياسي ، الفلسفة السياسية، العلم، الاعلام و الاقتصاد هي المجالات المهيمنة على على حياة الانسان.

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز