الدولة في "استقصا الناصري" .. "متاع سياسي" ينتقل إلى الأقوى

الدولة في "استقصا الناصري" .. "متاع سياسي" ينتقل إلى الأقوى
الخميس 30 يناير 2020 - 05:50

يعـتـبر مؤلف ابن أبي زرع “الأنيس المطرب بروض القرطاس”، وكـتـاب “الـعبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، لابـن خلـدون، وكتاب “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” لخالد الناصري، من أنضج الإنتاجات الإخبارية التي تناولت التاريخ السياسي للمغرب. غير أن “استقصا” الناصري يعتبر مع ذلك من أنضج هذه المؤلفات الثلاثة، نظرا لشموليته وطول الفترة السياسية التي يتعرض لها. علما، كما أشار إلى ذلك الناصري نفسه، أن “كتابة الاستقصا انحصرت في البداية للتأريخ لبني مرين (كشف العرين عن ليوث بني مرين) لتشمل في ما بعد التأريخ لمختلف الأسر التي حكمت المغرب”.

ولعل هذا ما جعل “استقصا” الناصري من أهم المصادر التأريخية التي يتم الاعتماد عليها من طرف الباحثين في مجالي التاريخ والسياسة، لذا سنحاول أن نتخذ هذا المؤلف نموذجا نرصد من خلاله “ميكانيزمات” المقترب الإخباري في تناوله لظاهرة الدولة في المغرب وتحديده لمسارها.

وهكذا نجد أن مؤلف الناصري يقوم على تصور عام لتطور الدولة يتحدد من خلال مرتكزين أساسيين: تداول السلطة، وزوال السلطة.

تداول السلطة

إن “اسـتـقـصا” الـناصري لا يخرج في منظوره للدولة عن المفهوم السائد المتداول في الكتابات الإخبارية. ويتلخص هذا المفهوم في “تداول السلطة بين المـتـغلبين على الحكم”، سواء كان ذلك بين عناصر من العصبية نفسها أو بين عصبيات مختلفة. وهـكـذا صـنـف الـناصـري الــدول الـتي تـعاقـبـت عـلـى حـكـم الـمـغرب وفق معيارين أساسيين: معيار كلي ومعيار خاص:

– المعيار الكلي، حيث حدد الناصري أغلب الأسر الحاكمة حسب ترتيبها في تولي الحكم، متمثلا ذلك وفق الشكل التالي:

– الدولة الإدريسية

– دول مغراوة وبني يفرن

– الدولة المرابطية

– الدولة الموحدية

– الدولة المرينية

– الدولة السعدية

– الدولة العلوية.

فذكر هذه الدول داخل “الاستقصا” أتى “كمعلمات أساسية” في التأريخ للأحداث السياسية في المغرب؛ في حين كان الناصري يعرض لبعض الدول (برغواطة وبنو مـدرار وبـنو صـالح) في معرض حديثه عن دول أخرى كانت تتنافس مع هذه الأخيرة.

وإذا حاولنا تحديد معالم المعيار الذي نهجه الناصري فـي تـصنـيـفه لهذه “الدول” سنجد أن هناك بعدين أسـاسـيـيـن كانا يـتـحـكـمـان فـيـه:

* بعد إيديولوجي يـتمثل في التركيز على الجوانب الدينية (الإسلام السني والشرف)؛ إذ إن بداية ظهور الدولة بالمغرب يرتبط بانـبـثـاق أسـرة حـاكمة سنية من آل البيت، وينتهي بأسرة حاكمة سنية من آل البيت. وبالـتالي فـ”الزمن السياسي” عـنـد الـنـاصري يتخذ بعدا دينيا وغائيا يرتبط في سياقه بمنظومة سياسية أكثر شمولية. فقد ربط الناصري بداية تاريخ المغرب السياسي بالفتوحات الإسلامية وتعاقب الولاة العرب على حكم البلد.

* بعد شكلي يـغـفـل الجوانب السوسيولوجية التي كانت تحدد العملية السياسية في المغرب. فـعلى ما يـبدو لـم يستفد الناصري من مقدمة ابن خلدون ونظريته في العصبية، مع أنه تأثر بها كثيرا.

ب – المعيار الخاص، إذ تعرض الناصري فـي تـأريـخه لـلأسر الحاكمة لمختلف الأمراء والملوك والسلاطين الذين صعدوا إلى سدة الحكم، مشيرا إلى صراعاتهم السياسية ومنجزاتهم وتعاملاتهم الداخلية والخارجية؛ كما كان يشير إلى بعض مظاهر حياتهم الخاصة، وكذا إلى الشخصيات الـتي كانت تـحيـط بـهـم، منـتـهـيا بوصف كامل لـملامح السلطان ومنـاقـبه وبـعـض الأحداث التي عرفتها فترة حكمه.

وهكذا فإذا كان مفهوم الدولة عند الناصري يـتـجـسـد فـي “الـمـدة الـزمـنـيـة لـحـكـم أسـرة مـالـكـة معينة”، التي يتم تـوزـيعـها إلـى “حـقـب سيـاسيـة” تـرتـبـط بالفـتـرة التي قضاها أي سلطان في الحكم مهما كانت قصيرة..كذكر الناصري لفترات تولي أبناء بعض السلاطين للحكم (كأبناء المنصور الذهبي أو أبناء المولى إسماعيل) حتى لو كانت مدة “دولهم” قصيرة جدا في فترات الاضطراب السياسي التي عرفها المغرب؛ أو فترات متتالية، كذكر الناصري لتولي بعض الأمراء الحكم لفترات متتالية “كالخبر عن الدولة الأولى لأمير المؤمنين المولى أبي العباس أحمد بن اسماعيل” و”الخبر عن الدولة الثانية لهذا الأخير أو الخبر عن تولى المولى عبد الله الحكم عدة مرات”.

وبالـتـالـي فـإن الــتقـطـيـع الزمـني الـذي يـخـتـرق الـمـنـظـومـة الـناصـريـة يـبـقى تقطيعا مرتبطا بالأفراد أو بالأحداث، أو ما سماه بروديل الزمن القصير. وهذا النوع من التقطيع لا يرقى بالطبع إلى رصد الظواهر الكبرى مثل إشكالية تطور الدولة بالمغرب.

زوال السلطة

شكلت الدولة عند الناصري بنية سياسية غير مستقرة تنتقل من سلطة إلى أخرى وفي الوقت نفسه كيانا عضويا يتهالك مع الزمن.

أ- انتقال السلطة

تـعـتـبر “الـدولـة” عـنـد الناصري مـوضوعا للصراع والتنافس السياسي، لذا فهي تصبح نوعا من “الـمـتـاع السياسي” ينتقل في ملكية من اسـتـطـاع الـتـغـلـب عـلـى خـصـمه، سواء كان هذا الخصم فردا أم جماعة. ويستشف ذلك على الخصوص من خلال عدة مقـتطفات تضمنها كتاب “الاستقصا”؛ فـفي مـعـرض الـحـديـث عـن “الـخبـر عن دولة زناتة من مغراوة وبني يفرن بفاس والمغرب” سرد الناصري ما يلي: “وكانـت بـيـن زيـري ويدو بن يعلى منافسات ومنازعات على الرئاسة بالمغرب، فكان يدو بن يعلى إذا غـلـب زيـري دخـل مـديـنـة فـاس واســتـولـى عـلـيها، وإذا غـلب عليه زيري أخرجه عنها وملكها”. كما نجد المنظور نفسه يتحكم في السرد التأريخي للأحداث التي أوردها الناصري، بحيث كان يطعمها باسـتـشـهـادات مـؤرخـيـن آخـريـن، فـهـو يـذكـر عـلـى لسان ابن خلدون فـي ـما يـتعلق بـ”الـخـبـر عن دولة يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس” ما يلي:

“قـال ابن خـلدون: لم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في الدولة والسلطان إلى أن طما على ملكه عباب العـبـيـديين القائمـين بافـريـقـيـة وأغـرقـه”. بالإضافة إلى ذلك، كثيرا ما يتخذ السرد التأريخي للتنافس بين “الدول” مسحة دينية وأخلاقية تقوم بالأساس على أن التغلب بينها يرجع بالأساس إلى انتشار الفساد السياسي وتجاوز الأحكام الشرعية. ويستدل على ذلك من خلال تفسير الناصري لانتصار المرابطين على دولة مغراوة حينما يقول:

“واتصل الأمن والرخاء جل أيامهم إلـى أن ضعفت أحوالهم وجاروا على رعيتهم…فلما ارتكبوا هذه العظائم سلبهم الله ملكه وغير ما بهم من نـعـمـة، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فسلط عليهم المرابطين فمحوا آثارهم من المغرب ونفوهم عنه بالكلية وطهروه من جورهم”.

ب – هرم الدولة

يـبدو أن الناصري تأثر كـثيرا بنـظـرية ابـن خـلـدون حـول نـشـأة الدول ومراحل تطورها، وخاصة ما يـتعلق بـ”الـدورة العـصبية”. فالدولة في نظر ابن خلدون “لها أعمار طبيعية كما للأشخاص… والمــقـصود بالأعمار، هنا، المراحل التي يجتازها الشخص في حياته من طفولة وشباب وشيخوخة. والدولة، مثل الشخص، تنتقل من الطفولة (طور التأسيس) إلـى الشباب (طور العظمة) إلى الشيخوخة (طور الهرم)”.

ويستشف تأثر الناصري بهذا المنظور من خلال اسـتـخدامه بعض العبارات التي تفيد بانتقال الدول من طور القوة والشباب إلى طور الضعف والهرم؛ وهكذا أشار في معرض حديثه عن ضعف دولة الأدارسة إلى ما يلي: “كان عـبـد الـرحـمن الـناصر الأموي صاحب الأندلس قد سما له أمل في التملك على المغرب الأقصى.. لما بلغه من تراجع أمر بني ادريس به وإشراف دولتهم على الهرم..”.

كـمـا نـجـد الـمـنظور الخلدوني متحكما في سرد الناصري لتعاقب الدول وتغلب بعضها على بعض، وكذا تحديده نهاياتها؛ فابن خلدون يرى أنـه في نهاية الدولة “تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تتخلص منه، ولا يكون لها منه برء، إلى أن تنقرض”. ونفس هذا المفهوم نجده عند الناصري حينما أشار إلى انتهاء دولة الأدارسة: “واستمر الحال إلى أن انقرضت دولة الأدارسة وجـاءت دولـة زنـاتـة مـن بعدها”. كما استخدم الناصري نفس المفهوم في تحدثه عن زوال دولة الموحدين، إذ كتب بهذا الصدد ما يلي:

“بـعـد مـقـتـل أبـي دبـوس، بـويـع اسـحـاق بن ابراهيم أخو المرتضى من طرف الموحدين الذين هربوا إلى تـيـنمل؛ لـكـنه قـبـض عـلـيه وجيء به إلـى السـلـطـان يـعـقـوب بـن عـبـد الحق هو وابن عمه السيد أبو سعيد ابن أبي الربـيـع ووزيـره القبائلي وأولاده فقتلوا جميعا، وانقرضت دولة بني عبد المومن من الأرض…”.

وكما حدد ابن خلدون أطوار الدولة فـي ثـلاثة أجيال، أي 120 سنة تقريبا، نجد الناصري يحدد “عمر” الـدول فـي نـفـس هـذه الـمـدة تـقـريـبا؛ فهو يقـول عن دولة مغراوة مثلا: “وكانت مدة دولتهم نحو مائة سنة”.. كـمـا كانـت “دولـتهـم، أي دولـة بـنـي العـافـيـة، مائـة وأربـعـيـن سـنـة مـن سنة خمس وثـلاثـيـن إلى سنة وأربعين وأربعمائة”.

وعموما، فرغم ما يـتـمـيـز به “اسـتقصا” الناصري مـن غـزارة فـي المعلومات التاريخية وإحاطة بكم هائل من الأحداث السياسية التي اخـتــرقـت تاريخ المغرب وحددت مساره السياسي، فإنه لا يخرج عن دائرة الاستغرافيا والسرديات الإخبارية والتأريخية.

غير أن هذا لا ينفي أن أهم ميزة يتميز بها “الاستقصا” وهي ربطه بين مختلف الحقب التاريخية التي عرفها المغرب، إذ إن تعاقب الدول وصراع الأسـر الـحـاكـمـة فـي ـما بـينها أكد على الاستمرارية السياسية لتاريخ المغرب من جهة، وكذا على ديمومة البنى السياسية التي استمرت رغم كل فترات الضعف والاختلال التي عرفها هذا البلد.

‫تعليقات الزوار

5
  • النكوري
    الخميس 30 يناير 2020 - 08:21

    ابن خلدون اعتمد حتى على مراجع لاتنية اجنبية
    و طبق نظريته العصبية فتحدث عن الشعوب و القبائل و العصبيات و ربط كل الدول بالشعوب الأمازيغية التي كانت وراءها فكان كتابه ماتعا حافلًا بالمعلومات بينما ابن ابي زرع تحدث عن مدينة فاس و قلده الناصري و بدا من حيث بدا من الادارسة و الشرفا و العروبة و نشروا هذه السردية و هي اديولوجية سياسية بحتة

  • المفيد في تناول ...
    الخميس 30 يناير 2020 - 08:51

    … الوقائع التاريخية هو مراجعتها وتحليلها بناء على ما تناسل منها من احداث وما خلفت من تأثير على معاييش الناس والمسارات التي سارت بها الامور بعدها و ما كان لها من عواقب.
    فائدة استقصا الناصري انه نقل الاخبار عن الذين سبقوه و جمعها وسردها حسب تسلسلها التاريخي كما يسهل على القارئ الالمام بها.
    اما الحقبة التي ارخ لها هو فهي حقبة الحسن الاول التي كان شاهدا عليها و مشاركا فيها.
    مقدمة بن خلدون لها قيمة معرفية لما تضمنت من تحليل وتنظير اما تاريخه
    فهو ايضا عبارة عن سرد الوقائع لم يطبق فيه قواعد المقدمة.
    و يبقى الرجوع الى المؤرخين المعاصرين للحقب التاريخية افيد.

  • saidr
    الخميس 30 يناير 2020 - 12:00

    تسقط الحضارات إذا غاب العدل والرحمة،وتبقى بالرعاية لحقوق الله بتعظيم دينه ونبيه والشيء الثاني الرعاية لحقوق العباد من عمل وتوظيف وصحة وتعليم وإكرام المرأة والثالث سعي دائم للإكتفاء الذاتي تصنيعا وإنتاجا.

  • الناصري والحداثة
    الخميس 30 يناير 2020 - 12:04

    جاء في كتاب الإستقصاء ج 9 ص 162
    (وفد على السلطان أيده الله عدة باشدورات للأجناس مثل باشدور الفرنسيس،والإصبنيول،والبرتغال،وغيرهم،وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف وإجرائهما بالمغرب كما هما بسائر بلاد المعمور، وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى، وهو والله عين الضرر وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد فأرادوا أن يجربوا هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم).
    (بابور البر هو القطار)
    هذه الواقعة التي شهد بها شاهد من أهلها والذي عاصر زمن حدوثها ، تلخص للباحث ما كان عليه حال عقول النخبة من فقهاء وأعيان وحكام البلاد وعامتها.
    انغلاق المغرب على نفسه اجتماعيا في نطاق عقيدته الدينية ورفضه مصنوعات النصارى في القرن 19 هي سبب ضعف الدولة وانهيارها في عهدي المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ ، مما أدى إلى فرض الحماية قسرا.

  • نادا
    الخميس 30 يناير 2020 - 16:04

    بالعلم المادي المحض، ينضر الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما في عصرنا الحاضر الذي جاء برؤية مغايرة لرؤية التاريخ لمن سبقوه كابن خلدون والالماني جورج هيجل. فهو ينضر لنهاية التاريخ او الانسان الاخير. ويبني افكاره على جدلية هيجل في التاريخ وعملية الرصد الدائمة بشكل دائم ومستمر عن طريق الاساليب العلمية للمراقبة المستمرة ب الاحصاء الرياضي المستمر واالتنبؤ بعلم الاحتمالات وتقويم دائم بطريقة رجعية Retroactive دائمة وابدية تجعل من الحضارات المبنية على مبادئها صعب ان تتم شيخوختها وانهيارها فهي في نضره متشببة على الدوام وتغترف من اكسير الخلود بعد كل خفقة او اضضراب. لكن بالمنظور، الرباتي تبقى يد الله فوق الجميع، والتوفيق والحكمة الربانية و تبقى كلمة الله هي العليا، ولا خير دليل على ذلك تهاوي الطائرات من السموات بالرغم الرصد والمراقبة و..و فكل شيء يجري بمشيئة الله عز وجل.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات