الإعلامي محمد نبيل : استقلالية الصحف المغربية مفهوم فيه نظر

الإعلامي محمد نبيل : استقلالية الصحف المغربية مفهوم فيه نظر
الأربعاء 12 ماي 2010 - 21:02

عمل الصحافي والسينمائي محمد نبيل أستاذا للفلسفة في المغرب سنوات عدة، كما شغل منصب رئيس تحرير جريدة جهوية، “أصداء سيدي قاسم” قبل أن يرحل عام 2001 إلى كندا حيث درس الصحافة والسينما والعلوم السياسية، كما اشتغل في صحف وإذاعات كندية.

وقبل مغادرته للديار الكندية، سيخرج محمد نبيل، أول عمل سينمائي قصير له في مونتريال، نهاية عام 2005. وفي عام 2006 سينتقل إلى ألمانيا، ويعمل كمراسل صحافي لقناة “فرانس24” و البي بي سي البريطانية، كما سيعمل أيضا مراسلا لمجموعة من القنوات العربية، قبل أن يشد الرحال إلى موسكو، ويعمل ما بين 2007 و2008 في قناة “روسيا اليوم”. شغل في الفترة ذاتها مراسلا لجريدة “الصباح” المغربية، وكذا مراسلا لمجموع من المنابر الإعلامية الدولية.

يستقر محمد نبيل حاليا في العاصمة الألمانية برلين. و إلى جانب عمله كصحافي، و باحث مع مؤسسات علمية دولية، يقوم محمد نبيل، بإنتاج الأفلام الوثائقية، حيث أخرج مؤخرا أول فيلم وثائقي له تحت عنوان “أحلام نساء”، و الذي عرضته قنوات أوروبية، وهو عبارة عن قصة أحلام ثلاث نساء ألمانيات اعتنقن الإسلام، و هو منكب حاليا على إنتاج فيلمه الوثائقي الثاني الذي سيصوره بالمغرب قريبا.

في البداية، نطرح عليك سؤالا حول مسارك المهني، أنت عملت في الصحافة المغربية، كما عملت في الصحافة الدولية، في كل من كندا وألمانيا وروسيا، فما أوجه الاختلاف بين هذه التجارب في رأيك؟

كما تعلم، حقل الصحافة يتكون من مدارس، و توجهات، بالرغم من التقاطعات التي يمكن أن تقع بين مدرسة صحفية و أخرى. ومساري المهني بدأ حينما درست الصحافة والتواصل في الجامعات الكندية، بعد تجربة مغربية طبعها تضخم في الحلم، وكانت فعلا تحتاج إلى أفق جديد وعمق علمي ومهني. العمل الصحفي في بلدان الغرب المتقدم، أتاح لي الفرصة كي أتعرف على خبايا الخبر والتعليق، وبالضبط، كيف يصنع الرأي، والصور التي نداولها بيننا كل يوم. الدارسون للصحافة وتاريخها، كتخصص علمي، يعرفون أنها مرت بمراحل تاريخية عدة، وولدت وترعرعت في أوروبا وأمريكا. وكما سبق و أن قلت في نصوص مختلفة، إن الصحافة تعني فعل صحَّف، يعني أخطأ في قراءة الكلمة، وحرفها عن وضعها. أما الصحفي والصحافي، فالفرق والتماهي بينهما، يظل حاضرا باستمرار في الممارسة اليومية. الصحافي يعني المُخبر في القرن السابع عشر Le gazetier، هذا المعنى قد تغير في القرن التاسع عشر، وأصبح الصحافي هو المجادل والمناظر بالكتابةLe polémiste، قبل أن يصبح المفهوم في القرن العشرين يعني الصحافي الذي يعمل كمراسل مهني. الارتباط بتجارب صحفية غربية، أفادني في فهم منطق اللعبة الصحفية من الداخل، وجعلني أتريث كثيرا، وأدقق في عدد من الظواهر والممارسات التي كانت بالنسبة لي في التجربة المغربية بديهية..

هل لك أن تقدم لنا مثالا على ذلك؟

الصحافة الحزبية في التجربة المغربية، كانت بمثابة واقع ملموس فرضته أسباب وشروط تاريخية معينة، وهو ما عاينته منذ عقد من الزمن، حالة خلقت تراكمات معينة، وكشفت عن العديد من العيوب في هذه التجربة، لكن في كندا مثلا أو ألمانيا حيث أقيم حاليا، فالتجربة الصحفية تأخذ مسارا ولونا آخر. الصحافة الحزبية هي صحافة متحيزة وغير موضوعية بالمنطق الكندي أو الألماني، وهي غير منتشرة بكثرة، أو تكاد تكون غير موجودة، إلا كمنابر ونشرات داخلية لبعض الأحزاب، والسبب هو أن مفهوم ودلالات الصحافة والصحافي، يختلف في هذه البلدان، التي يراقب فيها المواطن الصحافة، والعكس صحيح. هذا الأمر، لا يخرج عن منطق المؤسسة الصحفية، وهي جزء لا يتجزأ من مجمل المؤسسات، المشكلة للبنية الاجتماعية في هذه البلدان، التي قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال. هذا التقابل بين تجارب عربية أو مغربية، وتجارب الغرب المتقدم، تعد مفيدة، وتقدم حسا نقديا لمن يطلع عليها، فالصحافي ليس ناقلا للخبر (هذا يعد في نظري عملا تقنيا) بقدر ما هو يساهم في بناء الرأي المتعدد والفكر الإنساني الحي. والصحافة كمهنة لا تمارس إلا في مملكة الديمقراطية والحرية المسؤولة.

في سياق التجربة الصحفية المغربية، هل يمكن في نظرك، الحديث عن وجود مؤسسات صحفية، أم أن الأمر مرتبط بأشخاص لهم صحف؟

تاريخ المؤسسة في بلدان الغرب المتقدم، يشهد على مراحل، وكفاحات، ونضالات، وثورات فكرية ودينية واجتماعية وثقافية. فالصحيفة مثلا، هي وليدة الرغبة والنضال من أجل التعبير، وقداسة الحق هي نتاج فكر وفلسفة حقوقية ذات دلالات عميقة في أوروبا، وبالتالي، القول بوجود “مؤسسات صحفية” في المغرب، يعد مسألة فيها نظر، وجدل، وأتعامل معها بنوع من الحيطة، والحذر العلميين. والنظر العقلي يحتم علي أن أوضح، أن المؤسسة ليست هي مجرد بناية، وإمكانيات مادية، ومحاسبة ومداخيل و مصاريف وغيرها… ليست المؤسسة مجرد عالم من المال والأعمال، وحساب منطق الربح والخسارة، بل هي عقلية وفلسفة اجتماعية، وتراكم تاريخي دال، والمغرب “كمؤسسات إعلامية” أو غيرها ما زال في البداية، لأن البنية الاجتماعية المغربية المركبة، ومؤشرات المغرب الراهن تؤكد أن الطريق طويل أمام المجتمع المغربي والعرب بشكل عام من أجل التقدم والتنمية، أما الدراسات والأرقام، ولغة الواقع اليومي الملاحظ، يبين أن الهوة بين المتقدم في الغرب والعرب تزداد كل ساعة. “إنه القحط بلغة “عبد الرحمن منيف”، “ففي مواسم القحط تتغير الحياة والأشياء، وحتى البشر يتغيرون، وطباعهم تتغير“.

إن نسبة القراءة الضئيلة، وانتشار الفقر والأمية الأبجدية، والتراجع السياسي والاجتماعي، وعوامل أخرى، تساهم بالفعل، في تعطيل عملية تطور الفعل الصحفي المهني الحديث والمعاصر. لغة الفشل المجتمعي المغربي والعربي بشكل عام، تحتاج إلى وقفات، لفهم ما يقع و ترقب ما سيقع ..

هل تعاني الصحافة المغربية من ضعف التكوين الذي يمكن أن يفرز لنا الصحفي المحترف أم من عدم وجود المؤسسات الصحفية المحترفة؟

الجواب على هذا السؤال يفترض طرحين: الأول، هو أن المغرب ليس وحده من يعاني من غياب التكوين الصحفي المهني، بل كل البلدان العربية التي ما زالت تتخبط في إشكالات التنمية، والتي فشلت في هذه المهمة لحد الساعة، بالرغم من استقلالها منذ أكثر من نصف قرن. الطرح الثاني، هو أنه في الوقت ذاته، لا يقدر التكوين الصحفي لوحده على صناعة أو تكوين صحافيين مهنيين، فالقضية في المغرب ترتبط بنظام وبنية اجتماعية، فيها أزمة معرفة وقراءة وتربية وتعليم وغيرها..، ولذلك فالتكوين المهني مثلا، الذي تقوم به البلدان الغربية المتقدمة ككندا، يأتي بعد التكوين المعرفي، والأكاديمي للدارس أو الطالب.. الصحافي لا يفهم فقط في صناعة الخبر وتحريره، فهذا عمل تقني كما قلت سابقا، بل يحتاج إلى عدة معرفية وثقافية و فكرية. المغرب ما زال يكرر إشكالاته، وخطاباته عن الأزمة التربوية والتعليمية، منذ أكثر من نصف قرن، في وقت دخلت مجتمعات متقدمة في مرحلة جديدة من الأزمات التربوية والتعليمية. الصحافي المهني هو نتاج بنية اجتماعية تكون فيها المعرفة والثقافة، أمرا مقدسا، وفلسفة اجتماعية، تجمع بين الحق و الواجب، وتعبر عن لغة المواطنة.

لنتحدث عن تجربة محمد نبيل في الصحافة الدولية، وخصوصا حينما عملت بقناة “روسيا اليوم”، وكنت في ذات الوقت مراسلا لجريدة “الصباح” المغربية من موسكو، حينها، تلقيت مضايقات غير مباشرة بفعل كتاباتك . حدثنا عن نوعية هذه المضايقات وكيف كانت؟

هي حكاية من بين عشرات الحكايات التي مرت كمرور السحاب، وتتلخص في ما حصل عندما اكتشفت خبر اعتداء على طالب مغربي على يد حليقي الرؤوس في موسكو، وتطرقت إلى ظاهرة الهجرة السرية وما تحمله من “استغلال للعمال المغاربة من طرف إخوانهم المغاربة” ..الخ . بطبيعة الحال، الوضع لم يرق البعض والعديد من الجهات، التي حاولت الضغط أو الطعن من الخلف، لتزييف الحقائق.. هؤلاء تناسوا وجود الانترنيت، وشبكة المعلومات، والثورة الحاصلة في مجال نشر المعلومة، فتبخرت أحلامهم، وأخذت الأمور مع الوقت مسارها الطبيعي ..

الصحافي الذي يخرج الكلمة إلى العلن، ويفصح عنها، لأنها ترتبط بقداسة الحقيقة، بما تحمل هذه الحقيقة من نسبية، وبدور الحرف التربوي والتثقيفي، لابد له من مواجهة بعض الصعوبات والإكراهات. وهنا أود أن أشير، أنه لم أكن في تاريخي المتواضع، أتنازل لأي كان، لخدمة “الصحافة الدعائية” التي تتناقض كليا مع منطق الصحافة الحي، وجوهر عملها، وخطابها التنويري، كما أن هذا الأمر فيه تعارض، وتناقض مطلق، مع ما درسته في الجامعات الكندية عن جوهر العمل الصحفي، و ما تعرفت عليه في بلاد الفلسفة: ألمانيا.

العمل الصحفي قد يعني، التفاوض والحيلة والبحث عن الخبر وصناعة الرأي، لكنه يعني كذلك، المهنة النبيلة، والأخلاق الإنسانية، وليس التزييف الواضح للوقائع والأخبار. عملي وتجربتي القصيرة في روسيا كانت جيدة، بالرغم من كل شيء، لقد جعلتني أتعرف على ثقافة هذا البلد وجماله الساحر، ونوع العقلية الروسية، وتاريخ هذا المجتمع الذي لا يرتبط فقط بالإقطاع وستالين، بل كذلك بفكر تولستوي، وغورغي، الذي تغير اسم الشارع الذي أطلق عليه إلى اسم آخر، لظروف تاريخية معينة. لقد اكتشفت أيضا، إلى أين يسير الإعلام العربي، الذي انتشر فيه التسيب بكل أنواعه، حتى صارت الصحافة والصحافي في العديد من الأوساط الشعبية مجرد نكتة …فكل المهن لها ضوابط علمية، وقانونية و أخلاقية، إلا الصحافة في البلدان العربية، أو تلك الناطقة باللغة العربية. لا يمكن لأي كان أن يمارس الطب، لكن يمكن لأي كان أن يتحول بقدرة قادر إلى صحافي..

لابد من القول، في هذا السياق، إن مهمة الصحافي صعبة ومليئة بالعقبات، وخاصة عندما يواجه أسئلة جوهرية من قبيل: ماذا يجب علي أن أنقل؟ وكيف سأعرض الخبر؟ عملية الانتقاء في الممارسة الصحفية اليومية مسألة ضرورية، مشروطة بطبيعة المؤسسة الإعلامية حيث يعمل الصحافي، وأهدافها و أولوياتها، والأمر كذلك متعلق بحنكة وموهبة وتوازن الصحافي، لكن العملية تظل دوما مفعمة بالمزالق والهفوات. الصحافي يمارس مهنته في مؤسسة إعلامية، ترتبط بخصوصية وأولويات معينة، تختزل في ما يطلق عليه المحللون وخبراء الإعلام بـ AGENDA SETTING، وهي عبارة عن مفهوم وخطاطة ترسم أدوار المؤسسة الإعلامية وتوجه عملها المهني، ومن خلالها يتم توجيه الرأي العام نحو قضايا وأخبار معينة دون غيرها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، التلفزيون الفرنسي لا يبدي اهتماما إعلاميا بحدث سياسي وقع في إحدى الولايات الكندية، لكن نجد مؤسسات إعلامية أمريكية تركز على نفس الحدث. هذا الأسلوب الانتقائي يخضع لمنطق الأجندة الإعلامية، وهي ترتبط بدورها بمصالح سياسية واقتصادية واجتماعية، وبمجموعات الضغط، وكذلك بالجماهير المتلقية، والمستهلكة للأخبار اليومية، وغيرها من العوامل التي تؤسس الحقل الصحفي والإعلامي برمته.

على ذكر المضايقات التي يتعرض لها الصحافي، كيف ترى الاحتكاك الحاد الحاصل بين الدولة والصحافة المستقلة بالمغرب؟

أولا دعني أوضح شيئا مهما، مفهوم الاستقلالية في الصحافة المغربية، لا يزال غامضا من حيث التعريف. والسؤال المطروح هو ما إذا ما كانت “الاستقلالية” تعني الاستقلالية عن الدولة، والأحزاب السياسية، ورأس المال، أو عن جميع هذه الأطراف. الصحافة المستقلة مفهوم فيه نظر. أما عن الاحتكاك والصراع هو تعبير عن الحالة المغربية الراهنة، التي أسميها الضياع أو الالتباس في التنظير والممارسة.. الصحافة لا تنفصل عن الفضاء المغربي العام، وهي جزء من المجتمع، ذي الطبيعة المركبة، حسب رأي عالم الاجتماع “بول باسكون”. إن وسائل الإعلام المغربية، ما زالت تواجه بعض التحديات الصعبة، ويجب أن تبقى دائما تراقب على حد سواء، القضايا السياسية العامة والشعبية، لأن هناك علاقة تربط بين السياسيين والمواطنين، ولها مهمة المساهمة في الحكم على نجاح أو فشل البرامج والاستراتيجيات. لكن، هذه المهمة تبدو شبه مستحيلة، في ظل هشاشة البناء المؤسساتي، وغياب تأطير قانوني وأخلاقي ومهني للعمل الصحفي. إن الصراع يعبر عن حالة من الاختناق المجتمعي.

ومع أن وسائل الإعلام المغربية هي في تحسن في ما يخص بعض الجوانب الفنية والتحريرية، فإن الافتقار إلى الكفاءة المهنية ما لا يزال سائدا، أما المبادئ الأخلاقية فإنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ. صياغة التقارير الصحفية رديئة مع بعض الاستثناءات، والجهل بطبيعة الأجناس الصحفية، والخلط اللغوي الذي ينتج اللبس والوهم في عقول الناس، أما إنجاز التحقيقات الصحفية مثلا، فما زال ضعيفا. وإضافة إلى ذلك، فالعديد من المغاربة هم من الفقراء أيضا، ولا يستطيعون شراء الصحف (سعر صحيفة واحدة يساوي شراء قطعتين من الخبز). والعديد من المغاربة، ولا سيما في المناطق الريفية، أميون. نسبة استخدام الانترنت لا تزال منخفضة، بسبب الأمية والفقر. أما شراء جهاز الكمبيوتر أو الدخول إلى مقهى الانترنت، فهو أمر يتجاوز القدرات الشرائية لأكثر من ثلاثة أرباع السكان.

الإعلام المغربي هو جزء من بنية المجتمع المغربي، ويرتبط بإمكانية تأسيس مشاريع سياسية واجتماعية واضحة. وبالموازاة مع ذلك، فإن الحاجة ملحة إلى تدريب الصحفيين، ومهنيي وسائل الإعلام، إذا كنا نريد إعلاما مهنيا وإنسانيا، يعبر عن تنوع المغاربة وتطلعاتهم نحو التقدم. إن وسائل الإعلام، والصحافة على الخصوص، يمكن لها إلى حد كبير، المساهمة بمسؤولية ونزاهة ودقة واتزان، في المناقشات العامة، ويمكن أن تسهم في بناء مجتمع متسامح، كما يمكن أن تكون بمثابة جسر بدل جدار، يفصل الآراء المختلفة والتجمعات المحلية، فالصحافي يظل شاهدا على الماضي و الحاضر.

بالإضافة إلى كونك صحفي فأنت مخرج للأفلام التسجيلية، فقد أنتجت الفيلم التسجيلي “أحلام نساء”، وهو الفيلم الذي يثير قضية اعتناق نساء ألمانيات للإسلام، حدثنا عن هذه التجربة وردود الفعل بعد عرضه من طرف القنوات الأوروبية؟

إن إنتاج الفيلم التسجيلي “أحلام نساء” جاء بناء على بحث قمت به حول موضوع اعتناق الإسلام في أوروبا عموما، وألمانيا خصوصا، وبما أنني – إثر عودتي من روسيا – أسست شركة للإنتاج السينمائي والصحفي في برلين، (MIA PARADIES PRODUCTIONS)، كان هذا العمل التوثيقي، باكورة المؤسسة الأولى.

وكما قلت في حوارات سابقة، هذا العمل التسجيلي، لا يحمل دعاية للإسلام في ألمانيا، ولكن أردت من خلاله أن أقدم تجربة إنسانية لثلاث نساء ألمانيات، لهن أحلام وآهات وطموحات، وأفكار وتأويلات، ولهن قراءاتهن الخاصة للدين. هذه القراءات التي عكسها الشريط بطريقة سينمائية، تترك للجمهور الانطباع بأن الاختزال، هو في لحظة من اللحظات يصبح خطأ، وجرما في حق أي دين من الأديان.

إن اهتمامي بمسألة اعتناق النساء الألمانيات للإسلام، نابع من أهمية القضايا النسائية، التي لا تحظى بالاهتمام سواء في العالم العربي والإسلامي أو في أوروبا. الكثير من هذه القضايا تظل على الهامش، حتى ولو تعلق الأمر بالمجتمعات الديمقراطية والليبرالية كألمانيا، لأن حتى هذه المجتمعات المتقدمة، لها كذلك هوامشها الخاصة بها، وأنا أفضل العمل على هذه الهوامش.

فيلم “أحلام نساء” يحاول تسليط الضوء من خلال شخصياته على واقع المسلمين في ألمانيا. وفي هذا الإطار استعنت بمتخصصين في مجال الإسلاميات، كالمستشرق المعروف “بيتر هاينه”، ورئيس مركز حقوق الإنسان سابقا، في برلين “د. بيلفيلد”. وحسب دراسة مفصلة لهذا المركز، تبدو “صورة الإسلام والمسلمين في ألمانيا سلبية بشكل عام، و الإعلام الألماني يساهم في تكريسها”. إلا أنني في الفيلم تطرقت لهذه النقطة، ووضحت من خلال تدخلات الباحثين والمختصين، أن الإعلام ليس وحده المسئول على تكريس الصورة النمطية، والأحكام المسبقة حول الإسلام والمسلمين، لأن الإعلام ليس هو الفاعل الوحيد الموجود في الساحة الألمانية، إنه جزء من المجتمع الألماني، يتفاعل معه ويعبر باسمه.

“أحلام نساء” الذي صورت أحداثه في العاصمة الألمانية برلين، تم عرضه مرتين، في القناة الهولندية إن آي أو/ NIO، كما سيعرض في مهرجانات عدة في المغرب و غيرها. و لحد الساعة تلقى الجمهور هذا الفيلم بنوع من الارتياح، بالرغم من أنني أبحث دوما عن الهفوات، والمزالق التي يجب تفاديها في الأفلام المقبلة. “أحلام نساء” يشكل حلقة من حلقات أفلام تهم المرأة بشكل عام، يتبعها قريبا تصوير فيلم جديد في المغرب، من إنتاج نفس مؤسسة الإنتاج.

هل يمكن أن تحدثنا عن هذا الفيلم الذي ستصور في الأسابيع القادمة بالمغرب؟

الفيلم الجديد يتطرق إلى ظاهرة الأمهات العازبات في المغرب، وهو عبارة عن سيرتين ذاتيتين، يمكن من خلالهما تسليط الضوء على هذه الظاهرة، وفحصها و تحليلها، بعيون مختصين وفاعلين في المجال، من كل المجالات. العمل السينمائي الجديد، يتوخى رصد ما هو إنساني ولا إنساني في الظاهرة الاجتماعية، التي تحمل من المسكوت عنه ما يكفي، وتطرح قضايا مهمة تواجه كل فئات المجتمع المغربي. وسيتم تصوير الفيلم في مدن مغربية عدة.

من المعلوم أن محمد نبيل من أبناء مدينة سيدي قاسم، ماذا بقي في القلب من ذكريات لهذه المدينة؟

سؤالك جميل، وتفوح منه رائحة الذاكرة والاغتراب. لم أكن أواجه سؤال الهوية القاتل، والنابض بالحياة، عندما كنت في المغرب، كما أواجهه اليوم، ومنذ أكثر من عشر سنوات. منذ أن غادرت المغرب، دفعتني الهجرة والاحتكاك بمجتمعات في أمريكا وأوروبا، للتساؤل، وفي السؤال حكمة وجمال، شك ومغامرة، و محاولة ضرورية لإعادة تأسيس الذات. سيدي قاسم هي البلدة، التي ولدت وترعرعت فيها، تسكنني بالتأكيد كما أسكنها، فقد درست فيها وعملت بين أسوارها المفتوحة والمغلقة. سيدي قاسم هي الطفولة التي أعود إليها، هي أخطائي التي أحبها، هي الأنا والغير، هي نقطة عبور أساسية نحو المجهول والمعلوم من فضاءات مختلفة، في مغربنا الجميل والقبيح. لست من دعاة الأصل الواحد والخالص، ووهم العودة، والهويات القاتلة، بلغة أمين معلوف. هويتي أضحت شيئا فشيئا إنسانية، بالمعنى الشمولي للكلمة، فهي تتوخى الكلي الذي يتأسس على الخاص والذاتي. فأنا من مواليد سيدي قاسم، لكن مخضرم بامتياز، جذوري الضاربة في عمق التاريخ العائلي والثقافي المغربي، عربية، وأمازيغية متوسطية وافريقية وصحراوية .. انتماءاتي متعددة الألوان، ترتبط بكندا الفرنكوفونية والأنغلوسكسونية، وبألمانيا التي اكتشفتها في المغرب، وأنا أدرس و أُدَرّس نصوص الفلاسفة، هي بدورها تسكنني وأسكنها. فسيفساء هوياتي عجيب وخلاب، أفتخر به ، وانطلق من بلدة اختنقت بما فيه الكفاية، وزاغ ركبها عن سكته، وهي تحاول إعادة أنفاسها، وتبحث عن حلمها المفقود. ما زالت ذكريات “غابة الشباب” التي انقرضت، وانقرض معها ربيع شباب المنطقة، وغابة البلدة التي تنقرض اليوم، و “دار الشباب” التي أضحت مهجورة، فكان الإحباط الذي دب في نفوس كثيرة .. كلها جروح ما زالت لابدة في ذهني، وترافقني في غربتي في برلين، واسبانيا و كندا .. مازالت خطواتي القبيحة والجميلة، هي التي تنتج محمد نبيل كل يوم، بشكل متجدد، وتعطيه طاقة متجددة للعيش، ونفسا مغايرا في الوجود، في عالم يتراجع فيه الحس الإنساني، ويحل محله منطق البيع والشراء في الإنسان الذي أصبح رخيصا، ومجرد شيء ما في هذا العالم. الشجرة هي منتصبة، جذورها في فضاءات سيدي قاسم ومراكش وفاس ومولاي إدريس زرهون ومكناس وفي أرجاء رحبة من المغرب، وأغصانها المتفرعة هي حاضرة هناك في كندا وألمانيا وروسيا و هولندا وفي بلدان أوروبية عدة.

ومن هناك، انطلقت رحلتي، لتستمر غربتي، والغريب في قول “أبو حيان التوحيدي”، هو “من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وغزاله، وأغرب في أقواله وأفعاله، وغرب في إدباره وإقباله(..) يا هذا الغريب، من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه“.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • Citoyenne
    الأربعاء 12 ماي 2010 - 21:10

    M.Nabil est un homme intellectuel, intelligent, sait jongler avec les mots, journaliste de haute gamme
    ce t homme, mérite notre reconnaissance et la reconnaissance comme compétance marocaine. les autorités doivent le soutenir pour qu il puisse realiser ces films qui traitent les probl`mes de la migration
    il faut le soutenir

  • عبد الحفيظ علوي
    الأربعاء 12 ماي 2010 - 21:04

    تعجز الكلمات عن وصف السيد محمد نبيل، أنا أعتبر هذا الشخص بمثابة مرجع قوي وزاخر في مجال الصحافة كما أ رى فيه رمزا حيا للطموح و النشاط ، هذا الأستاذ الجليل جاء لألمانيا فقط قبل سنتين أو ثلاث سنوات واستطاع خلال هذا الضرف الوجيز أن يعرف الرأي العام الغربي بجزء من حقيقة ثقافتنا الإسلامية ويقف بالتالي في وجه الصور النمطية التي يروجها اإعلام الغربي حول الإسلام والمسلمين. أتمنى أن يستفيد الإعلاميون المغاربة من هذه التجربة وأن يسخروا جهدهم لخدمة قضايا مهمة بدل تضييع الوقت في حزازات بات الرأي العام في غنى عنها.

  • الجرتل مان
    الأربعاء 12 ماي 2010 - 21:06

    رجل مثقف وضاحك والله يعمرها دار..

  • saad
    الأربعاء 12 ماي 2010 - 21:08

    كل هذه الأوصاف لهذا الصحافي، فماذ تركنا لرشيد نيني، الذي تحول في بضعة سنوات إلى نجم الصحافة المكتوبة في المغرب، رغم أنه لم يشتغل في أي صحافة أجنبية، فهو ولد البلاد مائة في المائة. رشيد نيني، مهما قيل عنه، فهو الذي يكتب عمودا واحدا يمكن أن يقلب الدنيا في المغرب، أما تكون صحافيا أو مراسلا لجهة أجنبية، فذلك وسيلة لربح المال، وليس لربح القراء.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة